الصين و”الحياد المُنحاز”… الدعم لإسرائيل والكلام لفلسطين
أكدت الصين، في مناسبتين منفصلتين أخيرا، على موقفها الداعم للقضية الفلسطينية، حيث قال الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في كلمته في افتتاح أعمال قمة الرياض العربية الصينية للتعاون والتنمية، في التاسع من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري: “لا يمكن استمرار الظلم التاريخي الذي يعاني منه الفلسطينيون، ولا المساومة على الحقوق المشروعة”. أما المناسبة الثانية، فقد صوّتت الصين لصالح فلسطين في القرارات التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 30 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، وأهمها قرار لإحياء ذكرى النكبة الخامسة والسبعين في قاعة الجمعية في مايو/ أيار 2023.
تاريخيًا، كان الدعم الصيني لفلسطين مرتكزًا على الأيديولوجيا الاشتراكية في مواجهة الأيديولوجيا الرأسمالية الغربية وفي مقدمتها إسرائيل في الشرق الأوسط. ولكن، منذ عام 1979، تراجع الدور الصيني في الصراع، مقتصرًا على الدعم الخطابي، ودعم المبادرات الدولية الموجودة، والتصويت لصالح فلسطين في الأمم المتحدة. وفي 1992، وعلى إثر تطبيع علاقاتها رسميًا مع إسرائيل، ادّعت الصين أنها تتبنّى سياسة الحياد تجاه الصراع، وقدّمت ثلاثة مقترحات دبلوماسية لم تول لنفسها فيها أي دور قيادي، بل كانت تؤكّد على أهمية دور الأمم المتحدة وضرورة العودة إلى قرارات الشرعية الدولية في حل الصراع. وهو ما يُمكن تسميتها “دبلوماسية خلق الانطباع”، والتي تعني تعزيز الانطباع عن الصين دولة مسؤولة ضمن المجتمع الدولي، تسعى إلى المشاركة في إيجاد حلول للأزمات، ومن ضمنها القضية الفلسطينية.
تأخذنا “دبلوماسية خلق الانطباع” الأممية للصين إلى سياسة “الحياد المُنحاز” تجاه الصراع، ففي وقتٍ تدّعي فيه أنها داعمة للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، إلا أنه هناك مؤشّرات تظهر الانتهاك الصيني الواضح لحقوقه، وانحيازها لبعض جوانب الرواية الإسرائيلية التي تؤثرًا سلبًا على وضع الفلسطينيين في الصراع. وبذلك، تضع هذه المقالة شواهد رئيسية تدلّل على اصطفاف الصين عمليًا مع مواقف إسرائيلية صهيونية، وعدم اكتراثها بالحقوق الفلسطينية، وهنا بالضبط يكمن ما أصفه بـ “الحياد المُنحاز”، والذي يمثل واحدا من جوانب بروز “الصهيو – صينية”.
قلما تجد تصريحا صينيا بشأن الصراع أو في مجالات التعاون الإسرائيلية الصينية لا يربط بين إسرائيل وما تسميها الصين “الحضارة اليهودية”
1. الصين شريك في جريمة دولية: دعم يهودية الدولة الإسرائيلية
تبنت الصين، منذ اليوم الأول لتطبيع العلاقات، فكرة مفادها بأن إسرائيل دولة تمثل “الحضارة اليهودية” في العالم وتخاطبها بالدولة اليهودية، فقلما تجد تصريحا صينيا بشأن الصراع أو في مجالات التعاون الإسرائيلية الصينية لا يربط بين إسرائيل وما تسميها الصين “الحضارة اليهودية”. وبتتبع الخطابات الرسمية، والتي لا يمكن حصرها جميعها هنا، كان أولها تعقيب وزير الخارجية، تشيان تشي تشن، في أول خطاب رسمي صيني، على تطبيع العلاقات عام 1992، قائلًا، “أؤمن بأن الأمة الصينية والأمة اليهودية دولتان عظيمتان قدّمتا إسهامات ملحوظة في الحضارة الإنسانية، وستكونان قادرتين على تقديم مساهماتٍ جديدة للسلام والتنمية العالميين”. وقال رئيس الوزراء، لي بينغ، آنذاك، “تعرب الصين عن تعاطفها العميق مع معاناة الأمة اليهودية في التاريخ، هذه الأمة أمة مجتهدة وحكيمة، تخرّج العديد من المفكرين والعلماء المعروفين”. وحديثًا، قال الرئيس الصيني، شي جين بيغ: “الشعب الصيني والشعب اليهودي انسجما مع بعضهما بعضا … واليوم، الصين مستعدّة لمواصلة التبادلات رفيعة المستوى مع إسرائيل وإقامة آلية حكومية للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي”. وكان أحدث خطاب ما جاء على لسان السفير الصيني في إسرائيل، تساي رن، تعقيبًا على مرور 30 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل عام 2022، “الصين وإسرائيل حققتا تعاونًا مثمرًا في كافة المجالات منذ 1992، ويعود ذلك إلى الصداقة التي تمتد آلاف السنين للتبادلات الودية بين الأمة الصينية والأمة اليهودية، والتي أرست أساسًا متينًا للعلاقات الصينية الإسرائيلية”.
وجاء موقف الصين هنا معبرًا عن اقتناعها بالفكرة الصهيونية التي تربط بين إسرائيل واليهودية. وبالتالي، تُخرج إسرائيل من تعريفها الطبيعي أنها نتاج لنشاط استعماري للقوى الكبرى في المنطقة إلى دولة لها امتداد حضاري عميق تاريخيًا. وتأتي خطورة هذا الربط في تعامله مع الدولة الاستعمارية كاستمرار تاريخي عميق وينفي تاريخ الآخر وعدم التعامل معه، ويتجاهل أن فلسطين احتلتها حركة استعمارية. وإلى ذلك، يحمل إضفاء الطابع اليهودي على الدولة الإسرائيلية معاني عنصرية وخطيرة داخلية، تؤثر على حقوق غير اليهود، وخارجية تؤثر على الصراع بشكل كلي، وتنفي حق الفلسطينيين بالوجود.
الممارسات الصينية تظهر تناقضًا في السياسة الخارجية للصين تجاه الصراع، بل إنها تعمل على تعقيده وتقليص فرص الحل
2. “الاستيطان الصيني” ومخالفة القانون الدولي وانتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني
بالرغم من الانتقاد الصيني الرسمي للاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أن الشواهد على الأرض تثبت بأن هناك تعاونا واستثمارات صينية مع المستوطنات وشركاتها، فقد استحوذت الصين واستثمرت في شركات استيطانية، وأولها شركة تنوفا الزراعية، وذلك في 22 مايو/ أيار 2014، المحظورة من الاتحاد الأوروبي، فقد جاء قرار الحظر نتيجة اعتماد تنوفا على المواد الخام والتسهيلات الخدماتية من الشركات الموجودة في أربع مستوطنات في الضفة الغربية. ولم يقتصر الأمر على الشراكة ما بين تنوفا والمستوطنات في مجال المواد الخام، بل تعدّى ذلك إلى حصول تنوفا التي أصبحت مملوكة للحكومة الصينية على مناقصة عام 2021 لتشغيل 22 خط مواصلات عامة تربط بين المدن الإسرائيلية والمستوطنات في الضفة والقدس. بمعنى آخر، طبّقت الصين صفقة القرن الأميركية على الأرض، والتي كانت تدعو إلى ربط المستوطنات بالمدن الإسرائيلية الرئيسية. أما الشركة الإسرائيلية الاستيطانية الثانية التي استحوذت عليها الصين عام 2016، وهي “أهافا” للمستحضرات التجميلية، فقد أنشئت عام 1988 في داخل مستوطنة كيبوتس متسبي شاليم المقامة على أراضي غور الأردن. وقد استحوذت الصين عليها أيضًا، على الرغم من حملات المقاطعة العالمية التي قادتها حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) منذ 2009 بعنوان “الجمال المسروق”، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها عام 2012، والذي أشار إلى هذه الشركة بالاسم، ونصّ على أن أي تبادلات تجارية معها يعدّ انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان الفلسطيني في المناطق المحتلة. وبالتالي، تعتبر هذه الممارسات نسفًا لموقف الصين الرسمي، دعم حل الدولتين. وتظهر تناقضًا في السياسة الخارجية للصين تجاه الصراع، بل إنها تعمل على تعقيده وتقليص فرص الحل بسبب استثماراتها ودعمها للمستوطنات.
التصريحات الصينية تشير إلى الانتقال الجذري في موقف الصين، حيث أصبح ينظر إلى المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال “طرفين متساويين”
3. المقاومة الفلسطينية تمارس “أعمالاً إرهابية وعدوانية”
تغير موقف الصين من المقاومة الفلسطينية العسكرية جذريًا، ووصل إلى حد الإدانة. وظهر ذلك جليا في التصريحات الرسمية الصينية، على إثر التصعيدات العسكرية بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. وذهبت إلى أبعد من ذلك، في المساواة بين الجرائم التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي وردود المقاومة الفلسطينية في مواجهة هذه الجرائم. وحيّدت الصين، في خطاباتها الرسمية تجاه الصراع، مصطلح المقاومة والكفاح ضد الاستعمار، واستبدلته بالعنف والعدوانية والإرهاب. فعلى سبيل المثال، في حرب غزة عام 2012، قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشونينغ، “تعارض الصين جميع أشكال الإرهاب، وتدين أي أعمال تضرّ بالمدنيين الأبرياء.” وأضافت “الصين تحث الأطراف المعنية في كل من إسرائيل وفلسطين على وقف استخدام العنف لتجنب تصعيد التوترات مرة أخرى في المنطقة”. وفي التصعيد العسكري عام 2014، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية آنذاك، هونغ لي، “نعتقد أن القوة والعنف لن يحلا القضية، ولكنهما سيؤديان فقط إلى تفاقم الكراهية بين الطرفين”. وفي 2021 على إثر معركة سيف القدس، قال وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، “الصراع المتصاعد بين إسرائيل وفلسطين أدى إلى سقوط ضحايا مدنيين عديدين، وهناك حاجة ماسّة لوقف العنف، وعلى الجانبين وقف الأعمال العدائية”. وهنا نجد أن هذه التصريحات تشير إلى الانتقال الجذري في موقف الصين، حيث أصبح ينظر إلى المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال “طرفين متساويين”.
اعتبرت الصين أن تطبيع العلاقات فرصة جديدة للتعاون مع كل من الإمارات وإسرائيل في مجال التكنولوجيا والأمن السيبراني
4. الصين “السعيدة” بالتطبيع العربي
عبّرت الصين عن “سعادتها” بتطبيع العلاقات ما بين إسرائيل ودول عربية (الإمارات، والبحرين، والمغرب، والسودان). وسار موقفها في اتجاهين. الأول، تمثل في عدم تقديم الصين أي خطاب أو رؤية حول تأثير هذه الاتفاقيات السلبي على الجانب الفلسطيني، بل أشادت بالاتفاقيات، وكانت مخاوفها الوحيدة تكمن في أن هذه الاتفاقيات تعزّز من الهيمنة الأميركية. والثاني، ركّز على التطبيع الإسرائيلي – الإماراتي، لما تحمله هذه الاتفاقية، على وجه الخصوص، من تداعيات ايجابية تخدم المصالح الصينية في الشرق الأوسط، ولم تول الاتفاقيات الأخرى الاهتمام نفسه. حيث عقب المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، على التطبيع الإماراتي، قائلًا “بكين مسرورة لرؤية البلدين يتخذان خطوات لتقليل التوترات في الشرق الأوسط. وأضاف: “نأمل أن تتخذ الأطراف المعنية إجراءاتٍ ملموسة، حتى تعود القضية الفلسطينية إلى الحوار والمفاوضات المتكافئة، وتنوي الصين “لعب دور بناء” نحو تحقيق الدولة الفلسطينية”.
واعتبرت الصين أيضًا أن تطبيع العلاقات فرصة جديدة للتعاون مع كل من الإمارات وإسرائيل في مجال التكنولوجيا والأمن السيبراني، وبداية لتعزيز الاستقرار الأمني في المنطقة بما يخدم مصالحها، خصوصا في إطار مشروع طريق الحرير. ورأت أن من شأن توحيد “المحور الإسرائيلي الإماراتي” في المجال العسكري أن يعيد التوازن إلى منطقة الشرق الأوسط. وهنا نجد أن موقف الصين من التطبيع لم يكن يتعلق بتأثيراته السلبية على الجانب الفلسطيني، ولكن على مصالحها في المنطقة، والتي تسعى إلى أن تكون مستقرّة للحفاظ على توسع مصالحها، وتأمين استثماراتها من ناحية، والتخفيف من الهيمنة الأميركية من ناحية أخرى.
خاتمة
يبقى السؤال هنا، لماذا تتبنى الصين استراتيجية “خلق الانطباع” في الأمم المتحدة لصالح الفلسطينيين؟ الإجابة مرتبطة بثلاثة عوامل: أولًا، عامل صيني ذاتي نابع من احترام الموروث التاريخي للزعيم الصيني ماو تسي تونغ، والرغبة في الحفاظ على الصورة النمطية عن الصين دولة داعمة للقضية الفلسطينية، وهذا العامل مرتبط أيضًا بمصالحها الاقتصادية مع الدول العربية، وأهمها أمن الطاقة. ثانيًا، عامل إقليمي، إذ لا تسعى الصين إلى استفزاز دول المنطقة، وتحاول الحفاظ على الرابط التاريخي المشترك في دعم القضايا الجوهرية، وهي: تايوان والقضية الفلسطينية، وهو ما أشرت إليه في ورقة “بعنوان السياسة الصينية تجاه المنطقة العربية” نشرت عام 2016. وثالثًا، عامل دولي، يكمن في مواجهة الهيمنة الأميركية في المحافل الدولية وإظهارها دولة منتهكة لحقوق الإنسان، ما يعزز من صورة الصين دولة صاعدة بديلة أكثر التزامًا وحيادية في الأزمات الدولية.
عن العربي الجديد