العودة بين الثابت والمتغير

يقينا ان العودة هي جوهر القضية الفلسطينية، والسبب بسيط وهو ان القضية الفلسطينية تشكلت بفعل استيلاء الصهيونية على فلسطين وطرد اغلبية ابناء الشعب الفلسطيني منها. تم الطرد على مراحل، وتشكلت حالة اللجوء الفلسطينية. طردت الغالبية العظمى عام ١٩٤٨، وتشتتوا في اصقاع الارض، قسم توجه الى قرى ومدن في داخل ما تم احتلاله من فلسطين وقسم اخر توجه الى الضفة الفلسطينية وقطاع غزة وهو الجزء الذي لم يحتل من فلسطين، وما تبقى توجهوا الى لبنان وسوريا والاردن ومصر ودول اخرى، موجة اللجوء او النزوح الثانية اعقبت حرب حزيران ١٩٦٧، حيث غادر الضفة والقطاع مئات الالاف الى الاردن ومصر. هاتان هما الموجتان الاساسيتان واللتان شكلتا قضية اللاجئين.
العودة كانت حلم وهاجس اللاجئين الفلسطينيين، وهمهم الاول، وكانت العودة في صلب برامج مختلف الفصائل الفلسطينية والتي تشكلت لتحرير فلسطين، وبتطور الحالة الفلسطينية بدى ان مفهوم العودة لم يعد هو ذات المفهوم.
بدأ مفهوم العودة فلسطينيا مرتبطا بالتحرير بمعنى ان تحرير فلسطين هو المقدمة الضرورية للعودة، وهكذا طرحت مسألة العودة في الفكر والبرامج الفصائلية.
بدأ الانفصال بين مفهوم العودة والتحرير مع البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية عام ١٩٧٤، حيث أصبح التحرير منصبا على ما احتل من فلسطين عام ١٩٦٧ بينما بقيت العودة كشعار وفق قرارات الامم مرتبط ١٩٤. وهذا يعني العودة دون التحرير، والعودة هنا كمفهوم وليس العودة الفيزيائية.
ليس هذا هو التطور الوحيد في التعاطي مع العودة، فقد وقعت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقيات اوسلو ولم يتعرض الاتفاق الى موضوع اللاجئين الفلسطينيين الا بكونه أحد الموضوعات الاربعة المؤجلة في البحث، لكن فيما بعد واثناء المحادثات الفلسطينية الاسرائيلية تم توظيف موضوع اللاجئين كورقة للمساومة لتحقيق الدولة في الضفة والقطاع، وظف بطريقة القبول بعودة عشرات الالاف او ما بين مئة ألف ومئتين ألف كحل لموضوع اللاجئين مقابل اقامة دولة فلسطينية. بالمقابل فانه الدولة الفلسطينية تمتلك الحق في اعطاء جنسيتها للاجئين الفلسطينيين وتسمح بعودتهم لدولتها وفق ما تسمح امكانياتها. صحيح ان هذا لم يصل الى توقيع اتفاق ولكن المفاوضات في هذا الموضوع كانت في هذا الإطار.
في ظل هذه المتغيرات السياسية في التعاطي الفلسطيني الرسمي فان العودة في المفهوم الشعبي بقيت على حالها تقريبا، بقيت كشعار تعني عودة اللاجئين الى قراهم ومدنهم التي رحلوا عنها ولكن في الواقع الموضوعي اصبح كثير وكثير جدا من اللاجئين الفلسطينيين مواطنين في دول اخرى يحملوا جنسيتها، وجزء من سياقها الاجتماعي والسياسي، في الاردن والتي تضم اكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين حمل الفلسطينيين الجنسية الاردنية ومارسوا حقوقا فردية سياسية ومدنية كاملة وتقلدوا ارفع المناصب، وباستثناء فترة تلت احداث ايلول ١٩٧٠ حيث مورست سياسة اردنة الاردن واقصي خلالها الفلسطينيين عن الحياة السياسية العامة وبشكل غير رسمي فان الفلسطينيين في الاردن قد امسوا اردنيين من اصول فلسطينية. وفي مختلف دول اوروبا وامريكيا وامريكيا الجنوبية حمل الفلسطينيين جنسيات تلك الدول وأصبحوا جزءا منها، ربما الوضع في سوريا ولبنان مختلف جدا، كذلك مصر، حيث في لبنان لم يتم الدمج للفلسطينيين مطلقا لاعتبارات لها علاقة بالنظام الطائفي اكثر من غيرها من الاعتبارات.
السؤال الذي يفرض ذاته الان: ما العودة الان، كيف يمكن تحقيقها، وفي اي الظروف يمكن تحقيقها؟
هل العودة الفيزيائية كما كانت تفهم في بدايات النكبة هي المقصود بالعودة؟ هل ما زالت العودة مرتبطة بالتحرير للأرض كشرط؟
هنا بدأت مفاهيم مختلفة تظهر، بعضها ما زال متمسكا بالعودة الفيزيائية المقترنة بالتحرير الكامل لأرض فلسطين ، ربما هذا التوجه هو شعبي اكثر منه سياسي فمختلف القوى السياسية سكتت عن تآكله حتى في برامجها، وجهة نظر اخرى اعتبرت العودة الفيزيائية هي المهمة بغض النظر عن عملية التحرير، وهنا ايضا اراء متعددة في هذا الاتجاه، دولة ثنائية القومية، او الدولة الواحدة والتي يحق للاجئين العودة اليها، بمعنى دولة يتشارك فيها الفلسطينيون والاسرائيليون في نظام الحكم والحياة واللاجئون من ضمنهم، وهناك وجهة نظر مختلفة نسبيا وهي التي تطرح اعتراف اسرائيل بمسؤوليتها عن اللجوء والتشريد الفلسطيني اولا وكشرط لأي حل ومن ثم الاعتراف بحق العودة دون الاشتراط لتنفيذه فيزيائيا او على الاقل بتنفيذه رمزيا، هذا الرأي مرتبط الى حد كبير بمفهوم حل الدولتين والذي تكاد تتجاوزه الاحداث، وفي التفاصيل لدى اصحاب هذا التوجه فانهم يطرحون رزمة من الافكار مثل التعويض والعودة لأراضي الدولة الفلسطينية العتيدة وعودة رمزية بعشرات الالاف لداخل اسرائيل. لم تنتهي الافكار بشأن العودة فهناك رؤية دولتين في وطن واحد والتي يعبر عنها مجموعة فلسطينية اسرائيلية والتي تنطلق من كون قضية اللاجئين هي جوهر الصراع ولا يمكن ايجاد حل دون حل هذه القضية، وتعتبر ان العودة قضية اساسية للاماكن التي تشرد منها اللاجئين ودون خلق مظالم جديدة، ولكن تنفيذ هذه القضية تدريجيا وعلى مراحل وبما لا يهدد استقرار الحل، وفي التفاصيل يحمل اللاجئين الفلسطينيين الجنسية الفلسطينية ويحق لهم الاقامة والعمل والتنقل في كامل انحاء الدولتين الفلسطينية والاسرائيلية بكامل الحقوق المدنية على ان يمارسوا حقهم السياسي في دولتهم الفلسطينية ، ويطبق هذا الحل تدريجيا وفق تطور الحل ايضا.
وهناك وجهات نظر اخرى تتقاطع او تختلف مع ما ذكر قليلا، ولكنها تصب فيها في النهاية، وباستثناء وجهة النظر الاسرائيلية الرسمية والمؤيدة كثيرا في الاواسط الشعبية هناك والتي تعتبر العودة الفيزيائية الفلسطينية خطا احمر وخطر وجودي على اسرائيل وهويتها فان مختلف التوجهات تتعاطى مع حق العودة كمعطى اساسي لا يمكن تجاهله في اي حل.
ومع تجاوز السبعون عاما على بداية حالة اللجوء الفلسطينية، وما تحمله هذه الفترة من متغيرات سياسية وفي موازين القوى ومفاهيم الحل والصراع فان هناك مجموعة من القضايا يمكن تسجيلها في هذا الشأن.
اولا: حق العودة للاجئين الفلسطينيين وان تراجع في اهميته لدى الطبقة السياسية في بعض الظروف فانه يبقى أحد اهم عناصر الصراع، وحضوره الشعبي الطاغي يمنع اي حل يمكن ان يتجاوزه كون الغالبية من الفلسطينيين هم لاجئين او بحكم اللاجئين، واي حل حتى لو فرض بحكم ميزان القوى او اي عوامل اخرى يتجاهل مصلحة اغلبية الفلسطينيين سيكون هشا وقابل للانفجار في اي لحظة بتغير موازين القوى او العوامل التي فرضته.
ثانيا: لم يعد هذا الحل مرتبط بفكرة التحرير، ويبدو ان وجود أكثر من سبعة ملايين يهودي على هذه الارض وبغض النظر عن الكيفية التي قدموا بها قد خلق عوامل تفرض التعايش مع تلك الحقيقة، وبغض النظر عن تغييرات موازين القوى او شكل الحلول فان عودة اللاجئين تقتضي التعايش مع مجموعة اخرى وهم اليهود او الغالبية منهم والذين يعيشون في اسرائيل.
ثالثا: ان المراهنة على الزمن لتآكل قضية اللاجئين ليس في مكانها فارتباط الفلسطينيين بقضية العودة لم يتزعزع مع مرور الوقت وتبدل الاجيال، ففي عمق الوجدان الفلسطيني تعيش احلام العودة وتتعزز رغم مرور الزمن، وحتى الفلسطينيين الذين اندمجوا في الشتات لا زالت العودة ولو برمزيتها تشكل أحد اهم احلامهم المؤجلة.
رابعا: الاعتراف بحق العودة للفلسطينيين اهم من العودة الفيزيائية ذاتها هذا في السياق السياسي، وبالتالي فان حلا سياسيا قائما على هذا الاعتراف وتحقيقه تدريجيا وجزئيا قد يشكل مدخلا مقبولا خاصة إذا ما ارتبط ذلك برزمة افكار ابداعية تنهي المخاوف من متغيرات ديمغرافية تؤثر على التوازن الهش في الصراع، وامتلاك اللاجئين الفلسطينيين حق الاقامة والتنقل والعمل بكامل الحقوق المدنية وممارسة حقهم السياسي في الدولة الفلسطينية احدى تلك الافكار.
خامسا: الانهيار شبه الكامل لحل الدولتين يعيد موضوع العودة للواجهة بقوة أكثر باعتباره هو جوهر القضية الفلسطينية ليرتبط مفهوم العودة بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني أكثر من كونه أحد القضايا الملحقة بمفهوم حل ” الدولتين “.
سادسا: هذه الخلاصات تقودنا لحقيقة ان حق العودة مفهوم يحمل صفة الثبات والمتغير هو سياقات تحقيقه، وكل المتغيرات التي حصلت او القادمة لا تستطيع تجاوز هذه الحقيقة وان تبدلت المصطلحات. الحقيقة الثابتة ان حق العودة يمثل جوهر القضية الفلسطينية وهو المعطى الذي سيحكم على نجاعة اي حل مستقبلي .