الغائب الباقي في المعاني
(في ذكرى وفاته 9 آب 2008)
وقف هناك محمود درويش واثقًا من حصانه ومن مشروع شعبه وثورته. كان هذا وهو يوغل في مديح الظلّ العالي. شاعر يقف هناك واثقًا من الوعد يتلوه ويُعيده. وهو الشاعر نفسه في “لاعب النرد” يسأل لماذا يقول لنا ما يقول. هو الشاعر ذاته الذي يُخالجه الشك في المديح وفي الوعد وفي ثقته هو بالكون وبذاته. وهو الشاعر نفسه الذي وجدناه في حفرة سيناريو جاهز يعترف بانّه غير قادر على الخروج مع عدوّه من هناك تلافيًا لأذى الأفعى والضيق الذي في العجز. هو الشاعر ذاته الذي لا يُريد للقصيدة أن تنتهي ولأثر الفراشة أن يزول. وهو الشاعر الذي أنشأ ما أنشأ في محاورة صاحب الاستشراق والثقافة والإمبريالية، في طباق إلى إدوارد سعيد ـ كزهر اللوز أو أبعد كي يبلغ ذروته وذروتنا في الاستدلال على مواضع الإشراق والعُلا.
كان درويش أمينًا لأطواره وحدسه حيال الكون وتحوّلاته حيال المكان بوصفه وطنًا ومنفى وحيال الوجود بوصفه شعبًا ينتمي إليه وإنسانية مترامية الأطراف تتسع للجميع. أقرّ درويش بالحقائق وبالواقع المفروض من حين لحين، أدرك إمكانية أن نكون أعجز من تطلّعاتنا وأننا لسنا استثناء على أيّ حال. لكنه لم يفقد الجوهر البشريّ ولا قُدرته على المضي قُدمًا في مشروعه الفكريّ الفلسفيّ المؤسّس على فكرة الحقيقة وضرورة تلاوتها على الذات وعلى الآخرين. هو صانع الحلم استطاع أن يُفلت من إساره وحلاوته. وهو صانع الفكرة استطاع أن يتجاوزها دائمًا إلى غيرها أكثر بُعدًا أو سموًّا. وهو صانع الخطاب استطاع دائمًا أن ينجو من فخاخ الكلام وإغواء اللغة التي يصكّها فانتقل معافى باسمًا من نصّ لنصّ.
كتب كي ينجو وكي ننجو نحن من انكسار التاريخ والوقت ومن القذائف والاحتلال ومن التغييب والإبادة. كتب فبقي وبقينا مهما انكسر التاريخ للمرة الثانية فوق غزّة وأهلها. وهو الذي قضى عمره يرمّم الكون بعد انهيار الحداثة إلى مقتلة الاستبداد والفكرة المُطلقة في القرن الفائت ما كان يتصوّر ولا نحن معه أننا عشيّة انهيار ما بعد الحداثة، أيضًا، وبطرق أكثر توحّشًا ومأساوية. إنه ليس معنا كي يعيش الشرّ المُطلق من جديد فوق جثث النازحين في مدرسة الإيواء أو في الطريق إلى شُربة الماء، لكنه كان هناك ليؤشّر على ما نعيشه اليوم وليسجّل عدم ثقته بالحصان ولا بزرقة السماء ولا بنجوم الليل. بدا درويش في سنواته الأخيرة مُدركًا أننا ذاهبون إلى غُربة جديدة فاستعان بحكمة الصوفيّ كي يتوزّع بروحه ولغته في تفاصيل صغيرة. أصرّ على الخروج من اسمه والنجاة من اغتيال النُقاد وعلى توسيع حدود لغته كي يخلق نفسه من جديد حاضرًا في الحياة على سعتها، وفي الكون نجمًا في المدار وحقيقة بين الحقائق وفكرة عصيّة ثابتة هناك لا أحد يقوى عليها. فإذا غيّبوه من المكان وجدوه في المعاني، وإذا حاصروه في الوطن وجدوه يبتسم لهم في اللغات كأنه صاحبها.
(أنتظر المصوّر الذي التقط الصورة كي يسجّل هنا رصيده ـ وأعرف أنه قد يكون صديقي باسل طنوس ـ غير متأكّد من ذلك)