الصين، إسرائيل والفلسطينيون: بين الاقتصاد والسياسة
في المواجهات الاخيرة بين اسرائيل والفلسطينيين واصلت الصين دعم الطرف الفلسطيني بشكل غير محدود. مثلا، بعد زيارة وزير الامن الوطني، ايتمار بن غفير، في الحرم (في بداية كانون الثاني الماضي)، انضمت الصين لاتحاد الامارات وطلبت عقد جلسة مستعجلة في مجلس الامن، التي فيها طلب السفير الصيني من اسرائيل بشكل خاص وقف التحريض والاستفزاز”. اقوال مشابهة قالها ايضا وزير الخارجية الجديد في الصين، تشين غانغ، اثناء زيارته في القاهرة في 16 كانون الثاني. في نهاية كانون الثاني مرة اخرى تعاونت الصين مع اتحاد الامارات وفرنسا وطلبت عقد جلسة في مجلس الامن بشكل مستعجل في اعقاب عملية الجيش الاسرائيلي في جنين. خصائص رد الصين لم تتغير حتى بعد العمليات الاخيرة في القدس وشملت التعبير عن الحزن على المصابين المدنيين في “النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني” وادانة العمليات الارهابية، وفي نفس الوقت استخدام القوة الزائد للرد، وطلبت من الطرفين، لا سيما اسرائيل، اظهار الهدوء وضبط النفس لمنع خروج الوضع عن السيطرة. المتحدث بلسان وزارة الخارجية كرر ادعاء الصين الذي يقول بأن النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني مستمر لأن “الطموحات الشرعية” للفلسطينيين بدولة مستقلة لم تتحقق حتى الآن. في هذا السياق يجب الذكر بأنه في نهاية كانون الاول 2022 صوتت الصين في الجمعية العمومية للأمم المتحدة مع القرار الذي دعا محكمة العدل الدولية في لاهاي الى اعطاء رأي استشاري حول تداعيات الاحتلال الاسرائيلي في المناطق الفلسطينية.
هذا التصويت هو فقط التصويت الاخير في سلسلة تصويتات تؤيد الطرف الفلسطيني منذ حلت الصين الشعبية محل تايوان في الامم المتحدة في 1971. ولكن عمليا، دعم الصين الشعبية للفلسطينيين بدأ في عهد ماو تسي تونغ. في حينه عبرت عن دعم الفلسطينيين كجزء من دعم جماعات التحرر الوطني، وضد “الامبريالية الغربية”. في 1965 قال ماو لأحمد الشقيري، رئيس م. ت. ف، بأن “الامبريالية تخاف من الصين ومن العرب. اسرائيل وفرموزا (تايوان) هي قواعد امبريالية في آسيا… الغرب لا يحبنا، ونحن علينا فهم هذه الحقيقة. المعركة العربية ضد الغرب هي المعركة ضد اسرائيل”. ورغم أن علاقة الصين والغرب تغيرت بصورة دراماتيكية منذ عهد ماو تسي إلا أن كبار رجال الصين يواصلون إطلاق تصريحات دعم للفلسطينيين حتى الآن. مثلا، في اللقاء الاخير لرئيس الصين شي جي بينغ مع محمود عباس في كانون الاول 2022، قال إن بلاده “دائما تؤيد بقوة الهدف العادل للشعب الفلسطيني، اعادة حقوقه ومصالحه الشرعية”. الصين ايضا تحرص على التعبير في كل مناسبة بأنها تؤيد حل الدولتين، وضمن ذلك العودة الى حدود 1967 وشرقي القدس كعاصمة للدولة الفلسطينية. اضافة الى ذلك، منذ سنوات تطرح الصين خطط لإنهاء النزاع، التي تشبه بعضها البعض. هكذا فعلت في 1989 وفي 2004 وفي 2007 ومرة اخرى في ايار 2017 عندما استضاف الرئيس شي في ذلك الوقت رئيس الحكومة الاسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في عاصمة الصين. بعد شهرين من ذلك قام الرئيس الصيني بتحديث الخطة التي تتبنى قرار مجلس الامن رقم 2334 الصادر في كانون الاول 2016 والذي ينص على اقامة دولة فلسطينية الى جانب حدود في حدود العام 1967 وعاصمتها شرقي القدس. اضافة رئيس الصين كانت التعبير عن الاستعداد لاستضافة مؤتمر دولي بمشاركة الخمسة اعضاء الدائمين والتأكيد على البعد الاقتصادي مع لفت الانتباه الى مبادرة “الحزام والطريق” التي نشرها قبل أربع سنوات من ذلك.
خلافا للخطاب الذي أكد على الدعم السياسي فان المساعدات الاقتصادية الصينية للفلسطينيين، قليلة. حتى المساعدات الانسانية بواسطة “الاونروا” متدنية جدا، بالتأكيد مقارنة مع مساعدات دول اخرى. مثلا، في 2020 بلغت المساعدة 3.3 مليون دولار. وفي 2021 بلغت 2 مليون دولار فقط. شركات صينية تستثمر القليل جدا في المناطق الفلسطينية ومولت منشآت صغيرة لتحلية المياه والطاقة الشمسية في غزة. هذا خلافا لمشاركة شركات صينية في مشاريع للبنى التحتية في دول في المنطقة مثل مصر واسرائيل. يبدو، حسب رأي بجين، أن الاستثمار الضئيل يلبي الحاجة السياسية التي تسمح لسفراء الصين في الامم المتحدة وفي السلطة الفلسطينية بالتعبير عن الدعم غير المحدود للخط السياسي الفلسطيني لتعزيز صورتها كدولة تحب السلام وتدافع عن القانون الدولي. هذا يضع الصين ضد الولايات المتحدة وسياستها التي تخلق حسب رؤيتها عدم استقرار، ومنافسة وعداء في الساحة الدولية. الموقف الثابت للصين في موضوع النزاع بين اسرائيل والفلسطينيين يستند ايضا الى الحاجة الى ضمان دعم الكتلة العربية – الاسلامية لمواقفها في موضوع تايوان، وصمتها على ما يحدث في موضوع الاقلية الايغورية.
سياسة الصين تجاه اسرائيل هي بخلاف سياستها تجاه الفلسطينيين. في 2013 وقعت اسرائيل والصين على اتفاق تعاون في البنى التحتية، ومنذ ذلك الحين تعمل في اسرائيل شركات صينية متنوعة المجالات. اضافة الى مصالحها الاقتصادية المباشرة في اسرائيل فان الشركات الصينية تستعين بإسرائيل كـ “جسر للغرب”. من الناحية التجارية فانه بالنسبة لشركات صينية مثل شركة “اس. اي. بي. جي”، التي تشغل ميناء حيفا، فان اسرائيل هي مكان مثالي لتجربة فيه النشاطات التجارية خارج الصين. من جهة، اسرائيل هي دولة متقدمة وديمقراطية، لكن من جهة اخرى هي صغيرة من حيث حجمها. والتجربة في السوق الاسرائيلية تسمح للشركات الصينية باكتساب المعرفة والتجربة لغرض نشاطات مستقبلية في دول مشابهة في السوق الاوروبية. بالمثل، ايضا بالنسبة للدبلوماسيين الصينيين فان اسرائيل تعتبر قناة لنقل الرسائل للولايات المتحدة وبالعكس – وفهم أفضل للمواقف الامريكية.
في العام 2017 وقعت اسرائيل والصين على شراكة شاملة في الابتكار، التي حصلت على مباركة رئيس الحكومة نتنياهو والرئيس الصيني شي جين بينغ، وظهر كأن الدولتين تقومان بنشاطات اقتصادية متشعبة في شركات تجارية، لا سيما في البنى التحتية والمؤسسات الاكاديمية. ولكن خلافا للصورة الشكلية التي اوجدتها الشراكة “الشاملة في الابتكار” بين اسرائيل والصين، يبدو أن ثمار هذه الشراكة ليست كثيرة. استثمارات الصين في الهايتيك في اسرائيل بلغت ذروة 8 في المئة فقط من اجمالي الاستثمارات الاجنبية في اسرائيل، ومنذ العام 2019 حدث انخفاض ايضا في هذا الحجم المنخفض. فرع الخدمات من اسرائيل الذي شكل نحو نصف اجمالي التصدير الاسرائيلي في 2021، صدر للصين أقل من 0.5 في المئة. في نهاية 2022 قامت الصين بخطوة مهمة، عندما في القمم الثلاثة المختلفة مع الدول العربية ودول الخليج قامت بصياغة تعبر عن دعمها لمواقف دول الخليج في النزاع مع إيران، وبهذا اعطت اشارات عن رغبتها في توسيع التعاون الاقتصادي مع المنطقة، التي هي مهمة بالنسبة لها كمصدر اساسي للطاقة. الصين بالتأكيد تنتبه “لاتفاقات ابراهيم” التي في اطارها وفي ظلها اسرائيل ودول الخليج زادت التعاون الاقتصادي فيما بينها. هذه خلفية مريحة بالنسبة للصين واسرائيل من اجل زيادة التعاون بينهما بمشاركة خليجية.
الدولتان، في المقابل، “وافقتا على عدم الاتفاق” حول عدة مواضيع سياسية. الصين فصلت هذه المواضيع عن نشاطها الاقتصادي في اسرائيل. والاخيرة تجاهلت النشاط السياسي ضدها وركزت على استغلال الفرص الاقتصادية فقط. ولكن في السنتين الاخيرتين حدث تغيير. الصين زادت حدة تصريحاتها في الموضوع الاسرائيلي – الفلسطيني. وظهر أن اسرائيل غيرت سياستها، التي شملت تجاهل نموذج التصويت الاشكالي للصين ضدها في الامم المتحدة، وانضمت الى انتقادها في الساحة الدولية بسبب معاملة الصين للأقلية الإيغورية. ايضا اسرائيل بدأت في استخدام آلية رقابة على النشاطات الاقتصادية الاجنبية كما فعلت عدة دول، التي يتبع فيها الاقتصاد الحر.
رغم استيقاظ اسرائيل من التوقعات من الصين على الصعيد السياسي يجدر أن نذكر بأن الامر يتعلق باقتصاد هو من الاقتصادات الكبرى في العالم، ولا توجد لإسرائيل أي مصلحة في الانقطاع عنه. في الحقيقة المنافسة المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين زادت حدة المعضلة الاسرائيلية بسبب الضغط الذي تستخدمه واشنطن على حلفائها من اجل تقليص علاقاتهم مع الصين في كل ما يتعلق بالتكنولوجيا المتقدمة. ايضا في هذا الوضع الجديد الذي توجد فيه اهمية كبيرة للدعم الاستراتيجي الامريكي ووزن يفوق الاعتبارات السياسية والامنية لإسرائيل، وتوجد للصين مصلحة اقتصادية وسياسية لتوسيع علاقاتها مع دول الخليج، فانه يوجد للدولتين مجال واسع فيه يمكن توسيع التعاون. ليس كل مجالات التطوير تضر بالمنافسة بين الولايات المتحدة وحلفائها وبين الصين. الادارة الامريكية نفسها تسعى الى توضيح أنها تريد التعاون مع الصين في مجالات تؤثر على مستقبل الانسانية مثل ازمة المناخ وتلوث الجو والامن الغذائي وتوفيره ووضع الصحة العالمية وما شابه. هذه مجالات يوجد فيها للصين واسرائيل قدرة على البحث والتطوير والانتاج. علاقات الصين مع اسرائيل تم طرحها اثناء زيارة وزير الخارجية الامريكي ورئيس “سي. آي. ايه” ومستشار الرئيس للأمن القومي – والحكومة الجديدة في اسرائيل مطلوب منها مناقشة المجالات المختلفة لهذه القضية. الصين هي امكانية اقتصادية كامنة لأي اقتصاد متطور ويرتكز على الابتكار مثل الاقتصاد الاسرائيلي. يوجد للدولتين مصلحة في تحسين العلاقات الاقتصادية بينهما من خلال محاولة انتاج قواعد لعب محدثة، التي تناسب عصر المنافسة بين الدول العظمى. يجب على اسرائيل العمل على بلورة تعاون اقتصادي لا يضر بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، وفي المقابل مواصلة الحفاظ على حرية تعبير سياسية الذي يرد بصورة موضوعية على نشاطات الصين السياسية ضد اسرائيل.
عن أطلس للدراسات والبحوث (المصدر: مركز دراسات الأمن القومي )