الصهيوني الكبير بوجوهه الثلاثة
دع عنك الخلاف في وجهات النظر حول ما حققته جولة الرئيس الأميركي، جو بايدن، في المنطقة، وضع جانباً التقييمات المتباينة لما أسفرت عنه هذه الرحلة في محطاتها الثلاث المتعاقبة، فالحقائق النهائية سوف تتحدّث عن نفسها بنفسها بعد فترة لن تكون طويلة، على ضوء الأهداف المعلنة سلفاً لأول زيارة قام بها خليفة دونالد ترامب في البيت الأبيض إلى الشرق الأوسط، الذي كثيراً ما تكون الانطباعات لدى شعوبه أشدّ أهمية من الحقائق الصلبة.
على هذه الخلفية الثقافية المختلف عليها، تشكلت ثلاثة انطباعات متفرّقة إزاء شخصية الرئيس الزائر في كل واحدةٍ من محطات جولته هذه، حيث بدا بايدن منافقاً في الأولى، ومجاملاً في الثانية. أما في الثالثة فقد ظهر بايدن المكابر على أوضح ما تكون عليه المكابرة، وإذا كان لنا الحق في استبدال مفردة المكابرة بأخرى ملائمة أكثر، فقد تكون كلمة المحرج حرجاً لا يحسُده عليه أحد.
في المحطة الإسرائيلية، كان الرئيس الأميركي، الطاعن في السن والضعف والارتباك، وكأنه يطير على جناح الشوق لمقابلة أحفاده بعد طول غياب، يستعجل الطائرة الرقم واحد الوصول إلى ديار الأحباء المصطفين أمام سلّم الهبوط، وكاد أن يقبّل كل واحد على حدة، لولا بقية باقية من محاذير الوباء اللعين، إلا أنه أفاض في إزجاء أحرّ التحيات القلبية، وأمعن في إظهار مشاعر الود الزائد عن الحد، الأمر الذي حمل كبير مستقبليه من بني صهيون على رد التحية بأفضل منها، واصفاً الضيف العزيز بأنه “الصهيوني الكبير”.
ومع أن بعض فقرات محطة بايدن الإسرائيلية تستحق نقاشاً موسّعاً، إلا أنه يمكن إيجاز كل ما تمخضت عنه نتائج تلك المحطة الاستهلالية، بما في ذلك ما سمّي إعلان القدس، بالقول إن لا جديد في كل ما تضمنته أقوال كبير محبّي صهيون وثرثراته، فقد أكّد المؤكّد من قبل ومن بعد حول علاقات الدولة العظمى مع ربيبتها المدلّلة، وأطنب كثيرا في إبداء آيات الإعجاب بالدولة العبرية، وأغمض مدّعي الدفاع الشرس عن الديمقراطية وحقوق الإنسان عيونه عن كل ما تقترفه دولة الاحتلال من جرائم وانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني من دون رادع.
في المحطة الفلسطينية، إذا جاز تسميتها محطة،، تجلت مظاهر المجاملة بصورة كاملة، خصوصا أنها سريعة وقليلة الكلفة، حيث بدا الرجل كمن أتى إلى الحارة المجاورة، وقال في نفسه لماذا لا نعرّج على القوم هناك لإلقاء التحية والتصدّق عليهم بما تبقى في جيب سترته من دولارات قليلة، قد تنفع في تحسين الصورة، من دون أن يرافق ذلك أي التزام أو تعهد أو وعد، فبدا الرجل مثل عابر سبيل يتمظهر بالورع وحُسن النية، أو قل مثل ممرّض يعالج مرضاه بحبة أسبرين في مستشفى المطّلع في القدس، وحبّتي بنادول في بيت لحم، والسلام عليكم ورحمة الله.
أما في المحطة الثالثة، وهي مربط الفرس في جولته كلها، فقد تجلت هنا سائر مظاهر الحرج والمكابرة، حيث أتى بايدن إلى جدة مُكرهاً على القيام بهذه الزيارة، التي أملتها عليه تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا، ومضاعفات وقعها على قطاع الطاقة والحبوب، وظهر في بعض الفيديوهات المنتقاة بعناية وكأنه يتجرّع كأساً شديد المرارة، وأنه كان يتذكّر في كل مصافحة أو لقاء وجها لوجه ما كان قد قاله من كلام غير دبلوماسي بحق مستقبليه، الذين لم يلاقوه في منتصف الطريق، ولم يستقبلوه بتلك الحفاوة الأسطورية التي استقبلوا بها سلفه ترامب، جرّاء ضعف الثقة به وبسياسة إدارته المتخبّطة في معالجاتها أزمات الشرق الأوسط، بما في ذلك الملف النووي الإيراني..
بعد نشوب حرب روسيا ضد أوكرانيا، ومن أجل احتواء مضاعفات استمرارها على قطاع الطاقة، ولتفادي استدارته نحو السعودية، وهي أكبر الدول المصدّرة للنفط في العالم، والنظر في عيون من أساء إليهم بفظاظة، ذهب بايدن إلى غريم بلاده فنزويلا للبحث عن بديل نفطي ملائم، ثم جدّد المفاوضات النووية مع إيران للغاية ذاتها شبه المستحيلة، وجد جو بايدن أن لا مفر له من عبور ممر إجباري وحيد اسمه محمد بن سلمان، المتهم بالمسؤولية عن مقتل جمال خاشقجي، لتخفيض سعر غالون البنزين على المواطن الأميركي، المدعو بعد أشهر قليلة لانتخاب نصف عدد أعضاء مجلس الشيوخ وكامل النواب.
اخيراً، لكل إنسان وجه واحد، ولبعضهم وجهان، أما جوزيف بايدن فقد ظهرت له في هذه الجولة الخائبة ثلاثة وجوه على الأقل.
عن العربي الجديد