الضم هو الحلقة ما قبل الأخيرة لاستكمال تنفيذ وعد بلفور ، ولا سبيل لمواجهته الا في اطار مشروع نهضوي تحرري نقيض يستهدف هزيمة الصهيونية وتفكيك نظامها العنصري
خاص ملتقى فلسطين
يتكرر سؤال ما العمل ؟ في كل مرة يواجه فيها الشعب الفلسطيني بوادر نكبة جديدة.
ويزداد الإلحاح على إعادة طرحه مع اقتراب حلول النكبة الثالثة من حيث الترتيب بعد النكبتين الأولى عام 1948 ، والثانية عام 1967 . وتنامي أخطارها الوجودية المتوقع ان تطال تداعياتها الكل الفلسطيني داخل الوطن وفي الشتات . في ظل تواصل غيبوبة منظمة التحرير الفلسطينية لنحو ثلاثة عقود متصلة . إثر ولادة قيصرية مبكرة لجنين تشارك العالم بأسره في تخليقه / السلطة الوطنية الفلسطينية / . والتي عزلت منذ الولادة – كما الأطفال الخدج –
في حاضنة صممت خصيصا من قبل رعاة عملية التسوية السياسية الامريكية – الاسرائيلية ، للإشراف على تأهلها لاداء دور الوريث للمنظمة الأم . التي أبقيت على قيد الحياة بمساعدة أجهزة التنفس الاصطناعي ، تحسبا للحاجة لإعادة إحيائها للمصادقة على الاتفاق النهائي لطي الملف الفلسطيني .
فهي وحدها التي حظيت بتفويض شعبي فلسطيني جامع لقيادة المشروع الوطني التحرري . ثم وظفت هذه الشرعية لاحقا في إقرار البرنامج المرحلي عام 1974 ، للحصول على اعتراف النظام العربي الرسمي بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده ، والقبول بها كعضو مراقب في الجمعية العامة للامم المتحدة . واستكملت التأهل للقبول الدولي بها / الغربي والأمريكي خصوصا / كأحد أطراف التفاوض لحل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي . بالتزامها الرسمي المسبق عام 1988 بقراري مجلس الامن 242 و 338 . وموافقتها ، بذلك ، عمليا ، على إقفال ملف نكبة عام 1948 بخصوص الأراضي ( 78%) ، بعد استعصاء دام أكثر من عقدين / منذ قرار قمة الخرطوم – المعروفة باللاءات الثلاث – باختزال الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني الى إزالة آثار عدوان 1967 / . والذي ، ربما كان متعذرا ، لو بقيت بين جماهير شعبها ولم يتم اقتلاعها بالقوة من آخر معاقلها في لبنان وتشتيتها في المنافي البعيدة .
غير ان إذعان القيادة وقبولها بهذين القرارين ، وبذلك ، إخراج الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1948 من دائرة التفاوض لحل الصراع ، لم يؤهلها سوى للسماح بدخول عملية التسوية السياسية الأمريكية في مؤتمر مدريد عام 1991 عبر وفد فلسطيني مختار من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 -يحظى بقبول شعبي وتوافق عليه المنظمة – تحت المظلة الاردنية ، ويتابع التفاوض في واشنطن .
وتحت وطأة ضغط الخوف المزمن – غير المبرر آنذاك – من القيادة البديلة ، واصلت قيادةالمنظمة السعي للتأهل للاعتراف بها كطرف أصيل بالقفز للمجهول والدخول في تسوية سياسية مباشرة مع الحكومة الاسرائيلية عبر مفاوضات سرية في أوسلو ، أهلتها للخروج من المظلة الأردني والاعتراف بها اسرائيليا كممثل فلسطيني للتفاوض على تسوية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 ، والذي يعني، سياسيا، القبول باعتبارها اراض متنازع عليها، وما أدى لاحقا الى محاصرتها لاجبارها على التسليم بحق اسرائيل في السيطرة على كامل الوطن الفلسطيني من البحر الى النهر .
أردت بهذا الإيجاز المكثف لمسار الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ، الإشارة الى :
أولا : أن السير بلا بوصلة توجهها مرجعية واضحة ترتبط بالحقوق الوطنية والتاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني في أرض وطنه وبحقه المشروع في تقرير مصيره عليها ، وتوجه النضال التحرري الفلسطيني . هو المسؤول الرئيس عن الإخفاق الفلسطيني المتواصل في مواجهة مشروع نقيض لتحالف استعماري – صهيوني يتمسك ببوصلة توجهها مرجعية واضحة أوجزها “وعد بلفور ” ، ترتبط بحق القوى الاستعمارية المتنفذة في استبدال فلسطين باسراييل ، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني الأصيل بالمستوطنين اليهود الأجانب ، لإنشاء كيان استعماري استيطاني وظيفي مؤهل لحماية مصالحها الحيوية وإدامة الهيمنة الإمبريالية على عموم المنطقة .
ثانيا : أن إخفاق الحركة الوطنية الفلسطينية لا يعود – كما يروج الكثيرون – إلى خيانة وفعل تآمري واع للقيادة – التي لا أشك شخصيا بوطنية غالبيتها – ، دون نفي تورط البعض بأفعال ترقى إلى مستوى الخيانة . فالطريق إلى جهنم مليء بذوي النيات الحسنة . بل يعود هذا الإخفاق أساسا :
إلى جهل كامل بطبيعة الصراع الوجودي الذي فرض على الشعب الفلسطيني قسرا بحكم موقع فلسطين الجيو – استراتيجي ، وطول أمده . وإلى افتقارها إلى رؤية شاملة ومشروع نهضوي تحرري فلسطيني نقيض في مواجهة الرؤية الاستعمارية والمشروع الاستيطاني الصهيوني .
وإلى استسهال إدارة الصراع بمنهج التجريب المحكوم بردود الأفعال على وقائع منجزة ، والانطلاق منها كحقائق يتم التكيف معها تحت ضغط الصدمات المتتالية التي تنسي أهوالها المستجدة ما سبقها . ما تسبب بحرف النضال الفلسطيني عن هدفه التحرري الرئيس ، واخضعه لأحكام المراحل والبحث في كل منها عن مخارج من المآزق المتتابعة .
والى التخلف الحداثي، وتداعيات ذلك فكريا وثقافيا وبنيويا وسلوكيا وتنظيميا وإداريا ، وادى إلى غياب التقييم الموضوعي الدوري لمسيرة النضال الوطني الفلسطيني ، وانعدام النقد الذاتي البناء ، وسيطرة الثقافة السلطوية / العشائرية والابوية / وهشاشة البناء المؤسسي ، والافتقار إلى الديموقراطية وغياب المساءلة والمحاسبة .
وإلى النزعة الشخصية لدى بعض القادة بدخول التاريخ ، وهذه ليست خاصية تقتصر على فلسطين . إذ يحفل التاريخ الإنساني المدون بنماذج عديدة لقادة سكنهم هذا الهاجس وتسببوا لبلادهم وشعوبهم بكوارث وويلات .
ثالثا : أن نجاح الحركة الصهيونية في إقامة الكيان الصهيوني ومواصلة تقدمه وتوسعه لا يعود إلى تفوق العقل اليهودي – كما يراد لنا ان نعتقد – وانما أساسا :
إلى الارتباط العضوي الوثيق بين المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني الخاص وبين المشروع الامبريالي التوسعي العام للقوى الامبريالية الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى .
وإلى الوعي الكامل بالهدف النهائي للمشروع الصهيوني ، وبطول أمد بلوغه ، وبشروط تحقيقه /الذاتية والموضوعية/ . والمعرفة الدقيقة بمستلزمات توفيرها بتحقيق الإنجازات والبناء التراكمي عليها .
وإلى الإدراك لأهمية تتابع الأولويات وأهمها : أولوية الوطن على الدولة ، وأولوية الاستيطان على السيادة ، وأولوية الاعتماد على الذات على الربحية ، وأولوية تحقيق الإنجاز على إعلانه لتكريسه . فقد جرى بناء اسرائيل على مدى نصف قرن كامل وعندما تم إعلان قيامها في 15/5/1948 كانت الدولة قائمة بالفعل . كما أن الضم الفعلي الذي يحتدم النقاش بشأن إعلانه حاليا بدأ ، ايضا، مباشرة بعد الاحتلال في العام 1967 ، وتسارعت وتائره بشكل كبير بعد اتفاق اوسلو ، وبات الآن واقعا قائما ينتظر فرصة الإعلان عنه لتكريسه رسميا ، وهو ما استهدفته صفقة القرن.
وإلى التقدم الحداثي للغرب الذي تنتمي له الحركة الصهيونية ، وتداعيات ذلك على القيادة والتخطيط والبرمجة والتنظيم والمأسسة والإدارة وآليات التداول السلمي للسلطة وتفعيل ادوات الرقابة والمساءلة والمحاسبة .
بكلمات أخرى ، فإن ما اعتدنا فلسطينيا وعربيا على نسبه لمشيئة القدر ، ما هو في الحقيقة الا نتاج لفعل إنساني ، يؤهل البعض لصنع أقدارهم بأنفسهم عندما يمتلكون الهدف والإرادة والمشروع والبرنامج ويثابرون على تحقيقه مهما طال الزمن وعظمت التضحيات .
فيما يعجز البعض الآخر الذي يضل طريقه ويضيع هدفه ويفقد بوصلته ويقتصر نضاله على ردود أفعال على تغييرات يصنعها العدو ، فيسهم ، بذلك ، في انتصار عدوه وتسريع سقوطه .
وأن إخفاق الحركة الوطنية الفلسطينية في بلوغ أهدافها التحررية رغم امتلاكها مشروعية وقوة الحق . ونجاح الحركة الصهيونية في تحقيق مشروعها الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ومواصلة تقدمه رغم افتقاره للمشروعية وارتكازه على حق القوة . إنما يتصل بسياسات وسلوكيات كل منهما على مدى أكثر من قرن من الصراع .
فالفلسطينيون بإخفاقهم في فهم وإدارة الصراع الوجودي ، والانحراف عن هدفهم التحرري الرئيس ، والاستعاضة عنه بأهداف مرحلية متغيرة تمليها موازين القوى – القابلة للتغيير عند امتلاك الإرادة والوعي – أضاعوا بالتدريج وطنا كان كله لهم .
والمستعمرون الصهاينة في تمسكهم بأهدافهم ، وامتلاك مهارة إدارة الصراع وتوظيف جهل وضعف أعدائهم غيروا موازين القوى لصالحهم واستولوا على وطن بالتدرج يوشك ان يصبح كله لهم .
واللافت ان الفلسطينيين ما يزالون يدورون في ذات الحلقة المفرغة . فمع انكشاف العجز الفلسطيني والعربي والدولي الكامل أمام خطر الضم الذي يتبدى – رغم تأخر إعلانه رسميا – كقدر محتوم لا راد لقضائه ، على عكس ما يروج له الحالمون ، المصطفون في طوابير الانتظار المزمن على مدى عقود طويلة ، لتغييرات قد تأتي بها الانتخابات الأمريكية المتتابعة كل أربع سنوات . أو الانتخابات الاسرائيلية التي باتت تستجد كل بضعة أشهر بسبب احتدام التنافس بين قواها الأكفا / سرعة وكلفة / في استكمال تنفيذ المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ، كما خطط له في وعد بلفور 1917 في كامل فلسطين الانتدابية. فيما النخب الفلسطينية على اختلاف مواقعها الرسمية والأهلية وتاريخها السياسي والحزبي والتنظيمي وانتماءاتها الفكرية والعقائدية ، تواصل التدافع من كل حدب وصوب – كما اعتادت في كل الفزعات التي تلي النكبات وتسبق إعلانها -، لإعادة طرح السؤال المتجدد المعروض برسم الإجابة منذ أكثر من قرن . ما العمل ؟
ويتنافس الجميع باستعراض قدرتهم على التشخيص والتحليل والتنبيه والتحذير والتلويح بالعواقب والتهديد بالبدائل ، والتي يبدو أنها اكتسبت زخما كبيرا بفعل جائحة الكورونا التي تسبب بها الفيروس التاجي المستجد / كوفيد 19 / ، وتربصه بالجنس البشري على امتداد الكرة الأرضية قتلا وتجويعا ، وما استوجبه التصدي له من حجر منزلي إلزامي غير مسبوق في التاريخ الإنساني المدون ، من حيث شموليته العالمية وطول أمده الزمني . وأتاح للفلسطينيين فرصة لم يسبق لها مثيل في تاريخهم الحديث للتأمل والتفكر في حالهم – تحت وطأة ضغط مركب : من القلق الوجودي العام بسبب الفيروس التاجي المستجد الذي يتربص بالخلق جميعا .
والقلق الوجودي الخاص من الفيروس الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المستجد الذي تم تحديثه أمريكيا واسرائيليا مؤخرا ، وسمي ” بصفقة القرن ” ، ويستهدف استكمال آخر حلقات تحقيق وعد بلفور ، بتغييب الوجود الوطني الفلسطيني داخل ارض فلسطين الانتدابية ، بالتصفية المتزامنة لنصف الشعب الفلسطيني المقيم على أرض الوطن / داخل الخط الأخضر والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة / ، ولنصفه الآخر اللاجىء الملاحق في الشتات ، والذي تتواصل عملية تصفية مخيماته تباعا في العراق ولبنان وسوريا .
وكأن الشعب الفلسطيني بات عصيا على التعلم من تجاربه المريرة تنقصه التجارب بعد مرور أكثر من قرن على بدء بدء الغزوة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية ، ونكبتين متتاليتين يفصلهما أقل من عقدين . وثورات توالت على امتداد الصراع ، ومئات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى ، وملايين المشردين المقتلعين بالقوة من ديارهم والمطاردين ، من الأعداء . وذوي القربى من مضيفيهم كلما ضاق بهم الحال لسوء وفساد الحكام والمسؤولين وتآمر الخارج على اوطانهم لتفكيكها.
ما يرشح الشعب الفلسطيني بجدارة لاستحقاق دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية باعتباره :
الأكثر استعصاء على الاستسلام ، رغم تواصل حروب إبادته على مدى ثمانية ربما عقود متصلة ، والأقل دراية بطبيعة الصراع الوجودي الذي يفرضه عليه عدوه ومستلزمات إدارته .
والأكثر استعدادا للبذل والعطاء في ميدان الاستشهاد والجرح والأسر على امتداد خمسة أجيال متتالية ، والأقل اقترابا – رغم جسامة التضحيات – من بلوغ أهدافه التحررية .
والأكثر انخراطا في التنظيمات السياسية والحزبية والنقابية والمنظمات غير الحكومية التي ربما يفوق عددها وتنوعها مجموع ما تمتلكه دول المنطقة ، والأقل إلماما بقواعد الممارسة السياسية والحزبية والنقابية والجماهيرية .
والأكثر تحطيما للأرقام القياسية العالمية في عدد القادة العابرين للأجيال ، رغم أنه الأكثر فتوة في التركيب العمري ، حيث لا تزيد نسبة الفئة العمرية التي تزيد عن 65 سنة ، عن 3% من مجموع الشعب الفلسطيني ، والتي ينتمي لها جميع قادة المؤسسات الرسمية والأهلية الفلسطينية / باستثناء اللجان والروابط الطلابية في المدارس والجامعات / . بل ان 38% من ابناء الشعب الفلسطيني يقعون ضمن الفئة العمرية من 0-14 ، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للاحصاء الفلسطيني في منتصف 2019 .
والأكثر اهتماما بدراسة التاريخ والأقل استرشادا بمدلولاته .
والأكثر إنتاجا للدراسات والأبحاث العلمية والتحليلية المتصلة بمختلف جوانب القضية الفلسطينية والأقل توظيفا لنتائجها في عملية صنع القرار في المجالات كافة .
والأكثر إسهاما في بناء مؤسسات واقتصادات دول المنطقة ، بما في ذلك اقتصاد العدو . والأقل مقدرة على بناء الذات .
والأكثر تميزا وتفوقا وإبداعا على المستوى الفردي ، والأقل كفاءة على المستوى الجمعي .
والأكثر مطالبة بالديموقراطية التي لا تتسع حدودها للمرؤوسين .
والأكثر وفاء بالتزامات التنسيق الأمني غير المسبوق في التاريخ الانساني ، الذي يلزم المعتدى عليه / الضعيف الأعزل/ ، بتأمين المعتدي / الدولة السادسة في تصدير الاسلحة على المستوى الدولي ، والدولة النووية الوحيدة في المنطقة والتاسعة على الصعيد العالمي .
وكان بالإمكان تفهم اعتبار التنسيق الامني “مقدسا ” لو اقتصر على تحييد متواز للمدنيين الاسرائيلين والفلسطينيين وإخراجهم من دائرة الصراع . وتعريف المدنيين في القانون الدولي واضح ولا يشمل القوات العسكرية ، ولا المستوطنون في المناطق المحتلة وفقا لتصنيف القانون الدولي . فيما واقع الحال يشير الى التزام فلسطيني أحادي لقوى الامن بملاحقة ولجم الشباب الفلسطيني الفتي الذي يتصدى بالحجر والسكين لهجمات الجيش الاسرائيلي ومستوطنيه المدججين بالاسلحة ضد ابناء الشعب الفلسطيني الأعزل ويستبيحون قتل وحرق واعتقال الأطفال والنساء والشيوخ، ويصادرون الممتلكات ويقتلعون المقابر والأشجار وينتهكون حرمة المقدسات . وتجبر قوى الأمن الفلسطينية المفترض بها حمايتهم على التواري لحين انتهاء الغارات .
والأكثر تهاونا مع القادة والنخب ازاء تكرار ذات التجارب الفاشلة في إدارة الصراع الوجودي المتواصل للقرن الثاني على التوالي .
فاذا ما توافقنا على صحة توصيف حالنا ، وأغلب الظن أننا جميعا نتفق على دقته ، لان ما أوردته أعلاه ليس نتاجا لجهد بحثي ذاتي ، وإنما هو تلخيص أمين لمتابعة ما يردده أبناء الشعب الفلسطيني – سرا وعلانية – في كافة أماكن تواجدهم داخل الوطن وفي الشتات ، وما تحفل به الدراسات والأبحاث والكتب والتقارير والندوات ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية ووسائل التواصل الاجتماعي .
وإذا ما اتفقنا ، أيضا ، على أن مرحلة أوسلو توشك على بلوغ نهاياتها بانكشاف انسداد كافة الآفاق أمام إمكانية اي تسوية تفاوضية لحل الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي ، لسبب جوهري لا علاقة له بالشعب الفلسطيني . وانما لتمسك التحالف الاستعماري – الصهيوني باستكمال تنفيذ ذات المشروع الاستعماري الغربي – الصهيوني الهادف لاستبدال فلسطين باسراييل ، واستبدال شعبها العربي الفلسطيني الأصلاني بالمستعمرين المستوطنين الأجانب من اليهود ،
ومن يقتضي الدور الوظيفي -الذي ارتكز عليه قرار إنشاء اسرائيل – تهويدهم .
يصبح سؤال ما العمل ؟ الذي يتكرر طرحه فلسطينيا في كل مرحلة مفصلية ، خطأ استراتيجي جسيم ، ما لم يتم استكماله بالسؤال الجوهري حول ماهية الصراع الوجودي الذي اختار القدر الشعب الفلسطيني – رغما عنه لخوضه – ، والذي سبق تناوله بإسهاب في مقال سابق بتاريخ 2/7/2020 بعنوان ” مأزق الفلسطينيين ” . وعرضت تطور مراحله بالتفصيل في مقال لاحق بتاريخ 12/7/2020 بعنوان ” تكرار ذات التجارب لا يؤدي إلى نتائج مغايرة ” .
ويصبح من غير المقبول مواصلة البحث عن إجابات بالتشكيك بالمناهج النضالية ، واستسهال لومها عوضا عن تسليط الضوء على جهل منتهجيها بقواعد إدارة الصراع الوجودي ، الذي لا يستثني اي منهما .
العنفي ، الذي أثبت فاعلية في كافة تجارب حركات التحرر العالمي . وفشل فلسطينيا لأنه لم يندرج ضمن استراتيجية كفاحية طويلة المدى متعددة المناهج لهزيمة الصهيونية وفقا لمعادلة الكلفة والعائد التي تضمن استمراره .
ولأنه وان استمر سلوكا كفاحيا متقطعا لنحو ثلاثة عقود ، إلا أنه توقف عن أن يكون منهجا فاعلا لتقويض الاستقرار ورفع كلفة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني / اللذان يشكلان ضرورة لا غنى عنهما لهزيمته / بعد أقل من عقد من انطلاق الثورة الفلسطينية . وتحول بعد إقرار البرنامج المرحلي في العام 1974 إلى أداة ضغط انتقائية لتحسين شروط التسوية السياسية – غير المسبوقة تاريخيا – بتقاسم الوطن الفلسطيني بين أصحابه الأصلانيين والغزاة المستوطنين الأجانب وفقا للأقدمية الزمنية لاستعمار فلسطين /مقايضة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 /22%/بالأراضي الفلسطينية عام 1948 / 78% / وحل قضية اللاجئين .
والتفاوضي ، الذي فشل فلسطينيا ، لإغفال قيادته أن القوة الرئيسة للشعب الفلسطيني تكمن في عدالة قضيته . وان مسألة العدالة باتت احدى أهم القضايا التي تستأثر باهتمام شعوب العالم على امتداد الكرة الارضية . وهذا ما دلل عليه تعاظم التضامن الدولي مع انتفاضة أطفال الحجارة (1987-1993 )التي كشفت فداحة الظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطينى ، وأتت بعد خمس سنوات من أطول حروب اسرائيل عام 1982 وأكثرها شراسة برا وبحرا وجوا ، واستعملت اسرائيل في هجومها على بيروت أسلحة محرمة دوليا بدءا من القنابل العنقودية والفسفورية مرورًا بالنابالم وألعاب الأطفال المفخخة، وانتهاء بقنابل بخار الوقود ، وزجت بثلث جيشها العامل لملاحقة ومحاصرة بضعة آلاف من الثوار في بضعة كيلومترات غرب بيروت طوال 88 يوما ، تم خلالها مسح كامل لثلث بيروت من الخارطة، وقتل خلالها آلاف الفلسطينيين والمدنيين اللبنانيين ، واعترفت اسرائيل رسميا بمقتل 675 جنديا ، وانتهت بموافقة القيادة على اتفاق لوقف اطلاق النار بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل قادها المبعوث الأمريكي فيليب حبيب لإخراج مقاتليها ، وتعهد الرئيس الأمريكي ريغان بموجبه بالحفاظ على أمن المدنيين الفلسطين بعد مغادرة مقاتليها لبيروت باسلحتهم الخفيفة تحت حماية دولية أمريكية وفرنسية وإيطالية . تم توزيعهم استناداً لأرقام وزارة الخارجية الأمريكية (تونس 970 ، الاردن 261 ، العراق 136، اليمن الجنوبي 1.093، اليمن. الشمالي 841 ، السودان 448 ، الجزائر 588 ، سوريا 3900 ) . ولم يكد يغادر المقاتلون الفلسطينيون بيروت حتى اقتحمها الجيش الاسرائيلي وأشرف وزير حربها أرييل شارون ورافائيل ايتان شخصيا على تنفيذ مذابح في مخيمي صبرا وشاتيلا ، شارك فيها الجيش الاسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي وقوات حزب الكتائب اللبناني بقيادة ايلي حبيقة ، وتواصلت على مدى ثلاثة ايام متصلة / 16- 19 ايلول 1982 / ، وقتلوا نحو 3000- 5000 من المدنيين العزل وفقا لامنون كابيلوك الصحفي الاسرائيلي في كتابه ” تحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا” غالبيتهم الساحقة من الفلسطينيين وبعض اللبنانيين ، ومعظمهم من الاطفال والنساء والشيوخ .
ولم تقدر القيادة الفلسطينية ان استعصاء الشعب الفلسطيني على الاستسلام ، ليس فقط نصفه اللاجىء في المنافي ، وانما ، أيضا ، نصفه القابع تحت الاحتلال ، هو الوحيد الذي يمتلك حق إنهاء الصراع باعتباره الضحية صاحب الحق والوطن . وان شرعية الكيان الصهيوني مهما بلغت قوته الذاتية واستقواءه بالقوى الدولية المتنفذة تبقى منقوصة ومهددة ، طالما بقي الشعب الفلسطيني عصيا على الخضوع والاستسلام ومصمما على نيل حريته مهما طال الزمن وعظمت التضحيات .
واعتقدت القيادة خطأ ، أن القبول بالظلم التاريخي كاف لإقناع الظالم بالتوقف عن الإمعان في ظلمه . وبأن السارق يمكن ان يكتفي بأربعة اخماس الوطن اذا ما اكتفى أصحابه بالخمس . وقبلت الانخراط في مفاوضات محسومة النتائج مسبقا ، بسبب الاختلال الهائل في موازين القوى المحلية والعربية والاقليمية والدولية بين أطراف التفاوض . وانخرطت في عملية مفاوضات تواصلت على مدى ثلاثة عقود متصلة ، وأخفقت في إتمام أي نوع من المقايضة التي راهن عليها النظام السياسي الفلسطيني منذ العام 1974 / القوى المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية -الفصائل الوطنية / ولاحقا قوى الإسلام السياسي / خارج المنظمة / والمستقلون . رغم وجود فوارق في شروط المقايضة .
ومن دون إدراك كل ذلك للإجابة على سؤال ما العمل ، سنبقى ندور حول انفسنا ، بالبحث عن بدائل وهمية لا وجود لها لحل الصراع ، بل ولم يعد يؤمن بها حتى مروجوها .
تارة بالبحث عن حل تفاوضي عبر حل الدولتين ، على أساس مقايضة ما احتل عام 1967 /
22% / بما سبق احتلاله عام 1948 / 78%/
– وتارة ثانية عبر حل الدولة الواحدة ، بالدعوة للنضال في إطار نظام الفصل العنصري للوصول إلى حقوق مواطنة متساوية عند تعذر منع الضم الرسمي
– وتارة ثالثة بالمطالبة بدولة ثنائية القومية ، في الوقت الذي تقر فيه اسرائيل قانون يهودية الدولة لاستكمال سحب المواطنة من خمس سكانها الفلسطينيين ، وتحول سكان القدس الى مقيمين في العاصمة بلا حقوق وطنية ، وبتقييد متعاظم لحقوقهم المدنية والدينية ، والمضي قدما في فرض السيادة على المستعمرات الاستيطانية والأغوار ، في محاولات مستميتة لاجتثاث الشعب الفلسطيني بتكثيف مصادرة الاراضي وهدم البيوت واقتلاع الاشجار وتقييد حركته ومنع تواصله السكاني والإسكاني ومحاصرته في معازل متناثرة تمهيدا لاقتلاعه كليا من أرض فلسطين الانتدابية .
– وتارة رابعة بالدعوة لوحدة النظام السياسي الفلسطيني على قاعدة المحاصصة الفصائلية .
– وتارة خامسة بالدعوة لقانون تأسيسي ومجلس تاسيسي تمثيلي جامع لتجسيد الدولة .
– وتارة سادسة بالدعوة لانتخابات تشريعية ورئاسية ، وكأن تغيير الأشخاص وليس النهج / فكرا ورؤية ومشروعا نهضويا تحرريا يوجه السياسات والسلوك / يمكن ان يحدث التغيير المستحق فلسطينيا
– وأحدثها البحث عن مخارج بحل السلطة وإعادة المفتاح للمستعمر لتحمل مسؤولياته اتجاه الشعب الفلسطيني كسلطة احتلال ، أو اللجوء إلى المجتمع الدولي لتطبيق اتفاقية جنيف الرابعة / القسم الثالث الخاص بالأراضي المحتلة/
وآخرها ابداء الجاهزية لاستئناف التفاوض تحت إشراف الرباعية الدولية .
الا يستدعي كل ذلك التوقف عن الملهاة والعودة إلى جذر المأساة الفلسطينية ؟
بفهم جوهر الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي ، وبلورة رؤية نهضوية ، ومشروع تحرري إنساني نقيض يعطي الاولوية لاستعادة وحدة الشعب الفلسطيني على أساس القاسم المشترك الاعظم بين مكوناته كافة داخل الوطن وفي مخيمات الشتات ، ويحافظ على المنجزات المهمة التي حققها الشعب الفلسطيني عبر نضاله الطويل المتواصل للقرن الثاني على التوالي ، وتوفير مقومات الصمود المقاوم ، لتمكين الاجيال الجديدة من مواصلة النضال وإدارة الصراع الطويل وتوفير موجبات الانتصار ، ببناء الذات وتعزيز التحالف مع كل القوى الساعية للتحرر ومحاربة العنصرية وإحقاق العدالة الإنسانية ، والتي يتنامى حضورها الفاعل على امتداد العالم .