الطنطورة: الماضي والحاضر
نبذة مختصرة:
أعاد عرض الفيلم الوثائقي “الطنطورة” للمخرج الإسرائيلي ألون شوارتس النقاش مجدداً عن المجازر التي ارتكبها الصهيونيون في فلسطين في سنة 1948، وخصوصاً مجزرة الطنطورة التي عمل القضاء الإسرائيلي والمؤسسة الأكاديمية على محاولة طمسها. وفي هذه المقالة يستعيد إيلان بابِهْ الظروف التي أحاطت بهذه المسألة التي كان شاهداً عليها كمدرّس في قسم التاريخ في جامعة حيفا.
النص الكامل:
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، كنت أدرّس في قسم تاريخ الشرق الأوسط في جامعة حيفا، وكان مساق “النكبة” أحد أكثر المساقات إقبالاً، وقد أعيدت تسميته في بعض الأحيان، بسبب ضغوط غير محتملة من قبل إدارة الجامعة، ليصبح “تاريخ وتأريخ سنة 1948”. وكانت المهمة الأكاديمية الأساسية التي يكلَّف بها الطلاب خلال دراستهم هذا المساق هي كتابة بحث عمّا حدث في سنة 1948، في الأماكن التي سكنوها أو ولدوا فيها.
كان هناك طالب استثنائي، يكبرني عمراً، واسمه تيدي كاتس، وقد استجاب بلهفة وحماسة للمهمة المطلوبة منه، واكتشف أن كيبوتس ميغال الذي يسكن فيه، أُنشىء على أنقاض قرية زِيتا. كان كاتس، ولا يزال صهيونياً بطريقة ما، وكان مؤمناً بسذاجة بإمكان تربيع الدائرة والدفاع عن نسخة ليبرالية إنسانوية للصهيونية، لكن هذا لم يكن سوى تعبير عن إيمان استعماري تنويري مثير للسخرية.
بعض الحقائق التي كُشف عنها فيما بعد، كان له علاقة بهذه الرؤية المشوهة عن الواقع، وفسر كثيراً من سلوكياته لاحقاً. ولذلك حرص بعد معرفته حقيقة ما حدث في قرية زِيتا على دعوة الناجين من عملية تدمير القرية في سنة 1948 (والذين لا يزالون حتى اليوم يعيشون داخل مناطق 48) إلى زيارة المستوطنين الذين احتلوا قريتهم، وربما التحدث إليهم، الأمر الذي عرّضه حينها للازدراء والاحتقار من طرف مجتمعه في الكيبوتس.
رغب كاتس في مواصلة ما بدأه من بحث بشأن ما حدث خلال سنة 1948، ورغب في أن يجعله موضوعاً لأطروحته في الماجستير التي اقترحتُ عليه أن تكون عبارة عن دراسة تاريخية مصغرة تسرد ما جرى لبعض القرى المتضررة خلال النكبة.
أكمل كاتس أطروحته في سنة 1998، وعنونها بـ “رحيل (exodus) العرب من قرى سفوح جبل الكرمل”. لغة العنوان مهمة، فكلمتا “رحيل” و”عرب”، هما جزء أساسي من الخطاب الصهيوني الذي أيّده كاتس الذي كان على وشك أن يصبح لفترة معينة عدو الشعب الأول في نظر الأوساط الأكاديمية الصهيونية والإعلام الصهيوني.
اختار كاتس خلال رحلته البحثية خمس قرى فلسطينية ساعياً لإعادة صوغ ما حدث خلال النكبة لتلك القرى التي كانت جميعاً تقع جنوبي مدينة حيفا على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وقد رفضتُ آنذاك أن أكون الأستاذ المشرف على الأطروحة لأني كنت معروفاً بأنني باحث مناهض للصهيونية، كما كنت على خلاف مع الجامعة بشأن الكيفية التي يجب اتّباعها لتدريس تاريخ فلسطين وإجراء أبحاث عنه، وبالتالي وقع اختيار كاتس على الأستاذ والباحث قيس فرّو الذي كان يحظى حينها باحترام زملائه الباحثين في جامعة حيفا.
حصلت الأطروحة على أعلى درجة يمكن تحصيلها، وكان محور الفصل الرابع منها قصة قرية الطنطورة. لم يعرف كاتس مسبقاً ماذا كان سيكتشف، لكن خلال بحثه عن قصص القرى وتاريخها، وقع على ما يكفي من وثائق وشهادات شفوية تتحدث عن التطهير العرقي الذي حدث في تلك القرى. ولدهشته، فإن الجنود الصهيونيين وأهالي قرية الطنطورة أخبروه عن المجزرة التي ارتُكبت في 22 و23 أيار / مايو 1948، أي خلال احتلال الجيش الإسرائيلي للقرية وبعده.
والأمر الذي أدهش كاتس أكثر وضاعف من صدمته هو أن أهم الأعمال التوثيقية الأساسية بشأن مسألة الوجود الفلسطيني في ذلك الوقت، مثل كتابَي “كي لا ننسى” لوليد الخالدي، و”مشكلة اللاجئين الفلسطينيين” لبني موريس، لم يذكرا المجزرة.[1]
لكن في الواقع، كان نمر الخطيب قد تحدث عن المجزرة في مذكراته “من أثر النكبة” الصادرة في دمشق في سنة 1951،[2] كما كان يتحدث عنها، من حين إلى آخر، خلال اللقاءات التي كانت تنظمها “جمعية الدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين في إسرائيل”. وفضلاً عن ذلك، فإن صحيفة “كل العرب” التي كانت تصدر في أراضي 48، كانت قد أجرت أيضاً مقابلات مع عدد من الناجين من المجزرة، وهذا قبل أن يكتب كاتس عنها. لكن ما يميز عمل كاتس هو أنه كان أول أطروحة أكاديمية تتطرق إلى المجزرة.[3] وفي العام نفسه الذي كتب كاتس رسالته، نشر يحيى محمود اليحيى كتاباً وثّق فيه مجزرة الطنطورة بسرده قصصاً عن 52 ضحية، من ضمنها قصص نساء ذبحتهن القوات الإسرائيلية.[4]
سجّل كاتس 64 ساعة من المقابلات مع يهود وفلسطينيين كانوا موجودين خلال احتلال قرية الطنطورة، كما اعتمد على حفنة من الوثائق من الأرشيف العسكري الإسرائيلي. وبناء على ذلك، استنتج أن ما يتراوح بين 200 و250 من سكان القرية قتلهم جنود من الجيش بدم بارد، رمياً بالرصاص، أو ذبحاً خلال ثورة غضب من الجنود (انتقاماً لموت 8 من رفاقهم الجنود الذين قضوا خلال الاجتياح الأولي للقرية). وذكر شهود العيان أولئك أن عمليات الإعدام الجماعية ارتُكبت على شاطىء البحر، وهو ما لمّحت إليه أيضاً الوثائق التي أكدت ما شهد به الشهود عن وجود مقبرتَين جماعيتين حُفرتا بالقرب من مقبرة القرية لاستيعاب جثث ضحايا المجزرة؛ وهاتان المقبرتان تقعان اليوم تحت موقف سيارات تابع للمستعمرة التي أقيمت على أنقاض قرية الطنطورة. واللافت أن شهادات الجنود تُكْمِل شهادات الناجين من مجزرة الطنطورة، وبالتالي فإن هذا الأمر يُعدّ مثالاً تاريخياً نادراً تمتزج فيه وجهات نظر متنوعة لتقدم صورة كاملة عن حدث جرى في الماضي.[5]
المصدر: موقع “فلسطين أون لاين”.
بعد عامَين من إنجاز كاتس أطروحته في سنة 1998، وجد صحافي كان يبحث في مكتبة جامعة حيفا هذه الأطروحة، ونشر ما يتعلق منها بمجزرة الطنطورة في صحيفة “معاريف” اليومية.[6] وقد تلا هذا الأمر رفع قضايا قذف وتشهير من طرف جنود قدامى في لواء “ألكسندروني” الذي ارتكب جنوده المجزرة.
عندما أصبح الجنود ومؤرخو جامعة حيفا تحت أنظار الرأي العام، قرروا التحرك بسرعة بهدف تجريد الأطروحة من صحتها، والكاتب من أهليته الأكاديمية. وتحت ضغط زملائهم، اقتنع الجنود الذين سبق أن سجل لهم كاتس اعترافاتهم التي تؤكد تورطهم في جرائم الطنطورة، بالتوجه إلى القضاء لإنكار جميع ما أدلوا به من شهادات واعترافات سابقة. وكان لهؤلاء الجنود القدامى علاقات قوية بإدارة الجامعة حيث كان داعموهم الأساسيون هم عميد كلية الإنسانيات، ورئيس قسم التاريخ في الجامعة نفسها، واللذان لم يتوانيا عن اتخاذ الإجراءات السريعة في حقّ كاتس الذي طُلب منه تسليم تسجيلات المقابلات كلها إلى محامي الجنود (علماً بأنه في ذلك الوقت لم يكن على الطالب القيام بالتسجيل، أو تسليم الأشرطة التي سجلها). كان التكتيك واضحاً: لقد حان الوقت للمساءلة عن مهنية المؤرخ، وليس عن المجزرة نفسها.
منذ تلك اللحظة، وُضع السؤال عن واقعة المجزرة جانباً، وبات الشغل الشاغل لقاعة المحكمة والمنتديات واللجان المتعددة التي أوكلتها الجامعة متابعة القضية، يتمحور حول مدى دقة الطالب في تفريغ ما تحتويه الـ 64 ساعة المسجلة التي كانت في حيازته، بدلاً من التأكد من صحة الأطروحة، والتدقيق في المعلومات التي احتوتها. وسواء أكان المدعي العام أم أعضاء الجامعة هم الذين قاضوا كاتس، فإن عملهم انصبّ على إيجاد التناقضات بين أشرطة المقابلات والاقتباسات في الأطروحة.
كانت التناقضات قليلة جداً وهامشية قياساً بالمجزرة، لكنها كانت كافية لإعلان لامهنية الطالب، وهنا أود تذكير القراء بأن كاتس نال أعلى درجة ممكنة في الجامعة. أمّا الحالات القليلة التي وُسِمَت بالتناقض، فكانت جملاً غير واضحة في المقابلات التي أجراها مع بعض القرويين الفلسطينيين كبار السن، وهو ما اعتبره المدعي العام والجامعة فيما بعد تلفيقاً للحقيقة.
مَثُل كاتس أمام القضاء، وفي اليوم الأول من المحاكمة جرت مواجهته بهذه التلفيقات، وهي مواجهة يظهر أنها استمرت طوال اليوم، الأمر الذي جعله ينهار كلياً. وفي المساء، وفي مكتب المدعي العام، كتب رسالة اعتراف صرّح فيها بأنه اختلق الأدلة بشأن المجزرة. ويبدو أن الضغوط التي مارستها عليه عائلته، ومحاموه، ومحامو الجامعة، هي ما أرغمته في نهاية الأمر على كتابة رسالة الاعتراف تلك التي أنكرها وتراجع عنها بعد 12 ساعة، مبدياً ندمه على القبول بتوقيعها أو كتابتها أصلاً. غير أن القاضي رفض تراجع كاتس، وطلب منه اعتذاراً علنياً عمّا قام به، علاوة على إجباره على دفع تكاليف المرافعات القضائية كافة. لكن كاتس استمر في رفضه، فرُفعت القضية إلى المحكمة العليا التي أبقت الحكم على حاله.
عملت الجامعة كل ما في وسعها لتجريد كاتس من أهليته، وتمثلت خطوتها الأولى في استخدام ذريعة “التناقضات” لتطلب منه كتابة أطروحة جديدة. وكان كاتس مستعداً لإعادة الكتابة وتقديم أطروحة جديدة وتصويب التناقضات مع إضافة أدلة جديدة عن المجزرة، لكن هذا طبعاً لم يكن ما تصبو إليه الجامعة من طلب إعادة الكتابة، ولذلك شكلت لجنة من خمسة محكّمين أكاديميين لم تعلَن أسماؤهم للنظر في الأطروحة الجديدة (وهذا عدد غير عادي في مرحلة الماجستير) التي لم تُجِزها أغلبية اللجنة بذريعة أنها أطروحة رديئة الكتابة (في 9 شباط / فبراير 2022، وبعد عشرين عاماً، كتب أحد المحكّمين ويدعى بروفسور موشيه ماعوز في “هآرتس” أنه آنذاك لم يجد أي شيء يبطل ما تناقشه الأطروحة عن المجزرة، لا بل إنه منحها درجة جيد، لكن صدمته الكبرى كانت حين اكتشف أن الجامعة أهملت تقريره بشكل كلي).
لم ينسَ الكتّاب والمؤرخون والباحثون مجزرة الطنطورة، وقد أشرتُ إليها في عدة مواقع في كتابي “التطهير العرقي في فلسطين”،[7] كما أشار إليها كتّاب ومؤرخون فلسطينيون في أعمالهم (ولعل أهم تلك النصوص هو ما كتبه مصطفى الولي في سنة 2001 في “مجلة الدراسات الفلسطينية” الصادرة بالإنجليزية).[8] أمّا الناجون من الطنطورة فشكلوا لجنة منهم لتنظيم زيارات مستمرة للقرية القديمة التي أصبحت مستعمرة صهيونية، وذلك كلما كانت تسنح لهم الفرصة، كما نظموا مسيرة سنوية تنطلق من موقف السيارات الخاص بالمستعمرة، والذي أُنشىء فوق المقابر الجماعية لضحايا مجزرة 1948، لتنتهي عند شاطىء البحر حيث يوجد المبنى الوحيد الباقي من القرية، والذي لا يزال قائماً حتى اليوم، شاهداً بنصفه المدمر وسقفه المتهالك على كل ما حدث.[9]
المبنى الوحيد الباقي في الطنطورة
المصدر: صفحة “صُوَر” عن الطنطورة في الإنترنت.
أسماء الضحايا موزعة فوق الشاطىء الرملي حيث وقعت المجزرة، وذلك خلال نشاط لإحياء ذكرى المجزرة
المصدر: موقع “عربي 21”.
أزيلت أطروحة كاتس علانية من مكتبة جامعة حيفا في رسالة واضحة لكل طالب يجرؤ على تحدي الرواية الصهيونية في عمله الأكاديمي للدراسات العليا، الأمر الذي يجعلنا نستحضر حقيقة أننا نتحدث عن سنة 2001. فالانفتاح النسبي الذي حمله اتفاق أوسلو إلى الأعمال الأكاديمية في إسرائيل المتعلقة بالنكبة، والمتمثلة حينها في أعمال “المؤرخين الجدد” الذين قبلوا بالخطوط العريضة للرواية الفلسطينية، كان قد انتهى وعفا عليه الزمن. فها هو بيني موريس، وهو من رواد “المؤرخين الجدد”، يتراجع عن انتقاداته المبكرة في عمله الأشهر الذي صدر بعد الانتفاضة الثانية وهو “ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين”، بل إنه كان سعيداً بالعودة إلى تبنّي الرواية الصهيونية عن النكبة، وباحتضان الأوساط الأكاديمية له من جديد.[10] لقد انحرفت الدولة اليهودية إلى اليمين سياسياً بعد سنة 2000، وكذلك فعلت الجامعات.
أصبح كاتس منبوذاً في الكيبوتس الذي يعيش فيه، وتحول بعد إصابته بجلطتين دماغيتين من ذاك الإنسان الفذّ والمفعم بالطاقة إلى مُقْعد على كرسي متحرك. وبما أنني كنت لا أزال حينها عضواً في هيئة التدريس في جامعة حيفا، فإنني بذلت ما في وسعي كله لتغيير سياسة الجامعة، الأمر الذي كلّفني عملي في نهاية المطاف على الرغم من كوني أستاذاً مثبتاً. ونشرتُ أيضاً مقالة بالعبرية والإنجليزية بَنَيْتُها على أساس بحثي الخاص عن الطنطورة، مؤكداً وقوع مجزرة في القرية، لكن أحداً لم يتجرأ على أخذي إلى المحكمة.
في تلك الفترة تعرضنا كاتس وأنا للهزء والسخرية في الإعلام الإسرائيلي، بما فيه صحيفة “هآرتس” المفترض أنها ليبرالية، وكذلك من المؤسسة الأكاديمية، ووصلت الأمور إلى حد اتهامنا بالخيانة.
الآن، تمكّن مخرج الأفلام الإسرائيلي “ألون شوارتس” من الوصول، وفي اللحظة الأخيرة، إلى أولئك اليهود الذين أنكروا اعترافاتهم لكاتس في سنة 2001، والتي بنت المحكمة قضيتها على أساسها.[11] لقد اعترف هؤلاء، في تسعينيات عمرهم، وأمام الكاميرا، بأن كاتس قال الحقيقة، وأنه سجل بأمانة كاملة روايتهم لما حدث في سنة 1948. ولم يتوقف شوارتس عند هذا الحد، وإنما استعان بأحدث تقنيات التصوير للكشف عن القبور الجماعية الموجودة في الأماكن التي ذكرها شهود العيان اليهود والفلسطينيون خلال استذكارهم ما حدث في سنة 1948، كما نجح في حضّ القاضية التي كانت حاضرة في المحاكمة الأصلية، على الاعتراف بأنها لم تستمع فعلياً إلى الأشرطة المسجلة من قبل، فأبدت استعداداً للاستماع إليها في الفيلم، وشعرت بالرعب بعدما استمعت إلى الأشرطة، واعترفت بأن الحكم كان يمكن أن يكون مختلفاً جداً (كحياة كاتس التي كانت ستأخذ مساراً آخر).
ثلاثة استنتاجات
أولاً: هذه الواقعة تعيد إنتاج السؤال عن أهمية جمع الأدلة الإسرائيلية والصهيونية عن النكبة، علماً بأن الفلسطينيين ليسوا بحاجة إلى مؤرخين جدد ليخبروهم أنهم تعرضوا لتطهير عرقي في بلادهم، كما أن الفلسطينيين الناجين من المجازر الصهيونية ليسوا بحاجة إلى أفلام وثائقية تقنعهم بأنهم ضحايا جرائم حرب. لكن عندما يكون ضحايا جرائم الحرب هذه، هم شهود العيان الوحيدون على ما تعرضوا له، وخصوصاً إذا كانوا فلسطينيين، فإن أدلتهم في الغالب تواجَه بالرفض، بل بعدم القبول بها كلياً. أمّا إذا اعترف المجرمون أنفسهم بارتكاب الجرائم – وفي هذه الحالة هم الجنود الإسرائيليون – فإنه بالنسبة إلى العالم بأكمله، وربما إلى بعض اليهود من أصحاب الضمائر الحية في إسرائيل، فإن هذه الجرائم تصبح حقيقة.
ثانياً: هذه الواقعة تعيد صوغ حدود الحرية الأكاديمية في “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، فبعد سنة 2000، أُثبطت همم كثيرين من طلاب الدراسات العليا وأعضاء الهيئات التدريسية من الإشارة إلى النكبة كجريمة، أو كسلسلة ممتدة من الجرائم، كما أُتبع اضطهاد كاتس والرقابة الشاملة، بقرارات حكومية في سنة 2016، تنصّ على إعادة تصنيف العديد من الوثائق الأرشيفية المتعلقة بسنة 1948، والتي كانت في السابق متاحة للباحثين.[12] لكن مؤخراً سُمح لبعض المؤرخين بالاطلاع على بعض تلك الوثائق الأرشيفية، فاكتشفوا مجدداً جرائم حرب جديدة ارتُكبت في سنة 1948؛ غير أن هؤلاء المؤرخين هم موضع ثقة بأنهم لن ينسبوها إلى الأيديولوجيا الصهيونية (خلافاً لما قمتُ به أنا على سبيل المثال). هذا الأسلوب البحثي القائم على اجتزاء النص من سياقه وإلغاء التاريخ لم يعد مقبولاً قط عندما يتعلق الأمر بأبحاث عن النكبة خارج إسرائيل، وبسياق الاهتمام المستجد والمتزايد بالدراسات الفلسطينية في أنحاء العالم كافة.[13]
إن عودة ظهور نموذج الاستيطان الاستعماري في مجال الدراسات عن فلسطين (والذي دعا إليه بداية مؤرخون فلسطينيون أمثال فايز الصايغ وجميل هلال)،[14] تشير بوضوح إلى أن منطق الحركة الصهيونية في سنة 1948 وما بعدها، هو المنطق نفسه لدى الحركات الاستعمارية الاستيطانية في كل مكان: إزالة السكان الأصليين.[15] وبالتالي، فإن المجازر ليست استثناءات لا تؤكد القاعدة، وإنما هي جزء لا يتجزأ من مشروع الاستعمار في فلسطين.
ولهذا، يتوجب علينا ألّا ننسى أن هذه المجزرة هي عبارة عن جريمة من سلسلة ممتدة من الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها إسرائيل منذ سنة 1948، وما زالت مستمرة في ارتكابها حتى يومنا هذا؛ وهي جرائم لا تزال تواجَه بالإنكار. أمّا الأفلام أو الأطروحات التي ينجزها بعض الإسرائيليين من أصحاب الضمائر الحية، فليست كافية لتصحيح هذه الجريمة، بل إن هناك خطراً دائماً متمثلاً في رغبة الليبراليين الصهيونيين والجامعيين وبعض الصحف كصحيفة “هآرتس”، في امتلاك الجريمة والغفران في آنٍ معاً،[16] وهو ما يسميه الإسرائيليون: “نطلق الرصاص ونبكي [فيما بعد]”، كأن هذا البكاء يطهّر تصرفاتهم وضمائرهم، ويسمح لهم مجدداً بتكرار الجريمة نفسها في المستقبل.
ثالثاً وأخيراً: إنه أمر أساسي وحاسم أن نعي أن النهاية الوحيدة الملائمة لإيقاف هذا الإجرام المستمر تكمن في نزع الاستعمار عن فلسطين التاريخية كلها، وتطبيق حق العودة. ففي فلسطين حرة وديمقراطية وتاريخية ربما تكون فكرة بناء نصب تذكاري في قرية الطنطورة خطوة ذات مغزى للتذكير بما حدث على أرضها في الماضي، ذلك بأن ظهور قضايا مثل قضية الطنطورة وغيرها على صفحات صحف صهيونية ليبرالية فقط كصحيفة “هآرتس”، سيزيد الإهانة إلى الإساءة ما لم يتم اعتماد معالجة محسوسة من أجل تصحيح شرور الماضي كافة.
* مقالة بالإنجليزية خاصة بـ “مجلة الدراسات الفلسطينية”، بعنوان: “Tantura: Then and Now”.
ترجمة: بانة عبد الله ماضي.
المصادر:
[1] Walid Khalidi (editor), All That Remains: The Palestinian Villages Occupied and Depopulated by Israel in 1948 (Washington: Institute for Palestine Studies, 1992); Benny Morris, The Birth of the Palestinian Refugee Problem, 1947-1949 (Cambridge: Cambridge University Press, 1987).
[2] محمد نمر الخطيب، “من أثر النكبة” (دمشق: المطبعة العمومية، 1951).
[3] لقد أخبر شهود عيان اثنين من الصحيفة عن المجزرة، ونُشر ما أخبروه في سنتَين مختلفتين: الأولى في تقرير لمحمد حسني نجيب في سنة 1991، والثانية لرندا أبو عبد في سنة 1997.
[4] يحيى محمود اليحيى،”الطنطورة: قرية دمرها الاحتلال الصهيوني” (دمشق: دار الشجرة للنشر، 2001)، ص 119 – 123.
[5] انظر:
Ilan Pappe, “The Tantura Case in Israel: the Katz Research and Trial”, Journal of Palestine Studies, vol. XXX. no. 3 (Spring 2001), pp. 19-39.
[6] نشر الصحافي أمير غيلات في “معاريف” تقريرين متتاليين، الأول في 21 كانون الثاني / يناير 2001 بعنوان “جيش الدفاع الإسرائيلي ارتكب مجزرة”، وفي 4 شباط / فبراير 2001 بعنوان “الطنطورة”.
[7] Ilan Pappe, The Ethnic Cleansing of Palestine (Oxford and New York: Oneworld, 2006), pp.133-137.
[8] Mustafa al-Wali, “The Tantura Massacre, 22-23 May 1948”, Journal of Palestine Studies, vol. XXX, no. 3 (Spring 2001), pp. 5-14.
[9] انظر: “مسيرة ذكرى شهداء الطنطورة بعد غد الجمعة”، “عرب 48″، 23 / 10 / 2015، في الرابط الإلكتروني.
[10] Joel Beinin, “No More Tears: Benny Morris and Road Back from Liberal Zionism”, Middle East Report (MERIP), no. 230 (Spring 2004), pp. 38-45.
[11] لمزيد من المعلومات عن وثائقي “الطنطورة” للمخرج ألون شوارتس، انظر موقع IMDb، في الرابط الإلكتروني.
[12] Ilan Pappe, “An Indicative Archive: Salvaging the Nakba Documents”, Journal of Palestine Studies, vol. 49, no. 3 (Spring 2020), pp. 22-40.
[13] Rona Sella, “A Question of Responsibility”, Jerusalem Quarterly, no. 85 (Spring 2021), pp. 137-144, discusses this phenomenon.
[14] Fayez Sayigh, “Zionist Colonialism in Palestine (1965)”, Settler Colonial Studies, vol. 2, no. 1 (2001), pp. 206-225;
ورقة قدمها جميل هلال في سنة 1979 بعنوان:
“Imperialism and Settler Colonialism in West Asia: Israel and the Arab Palestinian Struggle”.
وذلك خلال مؤتمر في كلية العلوم السياسية في جامعة دار السلام، بعنوان:
“Imperialism and Revolution in Southern Africa”.
[15] Patrick Wolfe, “Settler Colonialism and the Elimination of the Native”, Journal of Genocide Research, vol. 8, issue 4 (2006), pp. 387-409.
[16] Ilan Pappe, “Can Settler Colonialism be Liberal and Apartheid be Progressive?”, Palestine Chronicle, 13 December 2021.السيرة الشخصية:
إيلان بابِهْ: مؤرخ وأكاديمي إسرائيلي.
عن مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 130- ربيع 2022