الـطـوفـان ومـا بـعـده
يختلف استشراف السياسة من اتجاه فكري الى آخر لكن الوقائع والنتائج تساعد في تبيان صحة أو خطأ التقديرات، واقترابها أو ابتعادها عما يجري على أرض الواقع.
بعد مرور عام على طوفان الأقصى وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة وحرب تصفية المقاومة في شمال الضفة، تبين أن الهوة ما زالت على حالها بين التقدير المتحمس لطوفان الأقصى والتقدير المتخوف منه ومن نتائجه.
وبدا أن المتحمسين ازدادوا حماساً، وأن المتخوفين ازدادوا خوفاً، ما يعكس البون الشاسع الفاصل بين الرؤيتين اللتين تعتبر كل واحدة منهما أنها تساهم في الإنقاذ والخروج من المأزق.
كان من اللافت غياب المحاججة والسجال الذي يعترف بالأخطاء ويساهم في التراجع عنها وفي تخفيف معاناة ملايين الفلسطينيين أولاً وقبل كل شيء.
هذا المقال سيناقش رأيين، الأول رأي – د. غانية ملحيس، بعنوان «استحضار التاريخ لفهم حاضر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واستشراف مستقبله وسبل حله» نشر بتاريخ 2 تشرين الثاني.
والرأي الثاني للمفكر منير شفيق بعنوان «هل كان قرار السنوار صائباً» نشر بتاريخ 8 تشرين الأول. الرأيان يعولان على الطوفان وما بعده.
تقول ملحيس: «شكلت موقعة طوفان الأقصى مرحلة تأسيسية مفصلية لوقف تقدم المشروع الصهيوني الاستعماري الغربي العنصري، لأول مرة يسبق الفعل المقاوم ويستعيد زمام المبادرة كان الطوفان محاولة استباقية جسورة ضرورية لعكس مسار الصراع الوجودي الفلسطيني – الإسرائيلي ولتقليص الكلفة المستقبلية لهزيمة التحالف الاستعماري عبر هز الأساسات البنيوية للمستعمرة الصهيونية في فلسطين لتقويض دورها الخاص اليهودي ودورها العام الوظيفي الإمبريالي».
ويرى شفيق أن الوضع كان مأزوماً للغاية قبل 7 تشرين الأول فقد دخل جيش الاحتلال في مرحلة تصفية المقاومة في الضفة وفرض تقاسم المسجد الأقصى في القدس، وجاءت عملية الطوفان في لحظتها الحاسمة» ويضيف: «أثبتت قيادة الطوفان أنها في تحضيرها لمواجهة ما يتوقع من حرب عدوان تستهدف القضاء على المقاومة وتركيع غزة كانت على أعلى مستوى. وكانت النتيجة العسكرية طوال 12 شهراً هزيمة عسكرية فاضحة للجيش الرابع عالمياً. والخلاصة أن انتصار المقاومة بقيادة السنوار وصمود الشعب شكل ملحمة مقاومة تاريخية في الطريق إلى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر».
يتفق الكاتبان على وجود خطر وجودي نابع من صراع وجودي فلسطيني / إسرائيلي يستبعد بالمطلق إمكانية الحل والتسوية، وإن وجدت التسوية فهي قد تكون لفترة زمنية محددة. الصراع الوجودي والحسم الوجودي هو أساس البناء الفكري السياسي للصراع، وهو موجود في الخندق الآخر والمعبر عنه في برنامج حكومة نتنياهو – بن غفير وفي قانون القومية الذي يتعامل مع أرض فلسطين التاريخية – أرض ميعاد وهبها الله لليهود – وهي حق حصري لليهود دون سواهم.
في صراع وجودي أيديولوجي تكون الغلبة للأقوى لا سيما أن المشروع المعادي كما تعرفه د. غانية هو مشروع استعماري صهيوني أميركي غربي – وهذا يعني أنه يضم أعتى الإمبرياليات بترساناتها النووية وبأحدث أسلحتها وبأقوى اقتصاد عالمي.
عندما يبادر الطرف الأضعف في حرب وجودية هدفها هزيمة الطرف الأقوى، ليس من الصعب التنبؤ بالنتيجة.
طوفان الأقصى وضعت هدفاً لها هو هزيمة المشروع الاستعماري ودعت كل أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس ومناطق الـ 48 وساحات المقاومة بقيادة إيران وجميع الشعوب العربية للمشاركة في الطوفان، الذي قالت فيه قيادة حماس بعد عام من حرب الإبادة إنه معركة فاصلة لطرد آخر صهيوني، ورأت فيه ملحيس أنه أطلق مسيرة تحررية لا رجعة فيها لتصويب اعوجاج مسار التاريخ النابع من إدراك يقيني تتعذر معه إمكانية حل الصراع سلمياً.
لماذا ينفرد هذا النوع من التفكير في قراءة غير واقعية لميزان قوى الحرب التي أراد طرفاها أن تكون وجودية وتحسم بالقوة. مع أن كل دول العالم ما عدا إيران أوجدت حلاً نظرياً لهذا الصراع بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل؛ حلاً لا شك فيه ظلم تاريخي لأنه تعامل مع حقوق فلسطينية منقوصة منسوباً لأول قرار أممي رقم 181 قرار التقسيم.
ورغم ذلك قبل المجلس الوطني والمركزي واللجان التنفيذية بالحل الدولي. مقابل ذلك رفض معسكر اليمين القومي الديني الإسرائيلي الاعتراف بالحقوق الفلسطينية المعرفة دولياً ومضى في تقويض مقومات الحل، وتحديداً مقومات الدولة الفلسطينية على الأرض، وحول الشرعية الدولية وقراراتها وحلولها والقوى الفلسطينية التي تتبنى الحل الدولي إلى مسخرة.
يعتبر معسكر نتنياهو – بن غفير أن الشعب الفلسطيني يشكل خطراً وجودياً وهو يرى فيه محتلاً للأرض التي منحها الرب لبني إسرائيل.
غير أن المجتمع والمؤسسة الإسرائيلية لم يكونا موحدين على سياسة اليمين الديني القومي، نصف الإسرائيليين كانوا مع الحل الدولي سابقاً، وثلث الإسرائيليين ما قبل طوفان الأقصى. وليس من مصلحة الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده أن يتبنى الصراع الوجودي، لأنه يعني وفقاً لميزان القوى طرد ملايين الفلسطينيين من وطنهم.
لكن شفيق يتحدث عن هزيمة عسكرية إسرائيلية حين قال: «عندما وجد جيش وقادة الكيان أنهم عاجزون عن الانتصار العسكري في الحرب البرية راحوا يخوضون حرب إبادة المدنيين وتدمير القطاع، انتقاماً من الطوفان وإنقاذاً لماء الوجه ومن الجثو على الركبتين في هزيمة عسكرية تحققت في الميدان وأصبح هدف استمرار الحرب هدفاً بحد ذاته لأنه يمنع من إعلان انتصار المقاومة بمجرد وقف إطلاق النار.
وتتفق ملحيس مع شفيق عندما تتحدث عن عجز التحالف الصهيوني الغربي الاستعماري العنصري الآيل للسقوط عن حسم المعركة. ما هي الفكرة من تجاهل ميزان القوى ودور السلاح ؟ القوى الدينية تتحدث عن ملائكة ونصر رباني، لكن تجاهل العلمانيين لميزان القوى يحدث فقط عندما يقفزون عن الواقع ويذهبون إلى نستالجيا انتصارات سابقة ومرة إلى حتمية انتصار الشعوب على الإمبرياليات.
القفز إلى الأمام والقفز إلى الوراء وترك ساحة الحرب التي يعيشون في أتونها بلا إجابة. ماذا يعني تدمير كل البنية المدنية والمجتمعية في قطاع غزة وتحويله إلى مكان غير قابل للحياة، ماذا يعني هذا العدد الضخم من الشهداء والجرحى والمشردين والجوعى والمرعوبين من الأطفال والأبرياء؟
شفيق يرى في حرب الإبادة تعبيراً عن الهزيمة العسكرية الإسرائيلية وتأجيلاً لإعلان المقاومة عن انتصارها، مع أن حرب الإبادة بدأت يوم 8 تشرين الأول في اليوم الثاني من طوفان 2023.
ألا يعني وجود مليونين وربع المليون في خطر وأن التهجير الطوعي والقسري على الأبواب وأن الشعب الفلسطيني بدأ يخسر وجوده في الحرب التي تريدونها وجودية وحاسمة.
ألا توجد معايير وقواعد للحروب وبخاصة حرب المقاومة أو حرب الشعب؟ هل يحارب المقاومون جيشاً نظامياً بحرب مواجهة عسكرية شاملة، أم يتفادون المواجهة ويحيدون القوة التدميرية؟ وللنقاش بقية.
عن الأيام