العاروري والتهديدات الإسرائيلية..
أجرى صالح العاروري، نائب رئيس حركة حماس، ومسؤول الضفة، سلسلة من المقابلات ظهر فيها بوصفه شخصًا قياديًا قويًا لا يهاب الاغتيال، ووطنيًا وحدويًا وبمستوى التهديدات الإسرائيلية باغتياله، التي تصاعدت في الفترة الأخيرة بصورة ملحوظة ردًا على استمرار وتصاعد عمليات المقاومة، في محاولة من حكومة نتنياهو – سموتريتش – بن غفير لتصوير أن المقاومة ليست ناجمة عن الاحتلال والعدوان والعنصرية والاستيطان، وإنما ناجمة عن أشخاص وحركات مرتهنة لمحاور خارجية.
المقاومة الفلسطينية مستمرة منذ مائة عام، وكلما يرتقي قادة وجيل يحل محلهم قيادات جديدة وأجيال أخرى، فلا تعود المقاومة بسبب أشخاص معينين مثل العاروري وغيره على أهمية دورهم، وإذا تم اغتيالهم لا تتوقف المقاومة، بل ربما تزداد اشتعالًا، والمقاومة ليست إيرانية كما يدعي بنيامين نتنياهو، بل وطنية فلسطينية، فتلك ادعاءات إسرائيلية لتبرير عجز الاحتلال عن وقف المقاومة.
تحاول حكومة نتنياهو بمثل هذه الادعاءات صيد أكثر من عصفور بحجر واحد، فهي تكبر الخطر الخارجي في محاولة لاحتواء المعارضة الواسعة لخطة الحكومة، وتسعى إلى توظيف عمليات المقاومة لتوفير الغطاء لاستمرار خطة الحسم التي تعمل بشكل غير مسبوق من أجل الضم والتهويد والتهجير، وتمهد لعدوان عسكري ستفكر كثيرًا بمداه واستهدافاته خشية من ردة الفعل، وربما ضخامة حملة التهديدات لا تحمل نوايا جدية بتنفيذها بقدر ما هي محاولة لاستعادة الردع، وتخويف المقاومة وحثها على وقف المقاومة أو الحد من تصاعدها، لأن من يريد الاغتيال لا يعلن عن ذلك، وربما تلجأ إسرائيل إلى اغتيالات صامتة في غزة أو في الخارج، بمعنى عدم وضح مسؤولية إسرائيل عنها مباشرة، وستركز على التصدي للمقاومة في الضفة ورموزها أكثر من أي مكان آخر أولًا، وغزة ثانيًا.
أعلنت المقاومة على لسان عدد من قياداتها والمتحدثين باسمها أنها تأخذ التهديدات الإسرائيلية بتنفيذ اغتيالات ضد قادتها ورموزها على محمل الجد، وأنها ستفاجئ العدو بحجم ونوع الرد على أي تصعيد إسرائيلي؛ لأن العجز عن وقف المقاومة يهدد الحكومة الكهانية بالسقوط، فهي جاءت للحسم وبدلًا من الحسم تصاعدت المقاومة في عهدها أكثر بكثير من معظم الحكومات السابقة التي طالما انتقدتها الأحزاب المشاركة في الحكومة الحالية، فقد سقط 36 قتيلًا إسرائيليًا منذ بداية هذا العام جراء تصاعد عمليات المقاومة، ونفذت آلاف العمليات، التي شملت إطلاق الرصاص، ووضع العبوات، وتخريب الممتلكات والبنية التحتية للمستوطنات، والتصدي لاقتحامات قوات الاحتلال واعتداءات المستعمرين المستوطنين، التي تصاعدت بمعدلات كبيرة جدًا منذ بداية هذا العام.
النقطة الجوهرية الحاسمة في مقابلات العاروري أنه بشر بإمكانية دحر الاحتلال عن الضفة الغربية خلال عام، وهي نقطة في منتهى الأهمية؛ لأن الضفة هي محور المخططات الإسرائيلية في هذه المرحلة، ولأنها تضع للشعب الفلسطيني هدفًا مركزيًا، واقعيًا وقابلًا للتحقيق فعلًا لأسباب عدة، ومنها: أولًا، وجود حوالي أربعة ملايين فلسطيني في الضفة مقابل مليون مستوطن، مصممين على المقاومة، بدليل أن المقاومة مستمرة موجة إثر موجة، مع تصاعد ملحوظ في موجات المقاومة التي شهدتها الضفة خلال العامين الأخيرين؛ وثانيًا، لوجود رفض عالمي للاحتلال والاستيطان مستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وهذا عامل مهم يجب عدم التقليل من أهميته، وهو لا يحرر الأرض، ولكنه يساعد على تحريرها؛ وثالثًا، لأن إسرائيل تمر في أسوأ مرحلة منذ قيامها بسبب الأزمة الداخلية العميقة والمرشحة للتفاقم إذا لم تجد مخرجًا، ومن المتوقع أن يكون بتصدير الأزمة إلى الخارج وضد أعداء إسرائيل.
حذار من تضخيم قدرات المقاومة وتقليل قوة العدو
يوجد بعض المآخذ على وجهة نظر العاروري، وهي التضخيم من قوة وقدرات المقاومة والمبالغة بما حققته حتى الآن، والتقليل من قوة دولة الاحتلال والإنجازات التي حققتها خلال العقدين الأخيرين. فمن الصحيح أن إسرائيل في أضعف حالاتها، إلا أنها لا تزال قوية وقادرة على البطش، وتستند إلى حلف أميركي غربي جاهز لإنقاذها، حتى من نفسها، عند الحاجة.
فعلى سبيل المثال، لم يصبح قطاع غزة، على الرغم من “الانسحاب” الإسرائيلي، محررًا، وإنما شبه محرر، والدليل أن الأسباب التي أدت إلى “الانسحاب” لا تعود فقط ولا أساسًا إلى المقاومة، وأي عودة إلى الوراء عشية الانسحاب الإسرائيلي ستجد أن حجم ونوع عمليات المقاومة في قطاع غزة والخسائر الناجمة عنها لا تكفي لتفسير التراجع الإسرائيلي، فالانسحاب الإسرائيلي من غزة يعود أساسًا إلى وجود مخطط لدى أرئيل شارون، يقوم على جعل المبادرة السياسية الإسرائيلية اللعبة الوحيدة في المدينة، وقطع الطريق على أي مبادرات أخرى، من خلال الإقدام على التراجع خطوة واحدة في غزة إلى الوراء مقابل التقدم عشر خطوات في الضفة إلى الأمام، وبث الفتنة والوقيعة بين الفلسطينيين، وهذا بكل أسف ومرارة ما حدث فعلًا؛ إذ وقع الانقسام البغيض فيه، وهو محاصر، ومعرض للعدوان، والقوة التي راكمتها وتراكمها المقاومة، على أهميتها وكونها تطورًا مهمًا لا يجب إنكاره من دون تهويل وتهوين، لا سيما أنها جرت عكس الريح الإسرائيلية، ومع ذلك لا يجب أن ننسى أنها تتم ضمن أكبر وأطول سجن في التاريخ، وهذا لا يقلل من إمكاناتها، وإنما يحدد شروطها التي يجب أن تؤخذ في الحسبان عند إجراء حسابات المواجهة واحتمالاتها ومستقبلها.
أولويات محور المقاومة
إن “محور المقاومة”، إذا صح استخدام هذا المصطلح، على أهمية وجوده ودوره، في وضع صعب هو الآخر، على الرغم من التقدم الذي أحرزه، وأي نظرة إلى الأحوال في لبنان وسورية وإيران والأزمات الداخلية والخارجية التي تعاني منها توضح المقصود. كما أنه لا يعمل وفق الأولويات والحسابات والأجندة الفلسطينية فقط ولا أساسًا، فاللاعب الفلسطيني ليس أقوى اللاعبين فيه، كما أنه ليس الاحتمال الوحيد ولا المرجح أن تندلع حرب إقليمية، فالمنطقة في حالة انسياب، وتمر بفترة انتقالية، مثلما العالم كله بعد الحرب الأوكرانية، ويعيش بين الحرب والسلام.
في سياق هذه الفترة الانتقالية، أي حرب كبيرة غير مرغوبة من مختلف الأطراف؛ لأنها غير مضمونة النتائج، لعدم توفر قدرة لدى أي طرف على الحسم في هذه المرحلة، فيكفي العالم تداعيات الحرب الأوكرانية، ولأن السلام كذلك بعيد المنال، لذا المتوقع أن نشهد مناوشات وتجاذبات وإشارات متناقضة، تارة نحو التهدئة وتارة أخرى نحو التصعيد، ومعارك صغيرة وتسويات مؤقتة تهدف إلى منع الانهيار والانفجار والانفراج، إلى أن تدخل متغيرات وتطورات وعوامل جديدة تُحدِث تغييرًا في قواعد الصراع ومآلاته، ولعل صفقة تبادل الأسرى مع منح إيران مليارات الدولارات، والتزام طهران بعدم تجاوز خط الستين في تخصيب اليورانيوم، والمناوشات على الحدود الفلسطينية اللبنانية، وبدء التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية اللبنانية، والمصالحة الإيرانية السعودية، وضم دول مثل إيران والسعودية ومصر والإمارات إلى مجموعة بريكس، واستمرار التفاوض على الملف النووي الإيراني، وعلى صفقة كبرى في المنطقة عنوانها الأبرز التطبيع السعودي الإسرائيلي؛ كلها دلائل على ما ذهبنا إليه.
في هذا السياق، من الخطأ وضع جدول زمني قصير من قبل العاروري لإنهاء الاحتلال للضفة، كما يتردد حاليًا، وكما تردد سابقًا في خطابات لقيادات أخرى في حركة حماس وقوى المقاومة، فالأمر الواقعي وضع أهداف قابلة للتحقيق على طريق تحقيق أهداف أكبر وأكبر، وهكذا، مثل: تعزيز عوامل ومقومات الصمود والتواجد الشعبي على أرض الوطن، وإبقاء جذوة المقاومة مشتعلة والقضية حية، وبذل كل المستطاع لإحباط التطبيع السعودي الإسرائيلي وليس تشجيعه أو تجاهله، الذي إن حدث سيكون حتمًا على حساب القضية الفلسطينية، ولا نقول إنه سهل بل مستبعد، خصوصًا في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولكن يجب عدم استبعاد حدوثه كليًا.
ويضاف إلى ذلك استمرار وتصعيد المقاومة الشاملة بكل أشكالها، ضمن حسابات دقيقة من دون تهور ولا تخاذل؛ حيث لا تعطي ذرائع للاحتلال لارتكاب مجازر وتنفيذ عمليات تطهير وتهجير، والسعي المكثف إلى زج قطاعات شعبية أوسع في المقاومة الشعبية، وعدم التركيز على المقاومة المسلحة فقط.
وهنا، لا بد من أن تأخذ المقاطعة للاحتلال وفرض العقوبات والعزلة على إسرائيل على مستوى العالم كله الأهمية التي تستحقها؛ بيث تنتشر حملة المقاطعة بكل أشكالها، وكذلك توسيع الوحدة الميدانية وتعميمها وتجذيرها وتنظيمها، لتشمل كل القطاعات والمجالات، بما يوفر البنية التحتية لإنهاء الانقسام، فمن دون الوحدة الوطنية يتعذر إنهاء الاحتلال، خصوصًا في ظل المراهنات المتجددة للقيادة الرسمية الفلسطينية على إمكانية توفر أفق سياسي، على خلفية الصفقة الكبرى التي تحاول إدارة بايدن تحقيقها بين الرياض وتل أبيب قبل نهاية العام القادم.
كما يمكن خلال هذه المرحلة الكفاح من أجل إحباط مخططات الحكومة الإسرائيلية الحالية التي تركز على ضم مناطق (ج)، واستكمال تهويد القدس وأسرلتها، وخصوصًا الأقصى، وفك الحصار عن قطاع غزة، وإحباط مخطط تعميق الفصل العنصري، وإغراق شعبنا في الداخل في دوامة الجريمة والعنف الداخلي.
نقطة أخيرة، وهي تتعلق بالوحدة الوطنية؛ إذ أظهر العاروري حرصًا بالغًا على الحوار والوحدة الوطنية من خلال التمييز بين حركة فتح المقاومة إلى جانب كل فصائل المقاومة وبين الدوائر الضيقة المنغمسة في التنسيق الأمني، ولكن يجب التمييز ما بين أهمية الاستمرار في العمل من أجل الوحدة، وما يقتضيه هذا من استمرار الحوار الوطني واللقاءات مع مختلف مكونات الحركة السياسية الفلسطينية، وبين عقد اجتماع مثل اجتماع العلمين الذي كانت نتيجته صفرًا مكعبًا، وخرج فريق بنقاط عديدة، بينما عاد الفريق الآخر بخفي حنين.
أما بشأن التمييز بين الاعتقالات، فالاعتقالات التي نفذتها السلطة في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات كانت في مرحلة كانت فيها عملية سياسية وسلطة تقاوم وتفاوض وتقدم التنازلات، وكانت تشهد ما عارضه الاحتلال من سياسة الباب الدوار. أما الاعتقالات في الفترة التي تلت ذلك وتلك التي جرت أخيرًا، فهي تتم في ظل سعي السلطة إلى استعادة هيبتها ومنع استمرار وتصاعد المقاومة، والاستمرار في دورها الأمني من دون لا عملية سياسية ولا التزامات متبادلة.
نعم، لا بد من استمرار الحوار الوطني واللقاءات بين مكونات الحركة السياسية، ولكن يجب التحضير لها، وأن تكون مستندة إلى إرادة وأرضية وأسس وطنية وديمقراطية. أما الحوار الذي جرى في اجتماع العلمين فلم يكن حوارًا، واستهدف في الحد الأقصى ترويض واحتواء الفصائل المعارضة، وفي الحد الأدنى الحصول على الشرعية الفصائلية للسلطة، على الرغم من استمرار سيرها في المسار البائس، في ظل تبوء أسوأ حكومة في إسرائيل الحكم من دون أن تقدم السلطة شيئًا في المقابل لا للفصائل، ولا فيما يتعلق بوقف الاعتقالات على خلفية سياسية وللمقاومين، فهذا أمر بحاجة إلى إعادة تقييم واستخلاص الدروس والعبر.
عن مسارات