النص الكامل: 

تقديم

اسمحوا لي في البداية أن أشكر برنامج أنيس المقدسي للآداب في الجامعة، وأن أتوجه بشكر خاص إلى الصديق الأستاذ ماهر جرار، على إتاحة هذه الفرصة النادرة، التي ستسمح لنا بلقاء مثقفين متميزين، عبد الرحيم الشيخ ووليد دقة، وستسمح لنا باكتشاف زمن مواز يختزن الأمل والحلم.

نتحلق اليوم مع عبد الرحيم الشيخ حول وليد دقة، الأسير والكاتب الفلسطيني الكبير، الذي تعلمنا ونتعلم منه كل يوم، كيف يمكن صوغ حياة موازية وسط عتمة السجن الاسرائيلي، وكيف نصنع المعنى من ركام نكبة مستمرة منذ أكثر من سبعة عقود. 

عبد الرحيم الشيخ قادني إلى وليد، مثلما قاد قراء “مجلة الدراسات الفلسطينية”، إلى ألق الروح في عدد تاريخي أصدرناه في “مجلة الدراسات الفلسطينية”، كتبه الأسرى. 

اكتشفنا فلسطين التي تعيش تحت فلسطين، ربما كانت هذه الفلسطين هي الأنقى، لأنها الأكثر قرباً من العرين الذي يصنعه شباب فلسطين في نابلس وجنين والقدس وهم يعلنون بموتهم الكثير أنهم يطأون الموت بالموت. 

ينتمي وليد دقة إلى حركة ثقافية كبرى تنمو في سجون الاحتلال: دراسات أكاديمية وأبحاث فكرية وروايات وشعر، كأن الأسرى يستعيدون نبض الحياة الفلسطينية التي تكاد أن تضيع في أروقة السلطة والاستسلام والتمزق.  

هذه الحركة الثقافية يجب أن تُدرس في دلالاتها وانجازها الثقافي؛ اكتشافنا لها يشبه ذلك الكشف المدهش الذي قام به غسان كنفاني في كتابه “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة”، وهو الكتاب الذي كان بداية دخول الشعر الفلسطيني المقاوم في حياتنا ووعينا، وهو أدب أعاد لكلمة فلسطين معناها ولفكرة فلسطين دلالاتها التراجيدية في الأفق الأدبي الإنساني الرحب. 

ما قام ويقوم به عبد الرحيم الشيخ، وهو يفك شيفرة الرسائل والنصوص التي يبعثها وليد دقة من سجنه، يشبه عمل كنفاني التأسيسي، ويفتح أفقاً جديداً للثقافة الفلسطينية، ويساهم في بلورة رؤية تعيد النصاب إلى الكلمات. 

لقد تسنى لي أن أشهد على التفاني والأصالة الفكرية اللتان تحكمان عمل عبد الرحيم الشيخ وهو يشتغل مع وليد دقة وعنه، إلى درجة جعلت الأمور تلتبس في ذهني، هل هذا الأكاديمي والشاعر والكاتب، الذي يداوم قرب مكتبي في مؤسسة الدراسات الفلسطينية تقمص الأسير أم أن الأسير يعيش بيننا متخفيا في سر زيت الكلمات؟ 

النافذة التي يفتحها اليوم عبد الرحيم الشيخ مثلثة الأضلاع: المخيم والسجن والمقبرة، وهو يدعونا إلى مشاركته متعة المعرفة التي تمتزج بآلام المنفى والسجون. ينطلق عمله من كتابات لوليد دقة، بعضها منشور وبعضها الآخر في طريقه إلى النشر لكي يصل إلى تقديم ترسيمة نظرية للتجربة الفلسطينية انطلاقاً مما أطلق عليه اسم الجغرافيا السادسة.  

المحاضر هو عبد الرحيم الشيخ، الشاعر وأستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت، والباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وزميلنا في هيئة تحرير “مجلة الدراسات الفلسطينية”، له مجموعتان شعريتان، ونشر وحرر خمسة كتب أكاديمية، كما له عشرات الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية العربية والانكليزية. ميزته أنه باحث متجدد يطأ أراض فكرية جديدة، كما أن أبحاثه غير المنشورة سوف تشكل علامات جديدة في الفكر والنقد الأدبي. 

أما المحاضرة فهي وليد دقة، المفكر والكاتب والفنان الأسير منذ 37 سنة، ابن باقة الغربية في المثلث، الذي صهر السجن بوعيه الجديد. أنهى دراسة الماجستير في السجن، وله كتابان منشوران، “صهر الوعي” و”يوميات المقاومة في جنين”، كما أن نصه “الزمن الموازي” تحول إلى حدث مسرحي في فلسطين المحتلة. اضافة إلى روايتيه القصيرتين “سر الزيت” و”سر السيف”، ونحن في انتظار إنجاز مسرحيته الجديدة، ومذكراته، ودراساته النظرية. 

وليد دقة وزوجته سناء سلامة، تزوجا في السجن، ونجحا في استيلاد الحياة رغم القضبان وأنجبا من نطفة مهربة طفلتهما الجميلة ميلاد.  

أيها الصديقات والأصدقاء 

هذا اللقاء هو احتفاء بالحرية التي حفرت نفقا بالكلمات، وهو نفق مواز لنفق سجن جلبوع. نفق الكلمات الذي صهره الوعي والارادة، يدعونا نحن الذين نعيش في سجون “الحرية” المثلومة بالقمع والاستبداد والتطبيع التتبيعي في العالم العربي، إلى اكتشاف وعينا الموازي واستعادة حقنا في الحياة. 

الياس خوري

لا أحد غير الأسرى يمكنه كتابة السجن، ففي كتابة السجن ما يفصح عن عوالم موازية يصعب على غيرهم تذهُّنها. وكل مَن يرغب في اكتشافها عليه التخلي عن أسطوريات الاختصاص الأكاديمي عبر إغفال رزين للنظرية وهو يمارس النظر، لا بصفته مؤرخاً عرضياً اختصاصه فلسطين، بل بصفته رائياً فاعلاً همّه فلسطين، ومهمته المساهمة في تحريرها عبر تحرير المعرفة عنها.

يولّي المتأمل وجهه شطر أماكن الذاكرة المتغايرة التي همّشتها السياسة وهشّمها التاريخ: السجن والمخيم والمقبرة، فيحظى بتجلّي أماكن النظر والنظرية التي تكتمل فيها صورة فلسطين، هوية وقضية، ذلك بأن صورة فلسطين الآتية من هذا العالم الموازي، بزمانه ومكانه وإنسانه، تعاني فواتاً محكوماً بالزمن الموقوت الذي تعيشه فلسطين منذ نكبتها الكبرى في سنة 1948. ومَن يحسن النظر بصبر عالم فضاء لا يملك إلّا تلسكوباً بدائياً، عليه لملمة شذرات كتابات الأسرى المحررة من السجن، ووضعها الواحدة إلى جانب الأُخرى إلى أن تكتمل الصورة. فالسجون في فلسطين تبدو كواكب قصية لا تصلنا صورها إلّا بعد أزمنة ضوئية، لكنها صور تبشّر بإمكان استزراع الأمل، ومواصلة الحياة للفكرة الفلسطينية التي عطّلتها الرسمية الفلسطينية.

أمّا هذه السطور، فهي دراسة تراوح بين حكاية فلسطين وحكايات الأسرى عنها، مثلما يكتبها الأسير وليد دقّة، ابن باقة [الغربية] في المثلث الفلسطيني المحتل الذي دخل الأسر منذ سنة 1986، ولم يزل فيه. وهي حكاية تتوزع على تزمينات وتمكينات تاريخية للحركة الفلسطينية الأسيرة على امتداد أكثر من مئة عام: بدءاً بصراع القوى الاستعمارية على فلسطين (1905 – 1947) ومقاومتها مجتمعة أو منفردة، مروراً بتقسيم فلسطين والنكبة (1947 – 1948) وما شهدته من استمرار العنف الاستعماري والعنف الثوري المضاد، وتواصلاً بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وما تلاه من نكسة وإعلان للميثاق الوطني الفلسطيني (1964 – 1968)، وانتهاء باتفاق أوسلو وما تلاه من سنوات الرصاص الفلسطينية (1994 – 2022).

إن الكتابة عن مسرحية دقّة “الشهداء يعودون إلى رام الله” قبل اكتمالها، كتابة ونشراً وتمثيلاً، إنما تأتي لتكريس مقولتين: الأولى، أنه في حين لا يحظى معظم السفسطات الكتابية السائدة في الثقافة الفلسطينية حتى بالقراءة، فإن الكتابة السجنية عن فلسطين الموازية تمارس حضوراً فاعلاً اليوم، وهي بذلك تستدعي نقداً موازياً. ولا يُقصد بالنقد، هنا، الاختصاص البارد الذي يميز صادق النصوص من زائفها، بل القراءة الموازية التي تضع المقولة الأسيرة على مدرج الحرية؛ الثانية، أن إدراج كتابات الأسرى، على أنها مكون صميمي للمقولة الثقافية الفلسطينية، يبشّر باستعادة النصاب الثقافي الفلسطيني الذي طال تغييبه، وبانتشال هذا المكوّن من النسيان. ولذا، فإن هذه الدراسة، وهي بعض من حصيلة أعوام من التساقي مع نتاج الأسير دقّة لبلورة مشروع “الوعي الموازي”، تقتصر على مفهمة أقانيم الحرية، والذاكرة، والموت، مثلما تدشّنها المسرحية. 

سنوات الرصاص الفلسطينية

أعمل على سياسات الحياة والموت في فلسطين لأشتق الدلالات من “المقبرة الفلسطينية الحية”، وفي الذهن ازدحام للشواهد على الحضور والغياب. لكنني، هنا، سأكتفي بحكاية “سرّ الطيف” التي ترويها المسرحية. وبين مئات آلاف الشهداء الفلسطينيين، آثرت الحديث عن الشهداء الأسرى، وبين مئات الشهداء الأسرى آثرت الحديث عن تسعة من الأسرى قضوا في السجون ولا شواهد لهم، وأبقت سلطات الاحتلال الصهيوني جثامينهم في قيد الاحتجاز في الثلاجات وفي مقابر الأرقام،[1] وهم: أنيس دولة؛ فارس بارود؛ نصار طقاطقة؛ بسام السايح؛ عزيز عويسات؛ سعيد الغرابلي؛ كمال أبو وعر؛ سامي العمور؛[2] داود الزبيدي.[3]

وعلى أهمية التفصيلات الإحصائية والحميمية لشهداء الثلاجات ومقابر الأرقام التي تكشف عن الجرائم المتصاعدة لدولة المستوطنين في سياسات الحياة والموت التي تنتهجها داخل فلسطين المحتلة، سأكتفي هنا بإجراء قراءة طباقية، بما يتيحه المقام، لرواية “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” للروائي الجزائري الطاهر وطّار،[4] ومسرحية “الشهداء يعودون إلى رام الله” للأسير الفلسطيني وليد دقّة.[5] والغاية من ذلك هي التعرف إلى الحلول التي يطرحها الأدب لأزمة الذاكرة الوطنية التي خانتها الرسميات السلطوية بعد إجهاض الثورة، والذي أطلقتُ عليه، فيما مضى، “حالة النفق” الذي تدخله حركات التحرر الوطني حين تتحول من “إرادة” القتال إلى “إدارة” الاستقلال،[6] على مستويات: السلطة السياسية، وبنى الجماعة، وحالة الفرد، وسياسات الذاكرة والنسيان في عُرف الدراسات التحررية وما بعد الاستعمارية.

لقد صارت القضية الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو (1993) وتأسيس السلطة الفلسطينية (1994) حالة بالغة الخصوصية من حالات ما بعد الاستعمار، يمكن وسمها بأنها “حالة نفق” تُزامل حالة الجزائر بعد حرب الاستقلال من حيث التحولات التي تشهدها الدول المستعمَرة بعد التوصل إلى حل سياسي غير مبني على الحقوق الوطنية، بل على ميزان القوى الدولي الذي فرض الحل السياسي من دون أن ينهي المظلمة التاريخية.

وعلى الرغم من استمرار “إسرائيل” كدولة مستعمِرين استيطانية، فإن الحالة الفلسطينية شهدت خمسة تحولات مركزية شكلت السياق التاريخي لمسرحية دقّة، بدءاً بمشروع السلطة الوطنية (1974)، وانتهاء بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني (1996): الأول، يتعلق بتحويل حركة التحرر الوطني الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية) إلى وكيل استعماري (سلطة فلسطينية)؛ الثاني، يتعلق بتعديل رؤية الجماعة الوطنية الفلسطينية المتخيلة عبر استثناء جزأين مكونين أصيلين من الشعب الفلسطيني، وهما فلسطينيو 1948، وفلسطينيو الشتات؛ الثالث، هو تحويل المجتمع المدني الفلسطيني الفتيّ من كونه جزءاً من الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار، إلى جماعات من “الوسطاء” تعمل على التعايش مع الاستعمار و”تفكيكه”؛ الرابع، تشريع الأبواب أمام المبادرات السياسية والثقافية المتنوعة لحل “المسألة الفلسطينية” بعد أن جرى تفتيت “القضية الفلسطينية” مثلما عرّفها الميثاق الوطني الفلسطيني (1986)؛ الخامس، استبدال سياسات الذاكرة بسياسات النسيان.

وبمزيد من التخصيص، فإن فضيلة القراءة الطباقية لدقّة قبالة وطّار، إنما تكمن في كونها تمنح مقاربة جمالية للعلاقة القبيحة بين السلطة والحرية خلال “سنوات الرصاص الفلسطينية”، وهي المفهوم الذي لا يزال يعاني فواتاً في التدشين والتكريس، كونه وصل إلى فلسطين متأخراً. وقد سُجلت تجارب مشابهة في العالم سواء داخل المركز الأوروبي، أو في الجنوب العالمي، أو في السياق العربي. ولعل استدعاء التجربة العربية لسنوات الرصاص في فلسطين، ينبش الحمولة المفهومية الثقيلة التي وصفت مصائر حركات المقاومة للاستعمار المباشر أو لوكلائه من السلطات الوطنية في أعقاب الاستقلال. فقد شهد المغرب، على سبيل المثال، مواجهة سياسية واجتماعية وثقافية واحتقاناً وسم معظم انتقالات السلطة وتحوُّل البلد من حالة الاستعمار إلى ما بعده.[7] كما أن تجارب العنف والصراع مع السلطة، والاختفاء والاختطاف، والاعتقال السياسي، والنظام القضائي، ومرويات السجن، والمصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، والديمقراطية، شكلت المكونات الأساسية للذاكرة الوطنية. ومن ناحية أُخرى، فإن البحث في هذه الموضوعات أصبح ميداناً خصباً لما يثيره الدرس المنهجي من تسييس الكتابة التاريخية لجهة فاعلية المتذكر، والراوي، والمؤرخ، وما يحدثونه من وصل أو فصل بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية.

ولذا، فإن تبيئة “سنوات الرصاص” في فلسطين، والتي ستظهر معالمها بشكل أوضح في مسرحية دقّة، تستدعي أربع لحظات مفصلية تلت اتفاق أوسلو في سنة 1993، وإن كانت إرهاصاتها ظهرت على شكل انشقاقات في منظمة التحرير الفلسطينية عامة، وفي حركة التحرر الوطني الفلسطيني “فتح” خاصة، في السبعينيات والثمانينيات:[8] الأولى، تأسيس السلطة الفلسطينية في سنة 1994، والتي شكلت صدعاً لم يتمكن الفلسطينيون من رأبه حتى اللحظة؛ الثانية، تغييب الرئيس ياسر عرفات وتحوّل السلطة الفلسطينية، بسفور تام، إلى عقيدة التنسيق الأمني بعد سنة 2004؛ الثالثة، لحظة الانقسام الفلسطيني بعد استيلاء حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على الحكم في غزة في سنة 2007، وما تلا ذلك من عنف واعتقالات سياسية لا تزال قائمة؛ الرابعة، تغييب المعارض نزار بنات في سنة 2021، وأثر ذلك في كبح “هبّة أيار” و”سيف القدس”. ولعل أهم ما يميز سنوات الرصاص الفلسطينية هو واقع ليس فيه أي مظهر للاستقلال والسيادة، ويتزامن فيه وجود نظام سجن استعماري وآخر فلسطيني، وقد جاءت فيه كتابات دقّة لتكون من أجرأ التعبيرات في مفهمته ونقده. 

مخاضات ولادة السرّ

فور انتهاء دقّة من روايته لليافعين “حكاية سرّ الزيت” في صيف سنة 2017، شرع في العمل على “حكاية سرّ السيف” التي أنجزها في صيف سنة 2018.[9] حينها، بدأ النقاش بيننا عن أن هذه الثنائية، بشأن الأسرى في الأولى واللاجئين في الثانية، تستدعي ضلعاً ثالثاً هو “حكاية سرّ الطيف” عن الشهداء. وكان الاقتراح محمولاً على رغبة أنانية، من جانبي كي أُحدث نوعاً من التمرئي بين نتاج دقّة وهوسي بالجغرافيات الفلسطينية المهمّشة: السجن والمخيم والمقبرة، وهي العناوين التي أشتغل عليها أكاديمياً وفكرياً وروحياً، ليعرف اليافعون، قبل بلوغ الجامعة، أسرار أسراهم ولاجئيهم وشهدائهم.[10] وتواصل هذا النقاش أكثر من عامَين، وتضمّن تبادل أفكار بشأن الشكل الفني والسيناريوهات والتماثلات بين الحالة الفلسطينية والحالة الجزائرية.

وفي مطلع سنة 2021، شرع دقّة في كتابة “الشهداء يعودون إلى رام الله” نصاً مسرحياً، لأنه وجد صعوبة في كتابة سرّ الموت رواية لليافعين.[11] وبالتأكيد، ثمة وفرة من التفصيلات الضرورية التي لا يسمح المقام بإيرادها هنا، والتي تصف إنجاز سرّ الطيف. لكن دقّة أنجز نصّ المسرحية كاملاً في مطلع نيسان / أبريل 2021 في سجن “جلبوع” في بيسان المحتلة،[12] وأرّخه على الصفحة الأولى بـ “العام الأول بعد ميلاد”، قاصداً ابنته من زوجته المناضلة سناء سلامة عبر نطفة محررة، والتي وُلدت في مدينة الناصرة المحتلة في 3 شباط / فبراير 2020.

وقبل الانتقال إلى الخط الحكائي لنصَّي وطّار ودقّة، اللذين يشكلان رحماً لمفهمة الحرية والذاكرة والموت، لا بدّ من تسجيل إشارتين سياقيتين:

الأولى، هي أن هذا العمل لم يكن النص المسرحي الأول لدقّة الذي اشتمل نتاجه الإبداعي على أنواع كتابية متنوعة. فقد كتب دقّة المسرح متأثراً بتجربة أسرى حزب العمال الكردستاني الذين أنتجوا المسرح والسينما داخل السجن، وبأعمال المسرحي الفلسطيني الراحل فرانسوا أبو سالم (1951 – 2011)؛[13]

الثانية تتعلق بإرهاصَين كتابيَّين يشكلان محاولات جنينية لهذه المسرحية: الأول في العمل المسرحي الأول لدقّة، وهو “حكاية المنسيين في الزمن الموازي”،[14] وهي مسرحية غنائية كتبها في سنة 2011.[15] وقد ظهر العمل بعد ثلاثة أعوام على عرض مسرحية “الزمن الموازي” التي أنتجها مسرح الميدان في حيفا في سنة 2014، والتي أثارت ردات فعل صهيونية هستيرية. وموضع الشاهد هنا، هو أن المشهد الخامس من الفصل الثاني في مسرحية “حكاية المنسيين في الزمن الموازي”، والذي يحكي قصة استشهاد أحد الأسرى داخل السجن واحتجاز جثمانه، يشكل قنطرة سياقية للانتقال إلى مسرحية “الشهداء يعودون إلى رام الله”؛ الإرهاص الثاني هو مخطوطة روائية قصيرة، بلا عنوان، أمنحها لاعتبارات التصنيف عنوان “صمت القبور”. وهي مخطوطة كُتبت بالعبرية، ربما لجمهور آخر، ولا تزال برسم الاكتمال، وتتناول أطيافاً أُخرى تدير سجالاً عن أسئلة المعاناة والألم، وتقاطع مصائر الضحايا، وتعليق الحياة والموت.[16] ومن الجدير ذكره، أن وجود دقّة في السجن في أوج انتفاضة الأقصى وتصاعد العمليات الاستشهادية، أتاح له العيش مع أسرى خرجوا في عمليات استشهادية لم تبلغ غايتها، فبقوا في قيد الحياة، وأجرى معهم دقّة حوارات معمقة ومقابلات موسعة، حتى إنه كتب عن ذلك بالعربية، والعبرية، واعتمد صحافيون “إسرائيليون” على كتاباته في هذا الشأن.[17]

على مستوى المضمون، وبينما تدور أحداث رواية وطّار في عالم الحياة، فإن معظم أحداث مسرحية دقّة يدور في عالم الموت. وإذ تنحصر فاعلية شهيد وطّار في نقل بشارة عودة الشهداء في حلم عابر لوالده الشيخ، فإن شهداء دقّة يعودون فعلاً وهم ينوسون بين موت معلن وحياة مضمَرة، كأن دقّة يكشف لنا أن “سرّ الطيف” هو حضور فكرته وقد غاب الجسد الذي فقد عيونه في صقيع الثلاجات وغبار مقابر الأرقام. أمّا على مستوى الشكل، فبينما كتب وطّار نصه عن عودة الشهداء رواية وجدت طريقها إلى المسرح فيما بعد، كتب دقّة نصه عن عودة الشهداء مسرحية ستجد طريقها إلى الرواية فيما بعد لتصير “حكاية سرّ الطيف”، غير أن الرواية والمسرحية تبشّران بعودة الشهداء عبر المراوحة بين قول حكاية الواقع وإعادتها إلى مسرح الحياة. 

الشهداء يعودون هذا الأسبوع

في رواية “الشهداء يعودون هذا الأسبوع”، يتلقّى الشيخ العابد بن مسعود الشاوي رسالة من الخارج تفيد بأن الشهداء، بمَن فيهم ابنه مصطفى الذي قضى قبل سبعة أعوام، سيعودون هذا الأسبوع، فيضع الرسالة في كيس صغير معلقاً في عنقه، تميمة لا تفارقه. ويعزز ما ورد في الرسالة منامٌ رأى فيه الشيخ ابنه يبشره بعودته ورفاقه الشهداء، والآيةُ القرآنية (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (سورة آل عمران، الآية 169). يتواصل الشيخ مع أهل القرية بشأن بشارة الرسالة، وتوصيف المنام، وتفسير الآية، على أنها علامات اقتراب عودة الشهداء، فيظن بعضهم به الجنون جرّاء فقدان ابنه، بينما يرميه آخرون ممّن أفسدتهم المصالح، بالتآمر مع الخارج. وهكذا، تجتمع فواعل الثورة المضادة تحسباً لما تثيره “حركة التشويش” التي يتهمون الشيخ بقيادتها، واستعداداً لمواجهة مخاطر عودة الشهداء. أمّا الشيخ والد الشهيد، فيُعدّ نهاية أُخرى يحرر بها عربة الثورة العالقة في نفق الاستقلال.

يتناوب الشيخ على سؤال عشرة من أبناء قريته عن موقفهم من عودة الشهداء، فتتراوح مواقفهم بتنوّع مصالحهم وتَحوّل ولاءتهم. وفي الوقت الذي لا يتفهّم سؤال الشيخ إلّا والد شهيد مثله، ومجاهد قديم، بينما يبقى ابنه الأصغر الذي اقترن بزوجة أخيه بعد إعلان خبر استشهاده بأربعة أشهر وأنجب منها أربعة أطفال، صريع الذهول، ها هي البلدة بأكملها تتحسّب لعودة الشهداء. فالمسعى، وهو والد شهيد آخر، يجيب الشيخ بردّ حسن، وإن أثقله ذهاب عقل الشيخ الذي يشدّه إلى الوراء والناس يسيرون إلى الأمام غير مدرك أن حياة الشهداء إنما تكون عند ربهم لا على الأرض، وأن عودتهم المتأخرة ستسبب المشكلات، فضلاً عن احتمال إفساد السلطة لهم مثلما أفسدت غيرهم، وخسارة أهلهم رأس مالهم الاجتماعي و”التسهيلات” التي حظوا بها. أمّا قدور، رفيق ابنه حين استشهد والذي صار بائع خمور، فتتآكله المخاوف حين يطلب منه الشيخ إعادة ما حدث، فيروي له الحكاية مؤكداً استشهاد ابنه ودفنه بيديه بعد أن حملا بريد الولاية بين الأوراس والحدود. يعتقد الشيخ بصحة الرواية، لكنه يعتقد بصحة أحلامه أيضاً.

وقبالة ذوي الشهداء، هناك ذوو العملاء. فالشاب عبد الحميد – شيخ البلدية ومدير مدرستها وابن الخائن الذي قتله مصطفى قبل استشهاده – انتخبه أهل القرية على الرغم من معرفتهم بماضي والده، ربما لطيِّ صفحة الثورة، وإتمام المصالحة الوطنية. وكان موقفه المضمر الرغبةَ في أكل لحم الشهيد بأسنانه انتقاماً، بينما كان موقفه المعلن أن على الشهداء إن بعثوا للحياة أن يكافحوا من أجل حذف أسمائهم من سجل الأموات طوال حياتهم التي قد تنجح السلطة خلالها بإفسادهم إن امتثلوا، أو تواجههم بالقانون إن تمردوا. إن خيانة الشهداء وذاكرتهم لا تقتصر على العملاء المكشوفين، فالمانع، وهو منسق القسمة، والحزبي السابق الذي هجر البادية إلى القرية لأنه كان مخبراً للعدو، وكان يخطط للإيقاع بالشهيد مصطفى في كمين في بيته، غير أن هذا الأخير كشفه وأرسل إليه تهديداً بالاغتيال قبل استشهاده بشهر، يرتعب من حلم الشيخ خشيةَ أن يكون طيف الشهيد قد فضح وشايته، لكنه لا يتورّع عن إعلان موقفه الانتهازي: الشهداء، إذا عادوا، سيجري إطلاعهم على منجزات الاستقلال، وتنظيمهم ثانية في صفوف الحزب، أو استيعابهم في الأجهزة الأمنية، إن توافرت فيهم الشروط، واعترفوا بالسلطة، وقبلتهم اللجان بعد أن يكونوا برهنوا على طاعتهم وإخلاصهم وتضحيتهم ليصيروا مناضلين.

أمّا منسق قسمة قدماء المجاهدين، ذو الماضي والحاضر الشريفَين، والمقاتل بسلاحه الذي لم يتلوث على الرغم من الإغراءات كلها، فكان استثناء… فهو يصدّق الشيخ، لكنه يخبره بلطف أن عودة الشهداء مستحيلة، وأنها إذا صارت ممكنة، فستواجَه بالرفض. فهو على المستوى الفردي-العاطفي، متوافق مع الشيخ، لكنه على المستوى الجماعي – العملي يدرك أن القانون أَعدّ للشهداء عدّته، وأن الحي يوجه رأس الميت حيث يشاء، عبر بيروقراطية الدولة التي تقدّس البطاقة وتطلبها لإثبات كل شيء… إلّا الخيانة، فتتجاوزها. أمّا على المستوى الثوري – الأمني، فتعيد رؤيا الشيخ الشكوك في رواية قدور الذي لم يكن لديه من الشجاعة والوقت نصيب لدفن الشهيد قرب السلك الشائك، وسط مراكز العدو ودورياته على الحدود، بعد انفجار لُغمَين في المكان. أمّا رئيس وحدة الدرك، وهو المثل النقيض لمنسق قسمة قدماء المجاهدين، ففرّ نحو العدو مستسلماً وتاركاً رشاشه مع أنه كان حامي الفرقة، وترك رفاقه في المعركة، فارتقوا جميعهم شهداء، بينما تقمّص هو دور أسير حرب، وصار قائد جهاز أمني يحل مشكلات الخمارات والمعاهر بعد انتهاء الثورة وإعلان الاستقلال، لكن الناس لا يعرفون ماضيه. وكان موقفه المضمر هو التحسّب من عودة الشهداء لئلا يكشفوا جبنه البالغ حدّ الخيانة، في حين كان موقفه المعلن هو استحسان عودتهم والتحذير من تبعاتها.

يتحول الشيخ إلى رئيس القباضة في خزينة البلدية، فيستهجن رؤياه مؤكداً أن عودة الشهداء ستُحدث إرباكاً في أنظمة الحياة والموت، هذا إن نجحوا في إثبات وجودهم في سجلات المال والنفوس، كما أن السلطة، في أحسن الأحوال، لن تتعامل معهم إلّا كمقاتلين قدامى، لا كشهداء، وفي أسوأ الأحوال، ستحرمهم المحاكم، في حال فشلوا في إثبات وجودهم، من شهادة الولادة وشهادة الوفاة، ولن يتعامل معهم الناس إلّا كمحتالين مطلوبين للعدالة، فيُهمّشون أو ينتحرون. أمّا “الكومينيست اللعين”، فتنكّر لماضيه اليساري مع أنه كاد يقضي تحت التعذيب في المعتقل، وانشغل، بعد الاستقلال، في الدفاع عن مكانته في الحزب والنقابة التي أراد مسؤول القسمة إقصاءه عنهما. وعلى الرغم ممّا يبدو من ظاهره الثوري، فإن رأس المال ألهمه باستثمار عودة الشهداء رمزياً بالاحتفالات، وتحويلهم إلى قوة عاملة، وإدماجهم في مؤسسات الدولة، وتوريطهم بالقروض، هذا إن كانت أفكارهم التي عادوا بها ملائمة لأجندة مرحلة الاستقلال بعد أن يمضوا في مراكز التدريب عدة أعوام من دون سلاح ولا اتصال بالخارج، ثم يبدأ بإطلاق سراحهم بحسب الرتبة. أمّا إمام الجامع الأصولي، فلا تعنيه عودة الشهداء إلّا من وجهة الفتوى التي هي أرخص أنواع الفقه، فيتّهم الشيخ بالاجتراء على حدود الله مرتين: حين عقد قران ابنه الأصغر على زوجة ابنه الأكبر من دون الحصول على “وثيقة الموت” فأنجبت منه “بالزنا” أربعة أطفال، وحين قال بعودة الشهداء، ولم ينتبه إلى أنه كفر بآيات القرآن التي تفيد بحياتهم، ولولا ذلك لانتظر عودة ابنه منذئذ من دون أن يجعل منه مسيحاً مخلّصاً أو مهدياً منتظراً.

هنا، أطلق الشيخ صرخته حيال عربة الثورة التي علقت في نفق الاستقلال مشككاً في البلاغة الوطنية بشأن الشهداء، ومتسائلاً إن كان الشهداء سيُقْدمون على التضحية لو علموا بالذي سيجرى للبلد بعدهم.[18] يفقد الشيخ الأمل، ويُعقَد اجتماع لتدارس الأوضاع في مقر القسمة بحضور فواعل الثورة المضادة من منكري عودة الشهداء، أولئك السفلة والخونة والانتهازيين والمنافقين والجبناء: النقابة؛ رابطة قدماء المجاهدين؛ اتحاد النساء؛ اتحاد الكشافة؛ قوات الدرك؛ منسق الشبيبة؛ ممثلو الدولة؛ الذين يُجمعون على أن ما يحدث هو مؤامرة تشارك فيها أطراف عميلة للخارج، ويتم فصل كل مَن لا يوافق على ذلك من موقعه في مؤسسات الدولة، واتهامه بالخيانة بسبب تواطئه مع حركة التشويش الانقلابية. وبعد وصلة من استدراج الماضي الثوري في تهنئة الذات التي نالت شرعية اتحادية من العاصمة، يدعو المانع المحتشدين إلى وضع حد لتلك الحركة في مهدها، باعتقال الشيخ واستجوابه، وإبلاغ السلطات العليا بالمؤامرة. وقبل أن يشرع المؤتمرون في تنفيذ ما أوصوا به، بدأوا ينفضّون على صرخات أطفال قادمة من جهة محطة القطار حيث ألقى الشيخ بنفسه أمام القطار، بعد أن لوّح برسالة عودة الشهداء. 

الشهداء يعودن إلى رام الله 

أمّا “الشهداء يعودون إلى رام الله”، فهي مساررة بين ثلاثة من الأسرى الشهداء المحتجزة جثامينهم في ثلاجات العدو، وهم: أنيس دولة، وبسام السايح، وكمال أبو وعر الذي تتمحور المسرحية حول استشهاده واحتجاز جثمانه والتقائه بمَن سبقوه. تجري مواجهة مع قوات القمع في السجن يُنقل في إثرها جثمان أبو وعر إلى ثلاجة الموتى في معهد الطب العدلي في أبو كبير لقضاء ما تبقّى من محكوميته. هناك، يتداول الرفاق فيما حلّ بفلسطين، في السجن وخارجه، وحصيلة التداول أوجزه اتصال هاتفي مع أحد مسؤولي السلطة التي لم تتمكن من تحرير الأسرى ولا استرداد جثامينهم. وفي النهاية، تتحرر أطياف الشهداء ويعودون إلى رام الله حيث يتمردون على جبروت الاحتلال وعسف السلطة وقوانين المادة، ويقودون ثورة مسلحة شعارها / الممارسة: التحرير طريق الحرية.

بعد استشهاد أبو وعر، وقمع رفاقه، يأخذ السجانون جثمانه، ويطلبون منه توقيع الورقة المذكور فيها أماناته، فيخبره أحد السجانين أنه ميت ولا معنى لتوقيعه. يستنكر أبو وعر عدم اعترافهم به كشخصية قانونية، كما يستنكر استمرارهم في تقييده لأنه مصنف كأسير “סג”ב / سغاف [خطر عالٍ للهرب]”، واحتجازهم جثمانه لإكمال المحكومية. يردّ أحدهم أنه ممرض وليس أستاذ جامعة ليحسم النقاش في أخلاقية الاحتجاز لذات أفقدها العدو أهليتها القانونية من دون أن يُسقط عنها أهليتها الغُرمية. يغلقون باب الثلاجة، وينطفىء الضوء، فيصرخ الشهيد: “سوهير، سوهير…” [سجّان، سجّان…]، غير مكترث بالفرق الذي يحاول قاطنو الثلاجة من رفاقه القدامى تنبيهه إليه، إذ لا يغلق الأبواب إلّا السجّان، حتى إن ارتدى الأبيض. لحظات، ويدرك أنه في ثلاجة الموتى برفقة الشهيدين أنيس دولة وبسام السايح، فيطلعانه على موتهما، ويطلعهما على موت الحركة الوطنية. وبين استهجان وسخرية، يناقشون ورطة الأسير حين يستشهد ويبقى موته معلقاً بلا جنازة ولا قبر ولا دفن، مجرّداً من حقوق الحي والميت. لا يسلّم أبو وعر بالإقامة في الثلاجة برفقة سابقيه، ومع جوارير أشلاء الاستشهاديين ما بعد سنة 2000، ويتكشّف له انقطاعهم عن العالم الخارجي حين يفصحون عن خشيتهم، إن خرجوا، من أن يعيد الجيش اعتقالهم. يخبرهم أنه لا وجود للجيش [“الإسرائيلي”] لا في الضفة ولا في غزة، لكن الغبطة لا تطول، حين يجيب أبو وعر على سيل أسئلتهم عن عودة المنظمة، وإعلان الدولة، وعلى أي جزء من فلسطين، وقيام السلطة، ورئيسها ومَن قتله، وأين دُفن، قائلاً: “مِشْ كلها كلها”، “مِشْ دولة دولة”، “مِشْ نُصها ولا ثُلها ولا رُبعها”، “مِشْ سلطة سلطة”، “أبو عمار”، “قتلوه الإسرائيليين”، “مِشْ في القدس في القدس”…

يعمّ الصمت لهذا الواقع الذي كرّس مظلوميتهم، وتتحول العدسة إلى خارج السجن، فقبل اتصالهم بمسؤول “الهيئة الوطنية لإعادة هيكلة الأسرى والشهداء وتأهيلهم”، تتبدّى لهم سوريالية ما آلت إليه الهيئة، إذ: صارت تتخفى تارة في سوق العطارين، وطوراً في سوق الخضار، وتصرف مخصصات عينية لتتجنب ملاحقة “الإسرائيليين” والأميركان الذين يتهمون السلطة بدعم الإرهاب، وتلتزم بمعايير أوروبية صارمة في تصنيف الأسرى والشهداء، بحيث يُدرَج المناضلون الأحياء على سجل الشهداء، والمناضلون الشهداء على سجل الأسرى، من أجل تجنّب المشكلات، وللتغطية على عدم تمكّن الهيئة من “تأهيل” الأحياء، ولا من “تحرير” الأموات. وتكتمل مشهدية العبث بشاب مائع اخترع مشية عسكرية جديدة تلائم المرحلة، هي الحَجْلَة، ويرافق راقصة غيرت لفظ كلمات النشيد الوطني ليفهمه الغرب، وقد أتيا إلى مقر الهيئة للارتزاق. تبدأ مكالمة أبو وعر مع المسؤول في الهيئة بالتعارف، ثم يستفسر عن تحرير جثمانه من الثلاجة. لا يتذكر العقيد أن أبو وعر استشهد، فيسأله عن صحته. يوضح له أبو وعر أنه شهيد، فيرتبك العقيد، ويجامل، لكنه يجيبه أن راتبه سيبقى في قيد الأسرى لأن تحويله إلى قيد الشهداء سيسبب الحرج للهيئة، وذلك لانعدام وجود شهادة وفاة رسمية. ويسترسل العقيد في شرح المعايير والمحاذير… فيسأله الشهيد إن كان في الاتفاقيات التي يستحضرها ما ينصّ على مصير الأسرى الشهداء، وهنا يغلق العقيد الخط، فيعمّ الصمت وتُعتّم الثلاجة، بينما يواصل العقيد “خدمة” الأسرى القدامى الذين يتندر الناس على “إعادة تأهيلهم” باقتراح تعيينهم مومياوات، أو أيقونات، أو موجودات أثرية، وكائنات منقرضة… في المتاحف.

وللخروج من حالة العجز، تعود أطياف الشهداء إلى رام الله تتنازعهم، وقد مروا بالمقبرة، مشاعر الفرح بالمدينة، والحزن على عدم اتساعها لهم، إذ صار مَن يحظى بقبر موضع حسد ممّن حُرموا هذا الامتياز، فظل موته معلقاً، وصار الدفن غاية، والقبر أمنية. يستوقف أبو وعر وأطياف الشهداء أحد المارة، ويسألونه عن مقر “هيئة الأسرى”، فيتشكك الرجل فيهم لأنه حسبهم مستعربين، فهم يبدون غرباء غابوا كثيراً عن البلد، وسؤالهم كان بطريقة خطأ، ولو كان واحداً غيره لسلّمهم إلى الأجهزة الأمنية. وحين سُئل عن الخطأ في السؤال، ردّ أنه بتصاعد اقتحامات المستوطنين والقوات الخاصة الصهيونية، صدر مرسوم رئاسي للحديث بالعربية الفلسطينية الجديدة التي تشبه التركية، والتي فرضتها المرحلة لغرض التمويه، وهي تقوم على خدعة نحوية بسيطة تغيّر ترتيب المسند والمسند إليه، كاستبدال “رئيس السلطة” بـ “سلطة الرئيس”، و”وزير الأسرى” بـ “أسرى الوزير”… وهكذا، لكن “جيش الدفاع” يبقى كما هو في اللغة الجديدة. وهنا، يسأله أبو وعر عن “مقر أسرى الهيئة” لأنهم يرغبون في مقابلة الوزير لاستصدار “رخصة دفن”، فينصحهم بالاتصال بأهالي الأسرى والشهداء، لأنهم وحدهم مَن يعرفون المكان التالي لوجود الهيئة. وفي هذه الأثناء يلمحون رجلاً آخر سرعان ما يتعرف إليه أبو وعر: إنه أبو العز، رفيقهم الذي كان مناضلاً وأسيراً، وصار حارساً للمقبرة وساكناً لها. يرحب أبو العز بهم، ويدعوهم إلى شرب القهوة، فيذكّرونه بأنهم أطياف لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون حتى يُدفنون، فتتحلل الأجساد وتتحرر الأرواح. فيقترح دفنهم في قبر جماعي، لكن أبو وعر يلفت انتباهه إلى أن الجثامين لا تزال محتجزة وليس ثمة مَن يحررها، أمّا الأطياف فلا تُدفن، وحين تتحرر الجثامين فإن مكانها هو مقبرة الشهداء.

بعد اطّلاعهم على بؤس الواقع، يقول أبو وعر إنه لا بدّ من العودة إلى العمل الوطني “زي زمان”: بمراكمة النضال، وتوحيد الناس، وإصلاح البوصلة، وفولذة الهوية، والكتابة على الجدران. يعطيهم أبو العز علب دهان لخطّ الشعارات. ومع اندفاع كل منهم إلى كتابة “حرروا الأسرى الشهداء”، “حرروا الشهداء الأسرى”، تداهم قوة من جيش الاحتلال المكان، وتعيد اعتقال أبو وعر الذي يظهر في مركز التحقيق، مقيداً ومكبلاً إلى الخلف، وقبالته محقق صهيوني يحاول أن ينتزع منه اعترافاً بأنه ليس هو، وذلك من أجل تخفيف حالة الفوضى التي خلّفها ظهوره، إذ إن زواله لم يكن هو المشكلة، وإنما عودة طيفه. يتحدى أبو وعر المحقق بأن الناس لن يصدقوا ورقة بتوقيعه، ولن يكذبوا عيونهم التي تعرفه، وأن المحقق وإن تخلّص من طيفه بالاعتراف، فستكون مشكلته الأكبر مع مئات الشهداء الآخرين… ثم يبلغ التحدي منتهاه حين يتخلص أبو وعر من قيوده بيسر، قائلاً: “عموماً أنا رايح. إنت ما بتقدر تحتجزني.. أنا وأمثالي طيف.. فكرة.. غيمة.. فهل ستقبض على الغيم؟”

يعود أبو وعر إلى رفاقه في ساعات الفجر الأولى، فيهنئونه بالسلامة، ويستفسرون منه كيف أفلت من بين أيديهم، فيخبرهم بخصائص الطيف مشبّهاً الموت بحصان يجر عربة الحياة، وحين يستشهد المرء تخفُّ العربة، وتعلو… لأنه يمكن تحويل كابوس الموت المعلق من جحيم إلى نعيم، ذلك بأن تحقيق الموت أصعب من ممارسة الحياة، فالموت نسبي والحياة مطلقة، ومهمة الشهداء هي دعوة الناس إلى التمسك بالحياة، وحثّهم على الموت الكريم، فالحياة هي المقدسة لا الموت، والتحرير ليس إلّا طريقاً للحرية، والدولة ليست إلّا قنطرة إلى الوطن… “أمّا السلطة، فهي زُمبي: سلطة دون سيادة، مثل الميت دون دفن.. لَهَسّبب موتنا كان على شاكلتها: موت دون دفن.”[19] يطلب أبو وعر من أبو العز إيصال لعبة صنعها في السجن، إلى رشا ابنة صديقه عماد من نطفة محررة، والذي قضى وهو في السجن من دون أن يراها، وبقي جثمانه محتجزاً. ويتحسس السلاسل التي صنعها من عجم الزيتون ومنحها أسماء مَن رغب في أن يكونوا أولاده، ويطلب إيصالها إلى والده. وفي هذه الأثناء، يصل إلى الشارع عسكري وضابط فلسطينيان لمسح الشعارات قبل طلوع الفجر. وحين يستهجن العسكري ذلك، يوافقه الضابط، لكنه يستدرك أنه لا يجوز تشويه “مظهر البلد” والخربشة على الحيطان، فالمشكلة ليست في الشعارات، بل في مجهولية مَن يكتبونها وارتباطاتهم الخارجية، والذين بلغت فيهم الجرأة حدّ الكتابة داخل مبنى المخابرات، من دون أن تلتقطهم كاميرات المراقبة، كأنهم أرواح لا تُرى. يخبر أبو العز الشهداء أن الضابط هو يوسف رفيقهم في الزنزانة، وأنه قد تغير مثل كثيرين، وصار جزءاً من النظام، ويحاول التعايش معه أو العيش فيه.

يظهر بائع كعك متجول على عربة، وهو يقرأ شعارات: “حرروا الأسرى الشهداء” “حرروا الشهداء الأسرى”، وصوت راديو يبثّ رسائل مشفّرة كالتي كان يبثها صوت فلسطين أيام الثورة. يسأل أحد الشراة إن كانت الثورة، والبيانات، وحركة التحرر قد عادت من جديد، فيرد البائع بالنفي، ويخبره أن ما يسمعه هي توجيهات إلى أهالي الأسرى والشهداء لاستلام مخصصاتهم الشهرية بعد أن أصبحت محظورة كلياً، وذلك في نقاط ميتة لا يعرفها أحد سواهم، محضرين معهم “טופס שהייה / توفس شهياه [إثبات إقامة]” من إدارة السجون الفاشية. وعلى الرغم من هذا البؤس في واقع السلطة، فإن الشهداء يقررون إطلاق شرارة الثورة من النهر إلى البحر، بقيادة أبو وعر الذي يبدأ بتوزيع الهدايا على أطفال الشهداء والأسرى، والمعونات على ذويهم، من دون أن يلمح أحد طيفه وهو يقود مسيرة التحرير على طريق الحرية. 

الحرية: في مديح السيف

منذ أكثر من ربع قرن، يمارس دقّة الكتابة المزعجة، لا لأنها تأتي بمعاييرها معها فحسب، بل لأنها تشكل أيضاً إزعاجاً مباشراً لسلطة الاحتلال الصهيوني ووكلائه.[20] ففي سنة 1994 كفّت منظمة التحرير الفلسطينية عن أداء مهمتها التاريخية للتحرير، وغرقت هي ووعيها في مستنقع السلطة ضمن منحى تراجيدي قتل فيه الوليدُ والدَه وأبقى صورته معلقة على الجدار، وانتقلت من استراتيجيا الكفاح المسلح إلى استراتيجيا كفاحِ المسلح… حينها، سارع أبناء الحركة الوطنية نفسها، ممّن لم تلوثهم السلطة، من أمثال دقّة، إلى ممارسة النقد المزدوج في محاولة لتدشين وعي موازٍ لتصحيح المسار. وقد كرّس دقّة نقده على حقبتين، هما: انتفاضة الأقصى التي أعقبها تغييب الرئيس ياسر عرفات وبروز قيادة فلسطينية جديدة يسّرت صهر وعي الفلسطينيين (2000 – 2010)، وإحكام قبضة التنسيق الأمني والعنف المتبادل بين الفلسطينيين بعد الانقسام واستشراء سياسات الإغواء والإغراء (2010 – 2022)، وهما الحقبتان اللتان تتراوح بينهما مشاهد المسرحية.

وفي قراءته لهاتين الحقبتين، حرص دقّة على النظر إلى التجربة الفلسطينية بوعي يضمن سلامة المسافة بين الحدث والتأمل فيه، وجعل التأمل قوة تغيير لشروط الحدث ونتائجه.[21] وقد أسعف دقّة في ذلك انتقاله من العمل العسكري في الخارج في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلى تنظيم الحركة الأسيرة داخل السجون الصهيونية، والمساهمة بفاعلية في الحركة الوطنية في فلسطين المحتلة منذ سنة 1948 في صفوف التجمع الوطني الديمقراطي.[22] وقد أمّنت هذه البينية لدقّة موقعية فريدة من حيث القدرة على التأمل في تجربة فلسطينيي 48 بين عنصرية دولة الاحتلال الصهيوني وانعدام الرؤية الاستراتيجية لدى الرسمية الفلسطينية لاستثمار نضالات هذه الفئة من الشعب الفلسطيني، أي جدلية “الوطن” و”المواطنة” التي يعيشها الفلسطينيون في “دولة اليهود”، والتأمل في تجربة الكفاح المسلح كطريق للعودة والدولة والتحرير، ومقاومة الاحتلال الصهيوني الذي لم يغير مواقفه تجاه الفلسطينيين على الرغم من تغيير الرسمية الفلسطينية موقفها منه.

وقد أسعفت هذه الموقعية دقّة في وصف فرادة السجن الصهيوني الذي لا يشبه أياً من سجون المركز الأوروبي أو الجنوب العالمي، ذلك بأن المستهدف ليس جسد الأسير الفلسطيني فحسب، بل حواسه ووعيه وروحه أيضاً. فهدفُ العدو هو “إعادة صياغة البشر وفق رؤيا إسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما صهر وعي النخبة المقاومة في السجون”،[23] من خلال زجّهم في ورطة مشابَهَةِ الواقعِ الذي خارج السجن بـ: القراءة الخطأ؛ التعامل الأكثر خطأ مع العدو؛ المعالجات التقليدية للقضية الفلسطينية الأم التي سالت تنافذياً بين داخل السجن وخارجه، فصارا واحداً. يحلل دقّة آليات الرقابة، والإخضاع، والسيطرة، والتنظيم، التي تتوسلها سلطات السجون الصهيونية (التي تُعتبر عالَماً مخبرياً مصغراً لفلسطين خارج السجون) من أجل كسر إرادة الفلسطينيين ضمن عمليات هندسة اجتماعية محكمة تتضمن ضرب بُنيتهم التحتية، مستخدماً ثلاث مقاربات لتوضيح هذا التمرئي للسياسات الصهيونية والاستجابة الفلسطينية لها خارج السجن وداخله، هي: عقيدة الصدمة؛ المراقبة والمعاقبة؛ الحداثة السائلة.

وفي استكمال لتأمله في المشروع الاستعماري الصهيوني، والمقارنة بين السجون الصغرى والمعازل الكبرى، يرصد دقّة النقلة التي حدثت في نظام السجن الصهيوني: من مراقبته للفلسطينيين إلى مراقبة الفلسطينيين لأنفسهم. وهنا، يتساءل دقّة عن المدى الذي بلغه انتقال نظام المراقبة والسيطرة الإسرائيلية من “نظام المراقبة الدائري (البانوبتيكون / Panopticon)” الذي ناقشه سابقاً في “صهر الوعي”، إلى “نظام الإغراء والإغواء (السينوبتيكون / Synopticon)” فيما بعد صهر الوعي.[24] ويرى دقّة أن تفكيك المشهد الفلسطيني الراهن يشبه نزع العصبة الفعلية التي يضعها الصهيونيون على أعين المعتقلين، والعصبة الاستزلامية على أعين السياسيين الذين خضعوا لآليات “راقب نفسك بنفسك”، وساهموا في تكريس التحول من مراقبة الأقلية للأكثرية (سابقاً)، إلى مراقبة الأكثرية للأقلية (لاحقاً)، والذي تجاوز التنسيق الأمني فيه حتى صيغته التي نصّ عليها اتفاق أوسلو.

غير أن دقّة يراهن على الوعي الجمعي الفلسطيني الذي يعرف أن التحرير هو طريق الحرية، مثلما بشّر طيف الشهيد أبو وعر في المسرحية، ذلك بأنه “لا يمكن الخروج من الحالة الفلسطينية الرسمية الرثة، المتمثلة ليس في السلطتين وحزبَيهما فحسب، وإنما في مجمل النظام السياسي وفصائله دون النقد [….]. فالهدف هو رفع العصبة عن أعين المناضلين الذين هم أول مَن دفع ثمن نظام المراقبة والسيطرة الجديد. ولتبديد الضباب الذي نُشر من حولهم لحجب الرؤية، لا سيما الأسرى، حتى يعودوا ليشكلوا حركتهم الوطنية الأسيرة، وليستعيدوا دورهم المؤثر والفاعل في القرار الفصائلي الخاص والسياسي الوطني العام، على طريق إعادة تشكيل حركة التحرر الوطني.”[25] وفي هذا المشروع الذي لا يزال برسم الاكتمال، والذي تقدّم المسرحية مقترحاً دليلياً له، يفرّق دقّة بين الحرية كقيمة والتحرير كهدف، وبينهما يرتقي الشهداء وتعود أطيافهم. ولعل في هذا التفريق ما يكفي لاشتقاق سبع مقولات ثورية:

الأولى، أن هذا التفريق يدشّن حميمية من نوع خاص بين حالات “المعاناة” و”الحرية” و”التحرير”. ولأن الحرية لا تأتي بلا ثمن، فقد اقترنت بمقولة فلسفية فحواها أن الفلسطيني، وقد وعى عبوديته وتقلّصت خياراته، بات لزاماً عليه أن يفقد حريته كي يتحرر، وأن يموت في سبيل أن يحيا، أي أن يصير “أسيراً للحرية”. وهذا، وإن ناقض شعار أننا “نريد أن نحرر فلسطين كي نتحرر من حبها”، إلّا إن استعباد الحب جزء من دفع الثمن الذي يصير التخلي فيه عن الحرية من أجل التحرير (أي الدخول في الأسر) ثمناً للتجلّي (أي إنجاز التحرير لبلوغ الحرية).

الثانية، أن هذا التفريق الرومانسي لم يتحقق في واقع الأمر مثلما صيغ في بلاغة المثال، إذ في محرق الثورة، ضاعت البوصلة الفلسطينية بين الوسيلة (التحرير) والغاية (الحرية)، إلى حدّ بلوغ نهاية تراجيدية صارت الوسيلة فيها هي الغاية وقد جرى اختزالها. يقول دقّة: “إن وكلاء ملهى الإغواء والإغراء لا يمكن تجاهل كفاحيتهم ونضالهم من أجل التحرر، فالمتواجدون في السجون والمعازل الفلسطينية انتموا لخطاب اعتبر التحرر وليس الحرية هو القيمة، وثقّفوا وتثقفوا على هذا الخطاب الذي اشتُقّت منه استراتيجيات تأخذ في الحسبان موازين القوى المادية، وتقود إلى مساومات تراها مشروعة، فأبعدت التحرر، وخسرت الحرية.”[26]

الثالثة، أن هذا التفريق ليس ترفاً فلسفياً، فهو مكّن الرسمية الفلسطينية الجديدة من إدراج التحرير، والعودة، والدولة، والعاصمة، وحق تقرير المصير… كملاحق لا يقرأها أحد في كتاب الثورة القديم. فـ “الحرية بصفتها قيمة، غير خاضعة لحسابات موازين القوى، ومن طبيعتها أنها غير قابلة للمساومة، فإمّا حرية وإمّا عبودية. ولا يوجد نصف حرية أو ربع حرية، بينما تحرير الوطن خاضع لحسابات موازين القوى وللمساومات في ملهى الإغواء والإغراء. ولذا، كانت النتيجة أقل من ربع وطن افتراضي على الورق. كما أن الحرية كقيمة، عندما تتمثّلها الأجيال، هي شرط لحماية التحرير حتى يتطابق مع روايتنا التاريخية. وإن عقدنا بعض المساومات المشروعة، تبقى الحرية هي معيار مشروعية هذه المساومات. الحرية هي الثابت الوطني بأل التعريف.”[27]

الرابعة، أن هذا التفريق، وإن كان أداة الثوريين في تعريف وسائلهم وغاياتهم، إلّا إنه أيضاً، أداة أعداء الثورة، من الاستعمار إلى وكلاء الاستعمار، لعزل الثوريين عن حاضنتهم الشعبية، أكانوا في السجن الأصغر، أم في السجن الأكبر. لكن ذلك لا يُضعف ثوار اليوم مثلما لم يُضعف ثوار الأمس، ذلك بأن “المبشرين بالحرية والرافضين الانصياع لنظام الإغواء والإغراء يشبهون أولئك الشباب الذين انطلقوا من الجامعات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي نحو تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية على أسس كفاحية جديدة، واتُّهموا بأنهم يغردون خارج سرب النظام العربي الرسمي، مع فارق جوهري وهو أن قادة منظمة التحرير الفلسطينية لم يعتبروا الحرية قيمة وإن كانت قد زُيّنَت بها مؤتمراتهم وبياناتهم، ولم يواجهوا ما تواجهه الأجيال اليوم من إغراءات ومساومات في ظل ثقافة تسلّع كل شيء بما فيه الحرية.”[28]

الخامسة أن تجربة التحرر الفلسطيني لم تثمر توحيداً بين جمالية البندقية كأداة تحررية، وفاعلية وعي البندقية كقيمة تحررية، خلال قتالها للعدو الصهيوني، ومحاولتها الانتصار عليه، ذلك بأن “القتال” المتضمن لـ “القتل” ليس قيمة في ذاته، بقدر ما هو إعلاء لقيمة الحياة الحرة في الذات المستعمَرة حين تصرع مستعمِرها. وهنا، ينقد دقّة تجربة الكفاح المسلح كأداة للتحرير على مستويين: الأول، نقد البريق الأداتي للبندقية في يد مَن لا يمتلك وعي نارها التي لا تتحقق العدالة إلّا بها، والآخر نقد تبعات الهوة التي نشأت بالتدريج بين حَمَلة الحقائب المليئة بالسلاح، وحَمَلة الحقائب المليئة بالأوراق وخرائط الطريق… إلى الهاوية. إذ “في المسافة بين نخبوية العمل المسلح والنخبة الدبلوماسية الفلسطينية، منطقة مكشوفة، ومساحة لا تغطيها أية استراتيجية تحرير، وسيادة السلطة فيها غائبة. فالدولة ‘بالطريق’، ضاعت في الطريق إلى الدولة، وفي ذات المسافة بين حركة التحرر والدولة، حيث ضاع التحرير واستولى الفساد على المؤسسة.”[29]

السادسة، أن هذا التفريق، وإن شرعن للفلسطيني عنفه الثوري الذي ولّده العنف الاستعماري، إلّا إنه لا ينبغي له أن يدفع الفلسطيني إلى التوحش حين ينازل الوحوش، على الرغم من ضرورة القتل لتحقيق غاية القتال، وهي قتل المظلوم الذي في المستعمَر، وقتل الظالم الذي في المستعمِر.[30] وهنا، كان لدقّة قوله في جدوى الكفاح المسلح كقنطرة بين حدّين، يعبر بها الفلسطينيون معركة التحرير نحو عيد الحرية بسلاح ثوري منضبط، “فسلاح لا تحكمه استراتيجية تحرر، هو فوضى سلاح، وسلاح الفوضى لا يطلَق إلّا للخلف. وخلف السلاح هذا نقف نحن جميعاً، الوطن والمواطن، خلف السلاح يقف البرنامج والرؤية الموحدة، خلف السلاح دماء الشهداء وتضحيات شعبنا، وسلاح الخلف هذا سينفّذ فينا مجزرة جماعية… سلاح الخلف حين يتقدم على كل شيء، يتحول من أداة إلى مبدأ، فتضيع كل الثوابت.”[31]

السابعة، أن الانتماء الحزبي للمقاتل من أجل الحرية، يجب ألّا يُودِعه في أسر تنظيمه العسكري أو السياسي، لأن التنظيمات التي كانت تسلّح أعضاءها بالبنادق، هي أيضاً أدوات للتحرير، مثلما أن منظمة التحرير الفلسطينية بأسرها، هي أداة للتحرير، وعلى الثوري أن يتمتع بوعي يسمح له بانتقاد الأداة، ومغادرة القطار إن علق في النفق، والموت في سبيل إخراجه أو سحقه، ولسان حاله يقول: “أنا، لا لهذه الثورة انتميت، ولم أدْعُ ولا أصلي لمثل هذه الحلول. وأنا لا أنتمي لتنظيم آخر، ولا لحزب يقدَّم على الوطن.”[32] 

الذاكرة: في مديح الكابوس

لكن دقّة هو كاتب الحكايات الذي لم يفقد الذاكرة، وإن خشي فقدانها. فبعد معاناته جرّاء هول العزل الانفرادي كإجراء تنكيلي يمكن أن يودي بالذاكرة والمتذكّر في آن ٍمعاً، فُجع بإصابة والدته بـ “مرض النسيان”.[33] وقد أورثه ذلك حسرة لا تفارقه، وجعلته يتأمل مصيره بعد التحرر، فأطلق صرخته – القصيدة: “أخشى حرية بلا ذاكرة”.[34] وهنا، لجأ إلى الإبداع في السجن قنطرةً لتبليغ “نسل الذاكرة” للصغار الذين كتب عنهم ولهم أسرار الزيت والسيف والطيف، وهي حكايات عن النسيان تُلزمهم بالتذكر.[35] أمّا صراعه مع العزل، فأورثه كابوسين ثقيلين: الأول، هو الخشية من فقدان الذاكرة على المستوى الفردي، والانفقاد من الذاكرة على المستوى الجماعي، حين يتحرر.[36] والآخر، هو الخشية من التقاء فقدان العديد من الذاكرات في نسيان جماعي كبير يحوّل الأسير إلى زُمبي،[37] وتحديداً مَن مكث في السجن أكثر من 37 عاماً، الأمر الذي جعله يطرح سؤالاً وجودياً أكبر: هل نسيه خالق الذاكرة والنسيان، جلّ في علاه؟ وماذا سيحدث للكون لو أصيب المطلَق بـالزهايمر ونسيه في السجن، ونسي أمه الفاقدة للذاكرة في الحرية؟

إن نضال دقّة في محاربة النسيان، عبر الحكي والتنظير والرسم، ومن قبلها البندقية، يستدعي ثنائية كبرى من عالم الأفكار المصاب بالسياسة: ففي هذا العالم يحتفي فريق من المثقفين بـ “نعمة النسيان”، مثلما جاء في أغنية شامية قديمة، معتبرين كليّة التذكر كابوساً، بينما يوبّخ فريق آخر الناسين، كما جاء في أغنية فلسطينية جديدة لعبد قدورة “وإنْ نِسينا يبتلي النسيانْ فينا”، معتبرين النسيان نفسه كابوساً. وفي حين يبحث هذا القسم من الدراسة في مقولة الأولين ويمثلهم إدوارد سعيد، والآخرين ويمثلهم إلياس خوري، فإنه يستند إلى مقولة دقّة بأن الفلسطيني القابع في العالم الموازي للسجن إن أصابه النسيان صار “زُمبي التاريخ” الذي ينوس بين الحياة والموت… ولا يصل.[38] فالنسيان بالنسبة إلى الإنسان يعني نهايته أنطولوجياً، وبالتالي، نهايته سياسياً في الماضي والحاضر في آنٍ معاً. فـ “الزهايمر هو فقدان الصلة مع الماضي، والحاضر كلمبة معطوبة، فيصبح الغد غير قائم، أو قائم كفراغ نهائي… هناك حالتان تتواجد بهما المادة: الحياة أو الموت. أمّا الأسير، فهو حالة ثالثة – زُمبي، وأنا [الأسير] الزُّمبي أقف بين برزخين: برزخ الأحياء، وبرزخ الأموات. والزهايمر هو حالة زُمبي لا منتمٍ، أو هو الصنف الثالث بين نحن وَهُم، فهو ليس نحن، لكنه لا يشبه الآخر، أو ليس الآخر تماماً [….] أنا وأمي حبّتا رمل في ساعة الرّب. أنا وأمي أسيران بين البرزخين: برزخ الأحياء، وبرزخ الأموات… أنا وأمي طفلان فقدا تذاكر العودة في محطة قطارات كبيرة، وبقيا على الرصيف عالقَين بين ماضٍ لا يتذكرنا، وغد تحدق به أمي في سقف غرفتها، تماماً كما أحدّق الآن في سقف زنزانتي، فترى على امتداد المدى بياضاً، وصوت صفير فارغ موحش.”[39]

غير أن دقّة، في المسرحية، يجعل من التحرير شرطاً للحرية، ويجعل من الذاكرة ضامناً كي يُبْلِغ الوسيلةَ غايتَها، ذلك بأنه إن فُقدت الذاكرة، فُقدت القيم، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي. ولعل هذا الإدراك لأهمية الذاكرة لم ينفرد به الفلسطينيون وحدهم، بل أدركه أعداؤهم. ولذا، فإن دولة المستوطنين، إسرائيل، تعمل على محاربة الذاكرة كضامن لاستمرار وسيلة التحرير، وبالتالي بلوغ غاية الحرية، عبر ثلاثة مجالات تحاول من خلالها تدمير منظومة قيم الحرية، وهي المكونات الكلاسيكية للهوية الوطنية الفلسطينية: الأرض، والناس، والحكاية.

لقد تنبّه إدوارد سعيد مبكراً إلى تزايد الاهتمام بخطاب الذاكرة المتمركز حول الأرض في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية كجزء مركزي من مكونات الهوية.[40] وكان للأعمال الإبداعية دور مركزي في استدعاء تقاطعات الذاكرة في فضاءَي التاريخ والجغرافيا، سواء الأصلانية القديمة (الخالقة)، أو الاستعمارية الجديدة (المختلَقة). أمّا فلسطين التي يقارنها سعيد بالحالة الهندية الحمراء، فلم تكن استثناء في عدم حيادية “فن الذاكرة”،[41] لأنها تمثّل بؤرة التوتر الكبرى بين المخيالين: الاستعماري والتحرري. ومع أن سعيد يشير إلى أن نكبة 1948 هي نقطة مؤسسة للذاكرة والاختلاق، إلّا إن قوة السردية التاريخية الاستعمارية الاختلاقية في نفي إمكان وجود جغرافيا أصلانية، وبالتالي نفي القدرة على تحويلها إلى ذاكرة مكتوبة، تشكل تحدّيَين: الأول للصهيونيين، كون النكبة، مثلما يشير خوري، لم تتحول إلى ذكرى، لأنها بُنية مستمرة، على عكس الهولوكوست التي صارت ذاكرة.[42] والآخر للفلسطينيين الذين عليهم اجتراح مقولات تصف ذاكرتهم الجريحة التي لم تصبح ماضياً ولم تُفْقَد، ذلك بأن من أعظم معارك الفلسطينيين معركة استرداد الذاكرة، ونيل شرعية تمثيلها بالثقافة، والقدرة على كتابة تاريخ الأرض لاسترداد الحقّ في جغرافيتها.

وفي هذه الأرض كثر الموت والموتى، لكن ذاكرة الموت لم تصر يوماً موتاً للذاكرة، وإن اعتراها المرض، لأن الصغار في فلسطين يتدربون على تذكّر حكايات النسيان. وقد أنجزَتْ ثلاثية دقّة لليافعين مهمة جليلة في هذا الميدان، غير أنه في أعماله السيرية والمسرحية، يمارس نوعاً آخر من تذكير الصغار والكبار بحكايات النسيان في سجون فلسطين ومعازلها. ففقدانات الذاكرة الفردية هذه تشكل حكاية تذكّر جماعي لتجربة الأسر في مؤسسات القمع الاستعمارية التي تُهندس الأفراد في المدرسة والسجن والمصحة. ولعل في نسيان الأسرى الشهداء الذين تحثّ المسرحية على تذكّرهم، ما يشي بالتحريض على عدم نسيان آخرين من الأسرى الذين لا يزالون، منذ ما قبل النكبة وحتى ما بعد أوسلو، في دائرة النسيان، يتعاقبون على السجن، ويتعقّبون الحرية.

فمع الجيل الأول من الأسرى، تتجلّى في قصة الشيخ حسن اللبدي، من طولكرم، أبرز معالم مدوّنة فقدان الذاكرة في تجربة الحركة الفلسطينية الأسيرة، لأنها توجز تعاقب الهيمنات، وتوارث أنظمة السجن. فقد غادر بلدته كفر اللبد إلى أبو ديس حيث عمل مؤذناً وإماماً، ورابط في المسجد الأقصى، وشهد ثورة 1936. وخلال حصار الإنجليز للمسجد الأقصى في سنة 1939، اعتُقل اللبدي على خلفية طعن ضابط استعماري وقتله، فحُكم بالإعدام الذي خُفّف إلى السجن المؤبد. مكث اللبدي في سجن عكا التاريخي حتى سقوطها في يد الصهيونيين في 18 أيار / مايو 1948،[43] ثم انقطعت أخباره، ولم تتمكن عائلته من الوصول إليه، أو معرفة مصيره عبر الصليب الأحمر ولا غيره.[44] وجلّ ما عرفه أهله أن الإنجليز أوكلوه إلى الصهيونيين مع وقوع النكبة،[45] ثم انقطعت الرواية حتى سنة 1982، اللهم إلّا من كونه فقد الذاكرة بين السجون الإنجليزية والصهيونية، وأنه حُوّل إلى مستشفى الأمراض العقلية في دير ياسين التي كانت مدرسة قبل المجزرة. وبعد 43 عاماً، سُلّم اللبدي، كوديعة، إلى أهله الذين أخذوه إلى أبو ديس، ثم كفر اللبد، وأخيراً إلى ابنه في عمّان حيث فارق الحياة بعد ثلاثة أشهر. لقد تحوّل اللبدي من ذات ودّعت الحرية لتساهم في التحرير، إلى وديعة بلا ذاكرة، لم تبلغ التحرير، ولم تنل الحرية.

ومع الجيل الثاني من الأسرى، تتجلّى في قصة محمد رجا نعيرات من جنين، وأحد قادة الجناح العسكري في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حكاية نسيان مؤسسة الثورة مَن حملوا البنادق في معاركها. فبتوقيع اتفاق أوسلو، كان السبعيني نعيرات قد أمضى في الأسر أكثر من عقدين من الزمن، لكن شروط صفقة أوسلو فيما يتعلق بالإفراجات لم تنطبق عليه، إذ رفضت دولة المستوطنين الإفراج عمّن تسببوا بمقتل صهيونيين. حينها، كان نعيرات فَقَد معظم ذاكرته، وبعد محاولات حثيثة من دقّة، تمكّن من التعاقد مع أشهر المحامين اليهود للترافع عنه. وقد اعتذرت وزارة الأسرى، آنئذٍ، عن تغطية رسوم الترافع، وتكاليف الفحص الطبي… لكن دقّة، وزوجته، ووالدته (التي أصيبت لاحقاً بالمرض ذاته) نجحوا في جمع المبلغ المطلوب، واستصدار قرار بالإفراج عن الأسير الذي نال منه العمر والنسيان… احتفلوا بتحرره، غير أن الغائب الأكبر عن التحرر كان نعيرات نفسه، فهو لم يكن واعياً لما يعنيه الإفراج، ولا الفرح، ولا الحزن، ذلك بأن ذاكرته توقفت عند سجن جنيد، ورسائل أبو عمار والحكيم.[46] عاش نعيرات في بلدته ميثلون قرابة عشرة أعوام، حتى قضى نحبه في سنة 2007.

أمّا الجيل الثالث من الأسرى، فيمثله أحمد مناصرة، الطفل المقدسي، من بيت حنينا، الذي لم يقل “نسيت” بل قال “مِشْ متذكّر”.[47] وكان أحمد قد اعتُقل في 12 تشرين الأول / أكتوبر 2015، عقب عملية طعن نفذها ابن عمه حسن واستشهد، في مستعمرة “بسغات زئيف” في القدس المحتلة. ومع أن مناصرة لم يشارك في عملية الطعن، وكان في الثالثة عشرة، أي دون السن القانونية الدنيا للمسؤولية الجنائية، إلّا إنه أدين بمحاولة القتل في سنة 2016. وفي إثر اعتقاله، تعرّض مناصرة لتحقيق قاسٍ ظهرت منه لقطات يخضع فيه للاستجواب العنيف من طرف ثلاثة محققين صهيونيين وهو يبكي واضعاً يدَيه على رأسه، ويردد: “مِشْ متذكِّر”. وجرّاء التحقيق، والعزل الانفرادي لفترات متتالية، بات مناصرة يعاني مشكلات نفسية حادة، وقد نُقل إلى المستشفى أكثر من مرة بسبب تدهور حالته. وعلى الرغم من حملة المناصرة العالمية التي قادها حقوقيون وأكاديميون فلسطينيون، ونداءات منظمة العفو الدولية، فإن السلطات الصهيونية لا تزال تعتقل مناصرة، وتزج به في العزل الانفرادي وغابة النسيان.

لم يُتَح لهؤلاء كتابة ذاكرتهم، وهي برسم مَن شهدوا نسيانهم للذاكرة، وبرسمنا نحن الذين نشهد نسيانهم من الذاكرة. لكن يبقى السؤال عند كتابة الحكاية الفلسطينية: ماذا سيتذكر المتذكرون، وماذا سينسى الناسون؟ كتب محمود درويش “ذاكرة للنسيان” كي يجعل من محض استحضار فعل النسيان دينامية لتخليد الذاكرة التي لا تزول ولا تدول في تدوين آثار الحرب وأهوالها على جسد الضحية.[48] ولهذا، تأثر الفلسطينيون في تعاملهم مع “الذاكرة المقدسة” التي طاردها “التاريخ العلماني” باتجاهين بينهما هوة تشبه الموت: الأول، انبثق من سجال الذاكرة في إطار الحداثة العربية الباحثة عن “شرعية المستقبل” – كرّسه إلياس خوري بالتنظير والممارسة الروائية، والآخر انبثق في إطار الحداثة الغربية الباحثة عن التحلل من “شرعية الماضي” – دشّنه إدوارد سعيد بالتنظير والممارسة النقدية.

ففي سعيه لإيقاف الذاكرة التاريخية العربية على قدميها، كمكوّن مركزي في مشروع التحرر، اقترح خوري ذاكرة معافاة من المساومة مع الماضي أمام الانهيار التاريخي المعاصر في مواجهة المشروع الاستعماري الغربي في فلسطين والعالم العربي. أمّا “ثقوب الذاكرة” التي أحدثها عنف الحرب، فلا تسدّها مساومة مع الماضي “الظلامي” ولا الحاضر “التنويري”، بل مقاومة مزدوجة على أرض الواقع وأرض الذاكرة اللتين كانتا ضحية المشروع الاستعماري الغربي المسعور، ورأس حربته الصهيونية. وهنا، لا يكون للنسيان من مهمة إلّا التذكير بنسيان النسيان. ومن أجل إنجاز مشروع نسيان النسيان، تنجز البندقية المقاتلة مهمة البقاء الفيزيائي على الأرض، بينما تنجز الثقافة المقاومة مهمة بقاء الرواية في الذاكرة لتنتصر على ظلم التاريخ. وهنا، أيضاً، يتحول المثقف من صيد للذاكرة إلى صائد لها مثلما اقترحت الراحلة رضوى عاشور في كتابها “صيادو الذاكرة”[49] الذي اصطادت عنوانه من رواية “باب الشمس”، في مسعى نبيل لاصطياد الحقيقة، لأنها الرواية التي تمكّن خوري من خلالها، وعلى امتداد مشروعه الروائي، من تحويل ذاكرة الفلسطينيين إلى تاريخ. لقد أدرك خوري، ومنذ نهاية السبعينيات، أن “الحلم الجميل الذي يراود مخيلة جميع المبدعين بأن يكونوا بلا ذاكرة يتحول إلى كابوس حقيقي لأننا نعيشه في العتمة المظلمة، حيث لا شيء، القلم والورقة البيضاء وأفكار غامضة ودماء”،[50] وأننا لا نستطيع أن نبدأ النقد إلّا بالنقد.

وإذا كان مشروع خوري دعوة إلى ممارسة تذكّر جماعي حر، فإن مشروع سعيد كان دعوة إلى ممارسة نسيان جماعي مقنن يرى فيه، وعلى خطى بورخيس، أن الذاكرة، لا النسيان، هي كابوس المثقف الذي يعرف أن “فونس المتذكّر” قتلته ذاكرته.[51] لكن عدم ملاءمة المجاز الأدبي لا تكفي لاتخاذ موقف من سعيد، ذلك بأن التشخيص التاريخي، والتحليل النظري، والحلول السياسية التي بشّر بها، هي التي تشكل التعارض بين مقترحه ومقترح خوري. فهو يتخذ من نكبة فلسطين التي وقعت ضحية للاستعمارين البريطاني والصهيوني، نموذجاً لتقديم ترسيمة تاريخية تشخّص إرث التقسيمات الاستعمارية الكبرى في سنتَي 1947 و1948. وعبر تحليل نظري مقارن، يعزو سعيد فشل سياسات التقسيم في حل الصراع إلى أمرين: الأول، أنها كانت أداة لتوكيل حركات استعمارية من أجل استكمال الدور الإمبراطوري البريطاني، وليس لبلوغ حل عادل. والآخر، أن “أمراض السلطة” في حركات التحرر الوطني لم تمكّنها من تدشين سياسات ذاكرة تشترك مع “الآخر” في صنافية “مجتمعات المعاناة” بدلاً من رعاية النرجسيات الوطنية التي تعمّق مأساة اللاتجانس الناتج من إلحاح “مجتمعات المقاومة” على استئصال شأفة الاستعمار. واستناداً إلى مقترحات صديقه إقبال أحمد، وآخرين، اعتقد سعيد أن بداية الحل تكمن في مقدرة المستعمَرين على تحويل “الوعي الوطني” إلى “وعي اجتماعي” بغية تهيئة الأجواء لـ “المصالحة”، أو بالأحرى “إعادة الانسجام”، من خلال التنازل عن الذاكرة الكلية الشمول… وذلك على الرغم ممّا يشكله هذا المقترح من تلاشٍ للفرق بين الضحية الأصلانية والناجي الاستعماري، وتكريس لمقولة التكافؤ الأخلاقي بين النقيضين.

ولأنه لا مجال للتكافؤ الأخلاقي بين الضحية والجلاد، كما لا مجال للتصالح مع مَن يواصل احتجاز جثامين الأسرى بعد استشهادهم، فلا بدّ من مفهمة علاقة سياسات الذاكرة والنسيان بسياسات الحياة والموت في بلاد تلاشت فيها الفروق بين المخيم والسجن والمقبرة. 

الموت: في مديح الطيف

في قصيدة قديمة يقول حسين البرغوثي: “ماذا أقدِّم للمقبرةْ؟ إن الطريقَ إليها، طريقٌ لنخرجَ منها خروج الإلهْ. ليست يد التذبيح أقوى من سيول الحياةْ.”[52] ربما لا يجد الفلسطينيون وصفاً أكثر دقة من هذا التساؤل الواصف لسياسات الحياة والموت التي يحيونها ويموتونها، فهم يقدّمون للمقبرة الشهداء، بينما تقدّم لهم المقبرة حلم العودة، عودة أطيافهم أو عودة جثامينهم أو عودة أجسادهم الحية إلى فلسطين المحررة. فالموت، في التجربة الفلسطينية، قد يكون طريق الحرية الوحيد حين تنسدّ الطرق؛ حرية الجسد حين يصير جثماناً قابلاً للعودة إلى الوطن – الأرض، أو طيفاً عودته إلى الوطن – الفكرة أمر مؤكد. غير أن سياسات الحياة والموت في فلسطين تتوزع بين سلطتين: السلطة الاستعمارية والسلطة الفلسطينية، وثمة العديد من المؤشرات في مسرحية دقّة: الشهداء يعودون إلى رام الله، إلى “حالة النفق”. فقد عمّ الخراب الروحي والاجتماعي الناتج من أمراض السلطة التي تكثّفها ثنائية “الشهيد والعقيد” في المسرحية كتضاد بنيوي بين الذاكرة والنسيان. وقد ضاعف من هذا التضاد حالة الانقسام الذي أصاب الجسد الفلسطيني بما يشبه الموت، موت سياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وموت فيزيائي لأحرارها اللاجئين والأسرى والشهداء.

تطفو مؤشرات موت الجسد الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية على سطح المسرحية، فتغير السلطة مسمّى “وزارة شؤون الأسرى والمحررين” إلى “الهيئة الوطنية لإعادة هيكلة الأسرى والشهداء وتأهيلهم”، ويُصدر الرئيس مرسوماً للحديث بالعربية الفلسطينية الجديدة التي فرضتها المرحلة، من أجل التمويه على “الطرف الآخر”، في الوقت الذي تخدم اللغة الجديدة عدواً لا تسمّيه. وتنشغل أجهزة الأمن بـ: السيطرة على الفضاء العام والحفاظ عليه “غير مشوه” بالشعارات؛ إنفاذ القانون بامتثال تام لإملاءات العدو؛ الانتشاء بحالة الانهيار الأخلاقي التي صارت تحتمل اقتراح مُخنّثٍ بتغيير المشية العسكرية، واقتراح راقصة بتغيير النشيد الوطني؛ “إعادة تأهيل الأسرى” عبر مَتْحَفَتهم؛ جَعْل أفعال الحرية وقيم التحرر من آثار الماضي، فلا تقيم، هي وفاعلوها، إلّا في المخيمات أو في السجون أو في المقابر… أو تقوم على حراستها؛ حصر الانشغال بقضايا الأسرى والشهداء بذويهم؛ تفشي المزايدة واقتراف الشر الصغير عبر الانخراط في أجهزة السلطة الأمنية أو في هيئاتها، والبيروقراطية التي تكرِّس مشروعها المعادي لمشروع التحرر وقيم الحرية، والمتواطئ مع الاحتلال في إهاب وكالة عنه.

أمّا موت الأحرار، الشهداء، فتكرّس له المسرحية مستوى آخر من الوصف يقيم في البُنية العميقة لمتنها الذي كُرّس لمفهمة تحولات الجسد إلى طيف خارج من أمكنة الموت إلى أمكنة الحياة، ضمن خمس مقولات كبرى:

الأولى، أن أمكنة الموت هي برزخ ثوري. فعلى الرغم من المقولة الأخلاقية العامة للمسرحية بضرورة تحرير جثامين الأسرى الشهداء من الثلاجات ومقابر الأرقام التي هندستها السلطة الاستعمارية كجغرافيات موحشة لتعليق الموت، فإن أماكن الموت هذه تنهض كبرزخ ضروري للحيلولة دون تلوّث فكرة الشهيد بما لحق بأماكن الحياة بعد رحيله من عطب، ولصون سرِّه الذي لا ينبغي لغير عشاق الشهيد والشهادة معرفته. وهنا، تتصادى نصيحة المجاهد الجزائري للشهداء ألّا يعودوا إلى القرية، وأن يتدربوا على الحياة في مكان آخر، مع حرص الفدائي الفلسطيني الذي يحرس المقبرة على ألّا يتحدث طيف الشهيد مع ماسحي شعارات الحرية لئلا يكشفوا سرّه. وفي هذا البرزخ الأنطولوجي، يبدو أن إرجاء فاعلية الموت جاء بنتيجة معاكسة، إذ يمكن لأمكنة الموت المليئة بالشهداء أن تتحول إلى قوة دافعة للقطار الذي سيُخرج عربة الحياة العالقة من نفق ورطتها.

الثانية، أن أماكن الموت هي منابر أخلاقية لنقد البينية القانونية التي مَوْضع فيها العدوُّ الأسرى الشهداء. فعلى الرغم من اعتبار الثلاجات ومقابر الأرقام حاضنات سجنية للموت، فإن العدو يستخدمها، على نحو ثأري، فيما يفرضه من سياسات الحياة والموت على الشعب الفلسطيني لتحقيق مصالحه، غير أنه يمكن النظر إليها كحاضنات تحررية للحياة، إذ فيها تتفوق أطياف الشهداء على أجساد الجلادين، وتُعقد لهم محاكم الضمير المفتوحة. فدولة تحتجز ذاتاً أفقدتها أهليتها القانونية (بقتلها) من دون أن تُسقط عنها أهليتها الغُرمية (باحتجازها)، هي دولة مجرمة. وجلّاد لا يميّز بين تقييد أسير معافى في الزنزانة، وأسير مريض في العيادة، وأسير ميت في المشرحة، وأسير محتجز في الثلاجة، وبغضّ النظر عن لباس الجلاد، ومهمته في الحراسة أو التطبيب أو التشريح أو التمريض، هو “أيخمان صغير” يقترف “الشرّ الكبير”. ومن الجدير ذكره أن الأسير زكريا زبيدي حاول استثمار هذا المعضلة القانونية حين تقدّم، ومن دون جدوى، بالتماس إلى إدارة السجون الصهيونية لزيارة جثمان أخيه الشهيد داود زبيدي.

الثالثة، أن تلاشي الفرق بين الأسير والشهيد تفضح البينية البيروقراطية التي تتوسلها السلطة لإقصاء قيمة الفداء من فعل الشهادة في حالة الأسير المحتجز جثمانه، وتحويل الانتقال من حالة إلى حالة إلى أمر تقني تحسمه الأوراق القانونية الصادرة عن سلطة العدو. فالشهيد في الرواية لا يصير شهيداً إلّا عبر “وثيقة الموت” التي بها وحدها يمكن أن يصير ذاتاً قانونية في نظام المعاملات. وفي المسرحية، ثمة خدر بيروقراطي فلسطيني يستند إلى انعدام الحسّ الأخلاقي لسلطة العدو، وفحواه أن ثمة ضرورة إجرائية لوجود “شهادة إقامة” في الزنزانة، أو “شهادة وفاة” في الثلاجة، أو “ورقة دفن” في مقبرة الأرقام، إذ لا يمكن من دونها إدراج الاسم في قيد الأسرى، أو في قيد الشهداء. وهنا، يصدق المثل الجزائري القائل إن “الحي يوجّه رأس الميت حيث يشاء”، لكن تبقى المعضلة في حدِّ مفهوم “الميّت” في الحالة الفلسطينية، إذ لا يصير الميّت ميّتاً من دون وردٍ وحنّاء ودفن وقبر. ولذا، يمكن، على هذا النحو، فهم استبدال ترتيب الموصوف والصفة في الشعارات التي خطّتها أطياف الشهداء العائدين إلى رام الله: “حرروا الأسرى الشهداء”، “حرروا الشهداء الأسرى”.

الرابعة، أن الثلاجة هي مخيم موتى، وتقتضي استحداث معجمية جديدة لوصفها. فالأسرى الشهداء يعيشون في حالة بينية يتلاشى فيها الفرق بين السجون والثلاجات والمقابر، بصفتها “أماكن متغايرة” (heterotopias)، لكن عملية تعليق الموت هي الفعل الناظم لهذه البينية، ذلك بأن الدفن يعني عودة الجسد إلى مكانه الأول – الأرض، بينما الشهيد، بعد أن كان أسيراً، يُعتقل جثمانه، ويُحرم من حقّ العودة إلى الأرض: الأرض – التراب (earth) والأرض – الوطن (land) في آنٍ معاً. وبذا، يصير الشهيد في الثلاجة أسيراً شهيداً لاجئاً بضربة واحدة، في حين تصير الثلاجة مخيم موتى يطالب بصنافية لغوية جديدة لوصف ساكنيه. فإذا كان اللاجىء هو مَن يسكن المخيم، والأسير هو مَن يسكن السجن، والميت هو مَن يسكن المقبرة، فماذا نطلق على مَن يسكن الثلاجة؟ “المجمّد” بلغة الحضر، أم “المنيع” بلغة البدو؟ هنا، تشكل قصة داود زبيدي تصعيداً مزدوجاً لهذه الحالة، إذ إنه يُعتبر نموذجاً مثالياً (archetype) للمجمّد / المنيع الذي حاز صفات اللاجىء والجريح والشهيد والأسير المحتجز جثمانه في صقيع العدو. أو ربما يمكن استخدام توصيف دقّة نفسه للمقيم في الثلاجة بـ “الزُّمبي التاريخي”[53] (وهو كائن لا حي ولا ميت “يقف بين برزخين: برزخ الأحياء، وبرزخ الأموات”[54])، الذي حُرم من الحقّ في الحياة الكاملة، والحقّ في الموت الكامل في إثر الحرمان من الحقّ في العودة الكاملة إلى الوطن الكامل.

الخامسة، أن بشرى عودة الشهداء، عبر قيامة أطيافهم وتمردهم على قوانين الفيزياء، هي إشارة إلى طريق التحرير، وإرهاص باقتراب الحرية. فقد تحقق تحرير أطياف الشهداء على يد آخرِهم استشهاداً، وهو كمال أبو وعر، رفيق دربهم وقائد ثورتهم. وهنا، ثمة ما يفيد بإدراك الجيل الفلسطيني الجديد لفاعلية الفدائي المؤكدة في حياته، وفاعليته المختزنة كطاقة بعد استشهاده، لإنجاز قيامة جماعية تتحدى فيها أطياف الشهداء قوانين المادة، وتتغلب على تقنيات السلطة الاستعمارية ووكلائها الأمنيين، وتُعطّل حواسهم، وتبطل فعل كاميراتهم، وصدأ قيودهم، ونار بنادقهم، ومدوّنات قوانينهم… فلا يؤسَرون، ثانية، ولا يموتون. ولذا، فالطيف في كل حركة ينجزها، يستنسخ فاعلية الاستشهادي حين يفجّر جسده، ولا يتيح للعدو التحكم في وجوده المتشلّي (من كلمة أشلاء).[55] وهنا، تتحقق حالة نادرة من التسامي، بالمعنى الكيميائي، وحرفياً حين يتحول الجسد الذي أُرجىء دفنه إلى طيف من دون أن يمر بالتراب، كأن الحرية، حتى في أبسط صورها الفردية، لا تتحقق إلّا بالتحرر من الجسد… عبر تطييفه. 

إلى أين يذهب الشهداء؟

ليس في وسع هذه القراءة الطباقية أن تجيب عن السؤال القديم الذي طرحه فيصل درّاج: “إلى أين يذهب الشهداء؟”[56] لكنها تتملّى في خيارات الإجابة حين لا يتحقق الشهيد إلّا بفاعلية الطيف التي وضع كل من وطّار ودقّة حزمة خيوط حمراء تحتها. فقد “يذهب الشهداء إلى النوم”،[57] مثلما اقترح محمود درويش، مرة، لكنهم لا ينامون في برد الثلاجات السميك ولا في تراب مقابر الأرقام الضحل…لأنهم يحتاجون، أولاً، إلى مَن يحرس جثامينهم التي لم تُدفن بعد في مراسم تليق بصعودهم إلى حتفهم، باسمين أو متجهّمين، ويحتاجون، ثانياً، إلى مَن يحرر جثامينهم كي تُدفن في مراسم تليق بمقولتهم الكبرى، ومن بعدها يمكن للشاعر أن يصحو، على مهله، لحراستهم “من هواة الرثاء”… فحين يُطرح سؤال الشهادة ومنتهى الشهيد وتعدد تمثّلاته، في عوالم الحياة والموت، لا بدّ من مقاربة تعالج الماهية والفكرة والحلم، وتسبر ما بينها من علاقات في زمن الشهيد الدائري.

صحيح أن الشهداء “لم يسألوا: ماذا وراء الموت؟”[58] ذلك بأنهم لم يموتوا تماماً، لأن إكرام الميت دفنه، لكنهم، وهم في موتهم المعلّق يتأملونه ويتألمونه وقد عزّ الدفن، يحرّضون ضميرنا الجمعي على التألم والتأمل في مصيرهم المتسامي بين حالات الكثيف والشفيف من صور الشهيد، إذ هو ماهية وفكرة وحلم في منظور درّاج. فالشهيد ماهية تتناتج في الواقع الفلسطيني، لأنه علاقة يومية فيه، ونداء يحوم في فضائه ليحيل هالة المفقود إلى سؤال قديم: إلى أين يذهب الشهداء؟ وإن وَجد مكانه، فليس في البلاغات العالية التي لا يتقنها، وإنما في وطنه المعلّق في الريح حيث يتحول إلى ملصق على جدران البلد، أو ينتهي إلى لا مكان حين تمسح الأمطار ملصقه، وتمحو السلطة ذكراه عن صفحات القلوب، لأن السلطة طلّقت فكرة العودة، ولا ترغب إلّا في شهيد صنو لمسيح الفلسطينيين الأول، لكنه لا ينقذ ولا يخلّص، بل يحسن الذهاب ولا يحسن الرجوع. والشهيد فكرة، يكونها أو يُحال إليها، فيصير صانعاً لأجمل الأفكار لأنه حالم بأجمل العوالم في جنة الفكرة التي لا سبيل إليها إلّا بالحرية، ولا سبيل إلى الحرية إلّا بالتحرير، ولا سبيل إلى التحرير إلّا بالشهادة. يولد الشهيد كالفكرة من لا مكان، وينتهي مثلها إلى لا مكان. تولد الفكرة لتقهر الموت، ويولد الشهيد بالموت، فينهي القهر ويبشّر بالحرية. فالشهيد هو الفكرة الخطرة المقتولة بخطورتها، والتي تغوي الحالمين بالمجهول، زماناً ومكاناً وغاية، لكنه، بعد الرحيل، يصمت كآلهة المعابد القديمة: يومىء ولا يتكلم… وهو الكليم. والشهيد حلم، لأن غايته تقع في عالم الأحلام، والأحلام مغناطيس الأوفياء للماهية والفكرة. وحين ينجذب الشهيد إلى حلمه يصير رائياً لأفق غير مرئي تمنحه له، ولمَن تغويهم فكرته، مملكةُ الأحلام الضرورية التي لا موت لها، ولا وجود من دونها. شهيدٌ يتبع شهيداً، لا الأول – الداعي يعرف مكان الإقامة، ولا الآخر – المدعو يعرف مكان الاستضافة، لكنهما يعودان أطيافاً، أو يبشّران أحبتهما بالعودة، ولا يتورطان في الوعود، لأنها أجنّة الأحلام، والوفاء ميلادها، والأحلام لا تموت وإن طالت إقامتها في أرض الاحتمال. وبذا، فالشهيد، الماهية والفكرة والحلم، هو الضد الجميل للسلطة، وسلطته لا تزول ولا تدول.

أمّا حلم عودة الشهداء، أطيافاً، بعد أن فعلت سنوات الرصاص فعلها في تدشين النفق، فتحرّكها قوة الحلم عند الشهداء والأسرى، وبلاغة قصّ الحلم عند وطّار ودقّة اللذين يؤمنان بأن الطاقة المختزنة في الأحلام ليست هي التي تصنعنا متسللة من نفق لاوعينا، بل هي تلك التي نصنعها كأفق بكامل وعينا الثوري. فوطّار يصدّق حلم الشيخ بعودة ابنه الشهيد لا رواية رفيقه الذي دفنه وأدار ظهره،[59] ودقّة يصدّق يقينه الذي دشّنته أربعة عقود في الأسر حين أدارت له الثورة ظهرها، إذ “عندما تكتب من داخل الجرح، فأنت بالضرورة لا تصف الواقع كما هو وصفاً تقريرياً، وإنما ستؤوّله، وستغدو بحكم التجربة مفسراً لأحلام رفاقك. أنت، كما يوسف في سجن فرعون، ولكن حين يصبح واقع الأسر كابوساً مستمراً، تسأل نفسك: لو بقي يوسف في سجنه دهراً، هل كان سيبقى مفسّراً للأحلام، أم صانعاً لها؟ وأنا في حيرة من نصّي، بين تفسير الكوابيس وصناعة الأحلام.”[60] هنا، يكفّ الحلم عن اسميّته، ويصير فعلاً. أمّا كابوس عودة الشهداء الذي تعبّر عنه مقولات المنتفعين ممّن لم يضعوا “خمر السلطة في أكواب العدل”، فيحيل إلى رغبة دفينة في لاوعي السلطة نفسها لحمل الشهداء على الانتحار مرة ثانية، ليخلّصوا السلطة من أعبائهم، وعارها. ولذا، اختلط العبث بالواقع حين صبّت السلطة باطون الملاجىء المقوى على تابوت الرئيس ياسر عرفات خشية من قيامته،[61] من ضريحه الذي على الماء… ذاهباً إلى القدس.

ليس ثمة عاقل يؤمن بعودة الشهداء عياناً، لكن أطيافهم لا تزال حاضرة لتعود وتصلح أحلامنا التي أعطبتها السلطة. غير أن صرخة الأحلام التي تبشّر بعودتهم تترك ندبة ضميرية في وعينا الجمعي الذي يراقب بحسرة عربة القطار العالقة في النفق، وتحفزنا على استثمار القوة الروحية التي حشدتها أطياف الشهداء العائدين، من أجل دفع العربة أو سحقها، إن اقتضى الأمر، كي تطلع الشمس.[62] لكن هذه الصرخة ليست عويلاً، وإنما هي تحريض على دوام التذكر للشهداء، والتبشير بعودتهم – الخلاص: “فهؤلاء الأعزاء المقدسون، إضافة إلى أنهم أخلصُنا، لأنهم ضحوا أكثر منا، لم يلوَّثوا بمشاكل الحياة بعد… إنهم القطار الذي يلج النفق ويدفع العربة المنفصلة أمامه، لعل الاصطدام يُخرج العربة، والقطار عن السكة. لعل القطار يأتي من الجانب الآخر ليعيد العربة إلى الخلف.”[63] هذه هي النهاية التي يكشف بها وطّار ودقّة للغافلين الذين لم يبلغوا الفتح، “سرّ الطيف” المعمداني الذاهب إلى الموت جسداً لخلاص الأحياء، والقادم من الموت طيفاً لخلاص الموتى الذين لا يزالون يقيمون في الحياة مصادفة، ليس إلّا. هذه هي “حكاية سرّ الطيف” الذي لا يزال في وسعنا المشاركة في كتابتها، جماعياً، ونحن في سجننا الأكبر في فلسطين المحتلة، مع وليد دقّة، وهو في سجنه الأصغر في عسقلان المحتلة، لنشهد أن “الشهداء يعودون إلى رام الله.”

* قُدمت هذه الدراسة، في صيغتها الأولى، كمحاضرة في الجامعة الأميركية في بيروت، بدعوة من برنامج أنيس المقدسي للآداب، وتيسير من الأستاذ ماهر جرار، قدّمها الروائي إلياس خوري، في 17 تشرين الثاني / نوفمبر 2022، وكانت بعنوان: “وليد دَقّة: أطروحات في الحرية والذاكرة والموت”.

المصادر 

[1] بشأن احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، انظر: تيسير عاروري، “لنا أسماء ولنا وطن” (رام الله: مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، 2009)؛ سهاد ظاهر – ناشف، “الطب الشرعي في فلسطين: دراسة أنثروبولوجية”، ترجمة علاء حليحل” (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2011)؛ سهاد ظاهر – ناشف، “الاعتقال الإداري للجثامين الفلسطينية: تعليق الموت وتجميده”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 107 (صيف 2016)، ص 19 – 36. وانظر، كذلك: “الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة والكشف عن مصير المفقودين”، التي يرعاها مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، في الرابط الإلكتروني.

[2] انظر: فيروز سلامة، “الشهداء الأسرى”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 131 (صيف 2022)، ص 194-200.

[3] أصيب داود الزبيدي، ابن العائلة اللاجئة من وادي الحوارث – قيسارية، خلال الاشتباكات مع قوات الاحتلال الصهيونية التي اقتحمت مخيم جنين في صباح 13 أيار / مايو 2022. وبعد تعسّر علاج حالته في المستشفيات الفلسطينية، نُقل إلى مستشفى “رمبام” في حيفا المحتلة. وفي 15 أيار / مايو 2022، أُعلن استشهاده على الرغم من إفادة الأطباء باستقرار حالته الصحية. وقد احتجزت السلطات الصهيونية جثمانه، ورفضت التماساً تقدّم به شقيقه الأسير زكريا زبيدي (المعزول، في حينه وحتى اللحظة، على خلفية مشاركته في عملية “نفق الحرية”) بتاريخ 21 حزيران / يونيو 2022 لزيارة جثمان أخيه المعتقل، ذلك بأن إدارة السجون الصهيونية تسمح، عادة، بزيارة الأشقاء الأسرى واحدهم للآخر خلال الأسر. وبذا، فإن داود لم يُحاكم، حتى شكلياً، ليتم احتجاز جثمانه، وربما يكون الأسير الشهيد الوحيد بين رفاقه الذي يُحتجز جثمانه “على ذمة التحقيق”، كونه لم يصدر في حقّه حكم سابق يستدعي “إتمامه” وهو في حالة الموت.

[4] الطاهر وطّار، “الشهداء يعودون هذا الأسبوع” (الجزائر: منشورات مطابع الحزب، ط 2، 1980).

[5] وليد دقّة، “الشهداء يعودون إلى رام الله” (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2021).

[6] انظر:

Abdul-Rahim Al-Shaikh, “Palestine: The Tunnel Condition”, Contemporary Arab Affairs, vol. 3, issue 4 (October-December 2010), pp 480-494.

[7] بشأن سنوات الرصاص والجمر، انظر: عزيزة البريكي ورشيد توهتو، “الذاكرة المروية وعدالة الانتقال: بين مقاربة الحركات الاجتماعية والتاريخ الجديد”، “إضافات – المجلة العربية لعلم الاجتماع”، العددان 26 – 27 (ربيع وصيف 2014)، ص 60 – 76؛ محمد مزيان، “المعرفة التاريخية بين ذاكرة الألم وتحقيق المصالحة المجتمعية: التجربة المغربية نموذجاً”، “مجلة أسطور للدراسات التاريخية”، العدد 13 (كانون الثاني / يناير 2021)، ص 95 – 110. وانظر أيضاً:

Fadoua Loudiy, Transitional Justice and Human Rights in Morocco: Negotiating the Years of Lead (London: Routledge, 2014).

[8] لمزيد بشأن هذه اللحظات، انظر: علاء الترتير، “تجريم المقاومة: حالة مخيمَي بَلاطة وجنين للاجئين”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 111 (صيف 2017)، ص 122 – 139؛ عبد الجواد عمر، “التقاء أزمتَين: قراءة في الهبّة الكبرى”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 127 (صيف 2021)، ص 132-144؛ العدد الخاص من مجلة الدراسات الفلسطينية، بعنوان: “كلام الأسرى.. عيون الكلام”، والذي جمع في الآن نفسه نموذجَين من سنوات الرصاص: الأسرى في سجون العدو الصهيوني، والقمع في سجون السلطة الفلسطينية، وإخماد حركات الاحتجاج في أعقاب تغييب نزار بنات. “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 128 (خريف 2021).

[9] وليد دقّة، “حكاية سر الزيت” (رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، 2018)؛ وليد دقّة، “حكاية سر السيف” (رام الله: مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، 2021).

[10] للمزيد، انظر: عبد الرحيم الشيخ، “فلسطين الهوية والقضية: الجامعة وإعادة بناء السردية الوطنية الفلسطينية”، في: مؤتمر “إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني” (رام الله: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية / مسارات، 2017)، ص 157 – 174.

[11] وليد دقّة، “محادثة هاتفية” (سجن “جلبوع”، 24 كانون الثاني / يناير 2021).

[12] علاوة على صفحة الغلاف غير المرقّمة، فإن مخطوطة المسرحية تتكون من 23 صفحة مكتوبة بخط يد دقّة، وتتوزّع على ثلاثة فصول كل منها مؤلف من مشهدين، مع ملاحظةٍ في نهاية المشهد الثاني في كل من الفصلين الثاني والثالث تفيد بأنهما برسم الاكتمال. وفي الفترة نيسان / أبريل 2021 – تشرين الثاني / نوفمبر 2022، تم استكمال هذين المشهدين، وأُضيفا إلى المخطوطة الأولى للمسرحية.

[13] يذكر دقّة أنه استضاف المسرحي الراحل فرانسوا أبو سالم في بيت العائلة في سنة 1980، بعد تقديمه مسرحية “جليلي يا علي” على مسرح “غفعات حبيبة” المجاورة لبلدته باقة [الغربية]. “محادثة هاتفية” (سجن “رمون”، 5 نيسان / أبريل 2019).

[14] انظر: عبد الرحيم الشيخ، “وليد دَقَّة: دِقْ قَوِّي الدَّقّ وَعِّيْ كلّ البشر”، “مجلة الآداب” (20 أيار / مايو 2020)، في الرابط الإلكتروني.

[15] انظر: وليد دقّة، “حكاية المنسيّين في الزمن الموازي – مسرحية غنائية” (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2011).

[16] وليد دقّة، “صمت القبور” (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، بلا تاريخ).

[17] انظر: وليد دقّة، “عندما يفضل الموت الحياة” (مخطوطة: أرشيف وليد دَقّة، بلا تاريخ)، بالعبرية؛ عميرة هاس، “يطيرون إلى الجنة”، “هآرتس” (1 نيسان / أبريل 2003)، بالعبرية، في الرابط الإلكتروني.

[18] وطّار، مصدر سبق ذكره، ص 172-173.

[19] دَقّة، “الشهداء يعودون…”، مصدر سبق ذكره.

[20] يعطي هذا القسم لمحة بانورامية لمشروع دقّة النقدي. أمّا القول التفصيلي، فيندرج ضمن مشروع أوسع عن “الوعي الموازي” في فكره، نُشر منه، حتى الآن، ثلاث دراسات هي: عبد الرحيم الشيخ، “مورفولوجيا فم الذئب: وليد دقّة 1961 – 2021″، “مجلة عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية”، المجلد 11، العدد 39 (شتاء 2022)، ص 173 – 210؛ عبد الرحيم الشيخ، “الزمن الموازي في فكر وليد دقّة”، “المجلة العربية للعلوم الإنسانية”، المجلد 39، العدد 155 (صيف 2021)، ص 271 – 308؛

Abdul-Rahim Al-Shaikh, “The Parallel Human: Walid Daqqah on the 1948 Palestinian Political Prisoners”, Confluences Méditerranée, vol. 117, no. 2 (2021), pp 73-87.

[21] للاطلاع على هذه المنهجية، انظر مقدمة كتابه عن معركة مخيم جنين، والتي تُعتبر نواة مشروعه الفكري الأوسع بشأن صهر الوعي وما بعده: وليد دقّة، “يوميّات المقاومة في مخيم جنين 2002” (رام الله: المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية / مواطن، 2004)، ص 11 – 18؛ وليد دقّة، “صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب” (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2010)، ص 19.

[22] انظر: وليد دقّة، “رياحين الشباب.. بين مفاصل صخر الدولة العبرية” (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2002 – 2022).

[23] دقّة، ” صهر الوعي…”، مصدر سبق ذكره، ص 22.

[24] وليد دقّة، “ما بعد صهر الوعي – نظام الإغواء والإغراء” (مخطوطة: أرشيف وليد دقة، 2022).

[25] المصدر نفسه، ص 2.

[26] المصدر نفسه، ص 14.

[27] المصدر نفسه، ص 14-15.

[28] المصدر نفسه، ص 15.

[29] وليد دقّة، “سلاح الفوضى والمطر القادم” (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2007).

[30] للمزيد، انظر: فيصل درّاج، “في الهوية الثقافية الفلسطينية”، “الكرمل”، العدد 50 (كانون الثاني / يناير 1997)، ص 28. وانظر أيضاً: فرانز فانون، “معذبو الأرض”، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2015)، ص 31.

[31] دقّة، “سلاح الفوضى…”، مصدر سبق ذكره.

[32] المصدر نفسه.

[33] يستخدم دقّة تعبير “مرض النسيان” تلطفاً في التعبير عن مرض الزهايمر حين يتحدث عن والدته التي تُظهرها الترميزات المتعددة في ثلاثيته لليافعين، وقد عادت الذاكرة إليها على نحو متقطّع في حواراتها مع أحفادها من “نسل الذاكرة”.

[34] انظر: وليد دقّة، “حين تكون الحرية إلى لا ذاكرة، أخشى الحرية بلا ذاكرة” (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2019).

[35] لا تبحث هذه الدراسة في المقولات التفصيلية للذاكرة الجمعية كما ترد في ثلاثية دقّة لليافعين، ولا تتوقف عند رسوماته، إذ يُبحَث ذلك في كتاب “الوعي الموازي” الذي هو في قيد النشر.

[36] انظر: “الكابوس” – ملحق “كتابات الأم” رقم (13)، في: دقّة، “رياحين الشباب…”، مصدر سبق ذكره.

[37] وليد دقّة، “الزمبي”، (مخطوطة: أرشيف وليد دقّة، 2013).

[38] المصدر نفسه.

[39] المصدر نفسه.

[40] Edward Said, “Invention, Memory, and Place”, Critical Inquiry, vol. 26, issue 2 (Winter 2000), pp 175-192.

[41] بشأن أدلجة الذاكرة وأنماط تمثيلها من الفردية إلى الجماعية، انظر: فيصل درّاج. ذاكرة المغلوبين: الهزيمة والصهيونية في الخطاب الثقافي الفلسطيني (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002)؛ درّاج، “في الهوية الثقافية الفلسطينية”، مصدر سبق ذكره، ص 23-44. وانظرأيضاً:

Ahmad Sa’di and Lila Abu-Lughod (eds), Nakba: Palestine, 1948, and the Claims of Memory (New York: Columbia University Press. 2007).

[42] إلياس خوري، “مدخل إلى قراءة الهولوكوست والنكبة”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 117 (شتاء 2019)، ص 87 – 93.

[43] بشأن توارث البنى التحتية لأنظمة السجن بين الإنجليز والصهيونيين، ومن بعدهم الرسميات العربية والفلسطينية، انظر: ميمي كابل وسمير حرب ونيكولا بيروجيني، “أعراض مرضية: فترة الفيما بَين ودوائر السلطة في حصون تيغارت” (رام الله: بينالي الشارقة 12 / “أراضٍ منقلبة”، 2017).

[44] عن ظروف الاعتقال والأسر في هذه الحقبة، انظر: مصطفى كبها ووديع عواودة، “أسرى بلا حراب: المعتقلون الفلسطينيون والمعتقلات الإسرائيلية الأولى، 1948 – 1949” (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2013).

[45] نظمي الجعبة، “الشيخ حسن اللبدي: مَشاهد من ذاكرة مفقودة”، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 72 (خريف 2007)، ص 70-79.

[46] يورد دقّة الحيثيات الكاملة لقصة الأسير نعيرات، في سيرته الذاتية: دقّة، “رياحين الشباب…”، مصدر سبق ذكره.

[47] للمزيد، انظر: تقرير منظمة العفو الدولية / آمنستي بشأن أحمد مناصرة، “إسرائيل / الأراضي الفلسطينية المحتلة: لا يزال الأسير الفلسطيني أحمد مناصرة، الذي اعتُقل عندما كان طفلاً، قابعاً خلف القضبان على الرغم من تفاقم حاله الصحية العقلية والنفسية”، 21 حزيران / يونيو 2022، في الرابط الإلكتروني.

[48] محمود درويش، “ذاكرة للنسيان: الزمان: بيروت؛ المكان: يوم من أيام آب 1982” (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987).

[49] رضوى عاشور، “صيادو الذاكرة: في النقد التطبيقي” (بيروت؛ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001)، ص 59.

[50] إلياس خوري، “الذاكرة المفقودة” (بيروت: دار الآداب، 1992)، ص 25 – 42.

[51] إدوارد سعيد، “جغرافيات محاصَرة، مشهديّات متحارِبة”، تقديم وترجمة عبد الرحيم الشيخ، “مجلة إضافات – المجلة العربية لعلم الاجتماع”، العددان 49 – 50 (شتاء – ربيع 2020)، ص 70 – 86. لكن هذا كله، يجب ألّا يُنسينا تنظير سعيد لحقّ أصحاب الرواية عن قول روايتهم، وإن ببعض من النسيان الرزين. انظر: إدوارد سعيد، “إذن بالرواية”، تقديم وترجمة عبد الرحيم الشيخ، “مجلة الدراسات الفلسطينية”، العدد 127 (صيف 2021)، ص 181-208.

[52]حسين البرغوثي ومحمد مسعد، “أ. ن. ت.” (تسجيل صوتي أدائي، مجموعة عبد الرحيم الشيخ، بلا تاريخ).

[53] دقّة، “الشهداء يعودون…”، مصدر سبق ذكره.

[54] دقّة، الزمبي…”، مصدر سبق ذكره.

[55] للمزيد بشأن العمليات الاستشهادية، وفاعلية الجسد الميت، انظر: طلال أسد، “عن التفجيرات الانتحارية” ترجمة فاضل جتكر (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2008)؛ إسماعيل الناشف، “صور موت الفلسطيني” (الدوحة: المركز العربي للأبحاث، 2015)؛ بلال سلامة، “العمليات الاستشهادية الفلسطينية: تطور الجسد كأداة مقاومة”، “مجلة المستقبل العربي”، العدد 441 (تشرين الثاني / نوفمبر 2015)، ص 65 – 88؛ مي الجيوسي، “تشكل الذات وحالة الاستثناء: الجسد كموقع للمقاومة”، في: أليساندرو بيتي وآخرون، “حالة الاستثناء والمقاومة ‏في الوطن العربي” تحرير ساري حنفي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010).‏

Bader Alaraj, “The Ethnography of Despair: Suicide Bombing during the Second Palestinian Intifada, 2000-2004”, MA dissertation (West Lafayette: Purdue University, 2011); Bader Alaraj, “Harsh State Repression and Suicide Bombing: The Second Palestinian Intifada (Uprising), 2000-05”, Ph.D dissertation (Toronto: University of Toronto, 2011); Bassam Banat, “Palestinian Suicide Martyrs (Istishhadiyin): Facts and Figures”, Ph.D dissertation (Granada: Granada University Press, ‎2010).

[56] فيصل درّاج، “بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية” (بيروت: دار الآداب، 1996)، ص‏ 7 – 10.

[57] محمود درويش، “الديوان – الأعمال الأولى” (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2005)، ص 136، المجلد الثالث.

[58] محمود درويش، “الأعمال الجديدة” (بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2004)، ص 63، المجلد الأول.

[59] وطّار، مصدر سبق ذكره، ص 155 – 156.

[60] وليد دقّة، “رياحين الشباب…”، مصدر سبق ذكره.

[61] للمزيد، انظر ملف “اغتيال عرفات: الحقيقة المغيبة”، “جريدة الأخبار” (8 كانون الأول / ديسمبر 2022)، في الرابط الإلكتروني.

وانظر، كذلك: إلياس خوري، “حمّى ياسر عرفات”، “القدس العربي” (21 تشرين الثاني / نوفمبر 2022)، في الرابط الإلكتروني.

[62] وطّار، مصدر سبق ذكره، ص 169.

[63] المصدر نفسه، ص 179.

السيرة الشخصية: 

عبد الرحيم الشيخ: أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت.

عن مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 133، شتاء 2023

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *