العقد الذي لا يُخَلّ… في انتظار تل أبيب أم في انتظار الطيرة؟
يعتقد هذا المقال، أنه في الوقت الذي يُطرح ابتعاد واغتراب الفلسطينيين في الداخل عن الاحتجاجات الإسرائيلية كحسّ سياسي ووجودي صائب، يحتاج ابتعاد خطابهم وأجندتهم السياسية عن التغييرات الجدية التي تحدث في المجتمع الإسرائيلي، وفي علاقته بدولته إلى تفسير. أما الرد البديهي والصحيح أن الداخل بالعموم –عموم دوائره السياسية وعموم حالته المجتمعية– لا يحمل أجندة سياسية جدية، ولا يعيش واقعه كحالة سياسية، إنما كحالة مطلبية يومية (الدرجة الأولى وفق سلم ماسلو للاحتياجات)، فهو رد صحيح جزئيا وغير صحيح في معظمه. الداخل له اهتمام وموقف وتصريحات وأيام دراسية وندوات ومقالات، تحت عنوان واحد على الأغلب: الخوف من اليمين/ تصاعد اليمين المتطرف.
إن حقيقة أن القسم الأقل تعرضا لعنف المشروع الصهيوني –الداخل– هو ذلك الذي يخاف من تصاعد اليمين أكثر من غيره من الفلسطينيين، وهو ذلك الذي يتجاهل ويخرج نفسه من تغييرات تجري في الدولاتية اليهودية، هو ما يحتاج إلى تفسير. قد نقول إن الداخل يضع كل ما يجري في إطار النزاع على السلطة وعلى قيادة الدولة العبرية، الأمر الذي يبعده عن التعاطي ليس فقط مع الاحتجاجات بل أيضا مع التغييرات العميقة التي تعكسها وترافقها في المجتمع الإسرائيلي وفي الدولة نفسها، فهو بالذات ما يحتاج إلى تفسير، استمرار حالة الشلل السياسي ضمن ظروف متغيرة وفرص مواتية قد تكون إستراتيجية تتعلق على الأغلب بأسباب لا تفسرها حالة الشلل التقليدية. فما يجري في الدولة العبرية بعيد كل البعد عن أن يكون لعبة إسرائيلية داخلية، لأنه يجري في عمق قوة الدولة وتماسكها والتزام فئاتها ومؤسساتها بأدوارها المعهودة. لا نستطيع حصر هذه التغييرات في ملامح الدولة وملامح من يقودها، وإذا اتفقنا على أن قوة ونجاح المشروع العدائي (من ناحية من يرونه استعمارا، وحتى من ناحية من يرونه تمييزا) يعتمد على دولة ناجحة، لكي تحمله وتنفذه وتشرعنه، فلا يمكن التعاطي مع مؤشرات الاستئناف على مكامن قوة الدولاتية، ألا تعتبر شأنا فلسطينيا.
إن “فرَص التحرّر تتقوّض ضمن خيال غير تحرُّري”…
يعتقد هذا المقال أن الخوف من اليمين ليس هو فقط المحرك الأساسي للشلل الحاصل، فتصاعد اليمين يغلب عليه الآن صراع منهك هو عنوان المرحلة، هنالك منطق للاعتقاد بأن ما يحكم السلوك السياسي المهيمن في الداخل، هو الخوف على الدولة، هنالك دولاتيون فلسطينيون أيضا… أولئك الذين يتبنون الـ”مملختيوت” الإسرائيلية. يتصرف “الدولاتيون” الفلسطينيون تماما كما يتصرف الدولاتيون الإسرائيليون، إنهم يخافون على الدولة ويتبنون منطلقاتها “الرسمية”. بالنسبة لهم المبادئ القضائية لأهرون باراك هي ليست لحظة زائفة واستثنائية في تاريخ المستعمرة، لحظة أرادت بالقوة أن تكون بداية جديدة دون أن تحمل مقومات البداية الحقيقية (وهذا ليس موضوعنا مع أهميته في فهم اللحظة الكولنيالية). إنهم يخافون على الدولة الليبرالية من التفتت ومن الانهيارات ومن الفشل، حتى لو لم يحمل هذا الفشل نجاحا للدولة اليمينية القادمة، فاللعبة بينهما ليست بالضرورة لعبة صفرية، وهي بكل تأكيد ليست لعبة صفرية لصاحب الوطن المنتَهَك.
لا يريد المقال أن يستأنف على التخوفات من صعود اليمين المتطرف، لكنه يطرح خطابا يراه سائدا يحمل بالإضافة إلى هذا التخوف، خوفا على الدولة، ويبدي حماسا لانتصار كابلان… إنه الخوف الإسرائيلي ذاته على “إسرائيل التي نعرفها”.
هذه الفئة لا تقتصر على الذين يدعون للمظاهرات بشكل حماسي، فهؤلاء موقعهم وموقفهم واضح. أنا أقصد تلك الفئة التي تنظر لعدم الخروج للتظاهر ولا ترى نفسها جزءا من الاحتجاجات، لكنها في الوقت نفسه، تأْمل انتصار تل أبيب. يتضح أن الذهنية الفلسطينية المغتربة عن الاحتجاجات غير مغتربة عن الدولة، بل بالعكس، قد يغطي موقف الاغتراب عن أجندة الاحتجاجات على “حرص” مؤسرَل. أما من يريد التحرر من حالة سلب ودونية متواصلة، ومتجددة ومتصاعدة، فيبحث عن انتصار على الدولة، بمعنى أنه يبحث عن دولاتية منهكة وفاشلة.
بالتالي، ربما من الأفضل لكي نفهم المواقف الفلسطينية المختلفة من الاحتجاجات، ألا نطرح سؤال المشاركة فيها، بل أن نطرح سؤال السيناريو المفضل لها فلسطينيا.
هذا الخوف على الدولاتية (لا أدري لماذا أفضلها على تعبير الدولة)، برأيي، هو ما يساهم في إبعاد الفلسطينيين في الداخل عن المساهمة الحقيقية في اللحظة الراهنة، حيث يرتبط تفضيل سيناريو الدولة الليبرالية القوية (انتصار تل أبيب) بالقناعة بمشروع إصلاحي وبتوسيع الديمقراطية، بينما يرتبط سيناريو تفضيل “الدولة الفاشلة” بمشروع تفكيكي تحرري جذري. بالتالي، يعتقد هذا المقال أن جزءا كبيرا من فشل تحول هذه المحطة لمحطة حراك سياسي فلسطيني، يكمن في هذه النقطة تحديدا: عدم الاغتراب عن الدولة وعدم القناعة الجامعة أن تعميق الاضطرابات والاهتزازات وتحدي كابلان – تل أبيب، والخروج ضدها بشكل عيني، وإعلاء خطاب المخاوف من الدولاتية القوية لليبراليين، هي فرصتنا لتغيير أعمق. لسان حال الذهنية السائدة لدينا حتى لمن لا تروق له المشاركة في الاحتجاجات كما هي؛ “هذا ليس وقت التغييرات الكبرى، هذا ليس وقت العلم الفلسطيني”.
لم تكشف إذن لحظة انهيار مسلمات الليبراليين أنفسهم، لحظة الارتباك النادرة لشعار “يهودية وديمقراطية”، أقول، لم تكشف عن مصلحة فلسطينية. لقد غلب هذه اللحظة النادرة من التفكيك وانهيار المسلمات، إصرار ذهنية فلسطينية متحكمة على إبقاء الفلسطينيين في الداخل ضمن حالة غير سياسية، إبقاءهم خارج البديل الحقيقي. إنها حالة تصرّ على ألا “تنزلق” إلى وضعية التمرد والعصيان على قواعد اللعبة، حتى في عز طغيان تمرد المشهد الإسرائيلي على نفسه، إنها حالة تسمح لنفسها بالانبهار من عنفوان وعناد الليبرالي الإسرائيلي وثقته في قدرته على التنكر لمكامن قوته القديمة، وفي الوقت نفسه، الالتزام بعدم التقليد، ذلك إعجاب لا نستحق أن نكون فيه. إنها حالة تُعجب بالتمرد والعصيان، لكنها لا تُعجب بنفسها عندما تتمرد وتعصي. وإذا كان الليبراليون الإسرائيليون يخرجون للشوارع ويطعنون بقرات مقدسة، بسبب عقد دستوري وهوياتي تم برأيهم خرقه من قبل الدولة، فإن البند الوحيد في العقد الذي أبرم بين الوكالة السياسية المهيمنة في الداخل منذ ما بعد يوم الأرض وبين الدولة، هي ألا يخرج فلسطينيو الداخل عن طوع “الدولاتية”. إن ما يفعله ليبراليو تل أبيب، هو تماما ما أقسمت ذهنية الداخل ألا تفعله بالدولة. نحن الطرف الوحيد الذي عاهدناها بعقد من جانب واحد، أقوى من الخرق. من المنطق أن تبدو ذهنية “إنقاذ إسرائيل من نفسها” لكي ننجو معها من اليمين، آخر ما يريده من يبحث عن بديل حقيقي فعلا. من يبحث عن بديل حقيقي يبحث أيضا عن مواقع الضعف لدى خصمه، من يواجه مشروعا استعماريا يبحث عن مواقع الكلفة، من يتكلم في “التحرر”، أو حتى في الديمقراطية البديلة، كفلسطيني، يبحث عن مواقع التفكك والانهيارات وإعادة البناء. النفور من الخطاب الرغبوي الغيبي حول “انهيار” إسرائيل، لا يعني الاستخفاف بمؤشرات غير مسبوقة لتصدعات واهتزازات تفتح المجال على بدائل حقيقية، لا يعني عدم تتبع هادف لادعاءات الانخفاض في جهوزية الجيش وقوة الاقتصاد وتماسك المؤسساتية وتماسك المجتمع وثبات الشرعيات المختلفة “للدولة المعجزة”، نحن نتابع ذلك كمعلومات عامة نستعملها كمحللين محايدين، وليس كمستفيدين أو كمنتهزي فرصة، وكأن ما يهتز أمامنا ليس نفسه الذي كنا نعاني من ثباته واستقراره وقوته.
لندع تل أبيب تشبع إنهاكا
هذا المقال يعتقد أن الانهيارات المشار إليها في تصريحات وتقديرات الإسرائيليين رائعة (لنضع جانبا أنها غير صحيحة في مقاييسها الموضوعية حول الاقتصاد وجهوزية الجيش مثلا، لكن هذا موضوع لمقال آخر). خروج “الدولة المعجزة” عن نقاط تماسكها، وتفككات الجيش والمجتمع، وخروج الأخير من دائرة طمأنينيته وثقته وعنجهيته، هو أمر رائع حقا. أما الكراهية النبيلة للدولاتية الإسرائيلية ولعجرفة ليبرالييها وسمو صورتهم عن أنفسهم، فهي لا تشير فقط إلى منطق سياسي ينص على العلاقة بين دولاتية (دولة ومجتمع والعلاقة بينهما) قوية وراسخة و”شاعرية”، وبين مشروع تطهيري ناجع ومستمر وقابل إلى تغذية وتحصين وتطبيع نفسه باستمرار، بل تشير أيضا للعلاقة بين الكلفة وبين المراجعة الحقيقية. بالتالي فإن الدعوة لتمدد لحظة “التخريب الإستراتيجي” كما سُميت في “هآرتس”، قدر الإمكان، ليست فعل تشفٍّ –على إنسانيته– بل حسابا سياسيا يرى ضرورة الخسارات الفعلية والوهن المجتمعي والدولاتي كمناخ يستدعي أو يحتمل مراجعات حقيقية، لأن المراجعات لن تقوم على قناعات أخلاقية، بل على كلفة سياسية ومجتمعية وحياتية. يتطلب ذلك تمترس وعناد الطرفين، وميزان الرعب بين القوة الديمغرافية لليمين والقوة الدولاتية لليبراليين، الأمر الذي يمكن ابتعاد التفاهم واستبعاد احتمال الانتصار الكامل لطرف على آخر… وإذا كان لا بد من اتفاق أو حسم، فليكن إما اتفاقا على مضض أو غبن، يؤجل عودة تأجُّج الخلاف، أو انتصارا يحمل بذور الانتقام القادم.
هناك حاجة لكي تفعل “الريفورما” مفاعيلها في العجرفة والثقة بالنفس، والشعور باستحقاق الامتيازات، وباستحقاق الوصاية على أولئك الذين يسحقونهم بامتيازاتهم… هناك حاجة لإصلاح “تعالي” الدمار والعمى الأخلاقيين اللذين ترمز لهما غابة أعلام تل أبيب… لا زوجة طبيب في عمى تل أبيب.
لكن ما نراه الآن في معظمه هو استمرار للعجرفة؛ غابة الأعلام هي غابة من العجرفة ومن مقولة “نحن على حق”. إنها أشبه بساعي بريد نيرودا، وهو يريد أن يخلق نسخة منه لكي يطبطب على أكتافه، مبديا إعجابه بنفسه.
لقد خرجت تل أبيب تمردا ضد الخروج من معادلة (التناقض) بين يهودية الدولة وديمقراطيتها. خرجت ضد الوصول لأفق مسدود لهذا الكيان المستحيل. لم تخرج للتغيير، بل خرجت للتمترس في معادلة التناقض هذه، معادلة الاستعمار الديمقراطي. خرجت لمد سر ثبات الكولونيالية بكميات متواصلة من الأكسجين.
الطيرة وليس تل أبيب
ربما كان رد بلدية الطيرة المثال الأول لما يمكن أن يسمى تمردا أو عصيانا، خارج حالة الهبات الشعبية للداخل، وهذه فرصتنا ليس فقط أن يخرج التهديد بعدم تمديد عمل محطة الشرطة، لحيز التنفيذ، بل أن يتم تبني وتعميم هذا النموذج، وحبذا لو أخذت المتابعة دورا أكثر جدية. حبذا لو أخرجتها بعض الهزات عن تقليدها المتأمل، هناك ما يكفي من ظروف موضوعية لكي تتواصل المتابعة مع المرحلة، لكي تكون واقعية، الواقع الآن ثائر ومتخبط، لماذا لا نكون واقعيين مثله؟ الواقعية الآن هي التواصل مع المرحلة في فعل سياسي غير روتيني، لنقلد تل أبيب فيما البعض ينتظرها، بالإعلان عن شكل من أشكال العصيان مثلا، رفض دفع الضرائب، إطلاق شعار يتعلق بالمواطنة الكولونيالية، أو حملات دولية لمقاطعة إسرائيل وكشف عدم قدرة أي نوع من الدولاتية على التنصل من اليمين، وعدم قدرة اليمين على التطور والسيطرة والحياة دون مراكز القوة الدولاتية الليبرالية. لنفكر جديا أن نشرح للعالم ولأنفسنا –ربما أهم- بأنه لا قابلية للحياة للمشروع الاستعماري اليميني دون دولة الهايتك وأمة الستارت آب، وأن دولاتية يمينية دون اتفاق وتعاون ومساهمة مراكز القوى الليبرالية هي دولاتية فاشلة.
نحن الذين علينا أن نفهم، قبل أن يفهم العالم، ضرورة التقاط لحظة الدولة المستحيلة، ضرورة تحويل ثقة “اليهودية وديمقراطية” إلى واقع يعترف أنه مستحيل…
نحن لا نريد لتل أبيب أن تنتصر… لأنها ستنتصر بالأساس في هذا…
وتل أبيب لا تنتظرنا… فهي ليست الحل… “ليس بمقدور المشاكل العميقة أن تتحول إلى حلول”.
أن ما تقوضه المرحلة وليس ما تبنيه، هي ما علينا أن نؤسس عليه.
السؤال الآن: نحن مع من؟ مع تل أبيب أم مع الطيرة؟
لماذا لا نبدأ من اللحظة التي قدمتها لنا الطيرة إذن؟
عن عرب48