حين كنا في مخيم اليرموك، كان الإحساس مختلفاً وعذباً حين يأتي صوت السيدة أم كلثوم: من سطح الجيران.. من بائع الفلافل ليلاً في طرف الشارع.. من جماعة سهرانة هناك في الحارة البعيدة.. من رجل وحيد سهران لوحده.. ومن شوارع المخيم المزدحمة ليلة العيد والسيدة تغني “الليلة عيد عالدنيا سعيد…”، فيخلتط صوتها مع صوت الباعة، والأطفال، والنساء وصخب العيد الجميل..
في سجن عسقلان، كنا نسمع السيدة كوكب الشرق كل يوم مساءً في الموعد ذاته، في الساعة الرابعة، الإدارة تفتح الراديو ونحن نسمع الأغنية في الغرف من سماعة في أعلى الجدار..
المدخنون منا كانوا يبقون سجائرهم لتلك الساعة، ساعة أم كلثوم، يسيرون في الغرفة ذهاباً وإياباً، ينفثون أحزانهم وأشواقهم وأحلامهم مع الدخان..
في تلك الساعة كنا نسمع السيدة ونسرح، نشرد إلى البعيد، والحزن على وجوهنا وفي أعماق عيوننا.
.. ما أقسى حرمان السجين.. ما أشد حزن السجين.. وما أبعد شرود السجين.
.. دائماً ننجذب إلى صوت ياتي من بعيد.
من دقة على الجدار من الزنزانة المجاورة، من نداء نطلقه من حقل الزيتون إلى الأم كي تجلب الشاي والزوادة، من صوت آذان الفجر المتدثر بالعتمة والسكون حين ترسله إلى السماء مآذن المدينة، وحين يشدنا صوت الرعد وهو يتفجر في أعلى السماء ليستقر في قلوبنا…
بعد أن أصابني رصاص الصهاينة في فمي ورقبتي وقدمي في الخليل في 5 حزيران يونيو 1969، وأنا بين الصحو واليقظة في مستشفى عالية، أول صوت أسمعه كان صوت أمي:
“معلش يما.. المهم إنك عايش ”
وبعد خروجي من السجن، كان أول صوت لمغنٍ جذبني وسحرني هو صوت المغني الإسباني خوليو إغليسياس Julio Iglesias ، سمعته في الطائرة المتجهة إلى رومانيا، وأنا ذاهب لرحلة علاجية طويلة. بعد ذلك، وحتى الآن، دأبت على سماع خوليو كثيراً، وخاصة أغنيتي المفضلة: Nostalgie (الحنين)
.. دائماً يأخذنا بعيد ما.
تأخذنا ذكرى بعيدة، يأخذنا شوق ما فيُلقى القبض علينا متلبسين بالحنين، أو يأخذنا أمل ما، نأمل أن يتنزل علينا لينشلنا من مأزق أو هاوية..
.. دائماً يأسرنا البعيد.
أعاف ما تملكه يدي
وأسبح في شوق البعيد