الشماتة بالديمقراطية الغربية بلسان الاستبداد
نعم، الغرب يُضيّع حجته الديمقراطية. ليس فقط في غزّة، إنّما من زمان. منذ نشأة هذه الديمقراطية؛ من جهة، مجتمعاته الآمنة صاحبة حقوق متعاظمة في المشاركة في القرار، مع العيوب المُلازِمة لهذه الديمقراطية؛ ومن جهة أخرى، نهب منظّم للشعوب الخاضعة له، ومراضاة حكامهم شديدي الغيرة على استبدادهم. وفي أيامنا هذه، ارتفعت وتيرة هذا “التضارُب” الديمقراطي. والسيناريو الدائم المُكرّر؛ علاقات مفيدة مع دولة تمارس سلطتها بالقمع الصريح ضدّ مواطنيها، يناشدها أصحاب الضمير بأن تضغط على هذه الدولة بغية تغيير سياستها المُعادية للحرّيات فتردّ عليها الدولة الديمقراطية بأنّها ستفعل، ولكنها تأخذ أيضاً بالمصالح والفوائد التجارية أو الصناعية أو الاستراتيجية، الناجمة عن تحالف أو تعامل مع هذه الدولة الاستبدادية أو تلك. وينقضي غالباً الواجب الديمقراطي بالتذكير بـ”المصالح العليا” لدولتهم، نصف السرّية.
بعد السابع من أكتوبر (2023)، اتسع نطاق هذا العيب الديمقراطي الغربي وتعمّق. وكانت المقارنة بين موقف دوله من حرب بوتين على أوكرانيا وموقفها من حرب إسرائيل على الفلسطينيين، ودعامتها الأساسية أنّ إسرائيل “دولة ديمقراطية”؛ “منارة” الغرب المُتقدّم وسط بحر القمع والاستبداد العربييْن. وبعدما أمعنت أميركا، قائدة الديمقراطية، في دعم هذه “الديمقراطية” الإسرائيلية إلى حدّ الفضيحة الموصوفة، وطوال هذا الإمعان، جاءت ردّة الفعل من داخلها، من شبابها الجامعيين في أرقى مؤسّساتها، فكانت المظاهرات والاعتصامات والخيم والخطب والأغاني تدوم بدوام المجاعة والمجزرة في غزّة. وردّة فعل الإدارة والشرطة قمعها؛ اعتقال ما يزيد عن ألف وخمسمائة طالب، واقتحام الخيم التي نَصَبوها في أحرم جامعاتهم، فصل وإنذار لطلاب برزوا أثناء هذه الاحتجاجات. هذا كلّه مرفق بنوع آخر من القمع المعنوي، ومفاده إلصاق تهمة الـ”لا سامية” بأيّ نقد للسياسة الإسرائيلية. تهمة بالغة الخطورة، “تابو” متأصّل بتاريخها القريب.
ردّة فعلنا على هذا الخرق الفاضح للديمقراطية أنّ سلطات الدول صامتة، مع تعليقات خجولة. وهذا مفهوم. فهذه السلطات لديها درجة معينة من الاحترام لنفسها، من أنّها بالأصل غير ديمقراطية، ولا تملك طموحاً ديمقراطياً أو مشروعاً ديمقراطياً، فتكتفي بكلمات هائمة من هنا وهناك. والطريف في الأمر، أنّ ردّة الفعل الأقوى تأتي من جانب دول وتنظيمات تنتمي لمحور المُمانعة بتفرّعاته المختلفة. وفي سياق نغمة طلعت منذ “الطوفان” في أوساط ليست بالضرورة مُمانِعة، تعيد وتزيد بفرحة عارمة، أنّ “الغرب يندثر”، وأنّ “قيم الغرب باتت في زمن كان”، وأنّ هذا الكلام كلّه عن حقوق الإنسان وعن الحرية والديمقراطية “انتهت صلاحيته” مع الحرب على غزّة.
بعد 7 أكتوبر اتسع نطاق العيب الديمقراطي الغربي وتعمّق
وكالة الأنباء الروسية (سبوتنيك) تغطّي احتجاجات الطلاب الأميركيين بنبرة القلق عليهم من قمعهم، والأرق من “التحديات والسجالات السياسية” التي تطرحها بوجه إدارة بايدن. الوكالة الروسية بالمقارنة مع الوكالات الإيرانية وتوابعها، تبدو خجولة قليلاً أمام هذه الهمّة الديمقراطية، ربما حرصاً على جمهورها المُطيع، في عدوان يخوضه بوتين ضدّ أوكرانيا. فالسلطة الإيرانية تبدو أكثر حماسة في معركة إدانة الديمقراطية، ومن موقع رسمي. نظيرة سبوتنيك، وكالة الأنباء الإيرانية (إرنا)، تعمل بدأب على تغطية أخبار قمع الطلاب الأميركيين، وتسلك طرقاً “مبتكرةً” فتشارك باحتفال صحافيين فلسطينيين بيوم الصحافة العالمي. تنقل كلاماً عن هذا “الحجم الكبير من العدوان والانتهاكات في حقّ الصحافيين”، وتطالب المجتمع الدولي والمحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق في القضايا التي رفعتها نقابة الصحافيين الفلسطينية ضدّ إسرائيل. البرلمان الإيراني أيضاً، مهموم بالديمقراطية وبطلاب أميركا. غالبيته المطلقة صوتت لـ “دعم الجامعيين الأميركيين والأوروبيين الذين يساندون الفلسطينيين في الحرب الإسرائيلية الجارية منذ أشهر ضدّ غزّة”. وأشادت بـ”روح العدالة والغيرية والمشاعر الإنسانية”، التي يتمتع بها طلاب الغرب المتضامنون مع الفلسطينيين.
يغرّد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، على “إكس”، فيحيّي برلمان بلاده على موقفه المُشرّف، ويضيف: “أستنكر توقيف طلاب متضامين مع الفلسطينيين في الولايات المتّحدة”. حزب الله، درّة التاج الإيراني، له نصيبه الخاص من هذا “العرس” الديمقراطي. قناة المنار، التابعة له، مُعجبة بمشهد التظاهرات الطلابية الأميركية. اقتحامات الشرطة، إطلاق دخان على الطلاب، إزالة الحواجز والخيم، اعتقال عدد من الطلاب، اشتباكات بينهم وبين أفراد الشرطة. تغطّيها بدأب، وبلهجة فرح تبطن انتصارا ما؛ هزيمة الديمقراطية في عقر دارها. وزير الثقافة اللبناني محمد مرتضى، مندوب حزب الله في الحكومية الحالية، والمعروف بوزير “باربي”، نظراً إلى الحملة التي دشّنها ضدّ هذا الفيلم (باربي) لأنّه يهدّد “قيمنا وأخلاقنا”، تبعتها حملات أخرى بالغة الضراوة ضدّ أشكال الحرّيات المختلفة، هو الوزير المشهود له بصمته التام عن ممارسات الأمن العام اللبناني ضدّ أيّ مُغرّد أو مُعلّق أو مسرحي، هذا الوزير، ما إسهامه في حركة الطلاب الأميركيين؟ يتأسى من فصل الطالبة اللبنانية تمارا رسامني من جامعة كولومبيا بسبب مشاركتها في الاحتجاجات الأميركية. ويفتخر بها، فيعلن: “تمارا وأمثالها من رفاقها ورفيقاتها يمثّلون جيلاً جديداً يمتلك الوعي والإرادة ويناضل من أجل القيم التي ازدوجت معاييرها في المؤسسات التي تدّعي الدفاع … أما ذنب تمارا فكان وقوفها إلى الجانب الصحيح من القيم والأخلاق”. ونظراً لمساهمتها هذه، يوصي الوزير بتقليدها “دكتوراة في مادة كرامة الإنسان ونشر الوعي الذي احدثته في الوجدان اللبناني والعربي والدولي”.
يشمتون ببايدن الواقع في إحراج شديد عشية انتخابات مُرشّح لها، من دون النظر إلى أنّ هذا الإحراج من صنع الديمقراطية نفسها
مثقفو الممانعة شاركوا أيضاً في حفلة الاستنكار هذه، بعبارات “فلسفية”، يصعب فهمها، ولكن يسهل نقلها، حرفياً إن لزم الأمر. يكتب أحد روّادها مثلاً: “منذ نشأتها، تلازم وجهان للحداثة الغربية، العقلانية والعنف، أو العقلانية العنفية والعنف العقلاني. ويبدو أن هذين الوجهين ما زالا حاضرين إلى اليوم في ثقافة الغرب السياسي. ومن ينظر في القمع الذي يتعرض له طلاب أميركيون وطلاب أوروبيون، يجد أن العقلانية العُنْفية ما زالت قارّة في الوجه الأول. ومن يتفحّص مشاهد دعم الغرب السياسي لإسرائيل يقع في الوجه الثاني على طبيعة العُنف العقلاني ضدّ الفلسطيني” (ما الفرق بين “العنيفة” و”العنْفية”؟ وهل من علاقة لـ”العنف” بهما؟). طبعاً، يمكن دحض هذه الروح الحريصة على حرّية طلاب أميركا بالإشارة إلى ما تقدّمه هذه الجماعة ورأس محورها من نموذج تقتدي به، ولو من غير إفصاح عنه؛ إيران وانتفاضة شعبها ضدّ ملاليه قبل عاميْن، وسحق سلطاتها للمحتجّين (550 قتيلاً معلناً) والإعدامات وقطع الإنترنت والاعتقالات والسجون الرهيبة، وأخيراً، بعدما أظهرت عضلاتها على إسرائيل؛ موجة أعنف من التشدّد ضدّ حجاب النساء، و”شرطة أخلاق” تجوب المدن بحثاً عن سافرة، تضربها وتذلّها وتطلب منها تعهّداً. أما في لبنان، تحت حكم حزب الله والمؤسّسات التي اخترقها برجالاته ومحاكمه الشرعية، فلا تقلق؛ من فيديوهات الاعتذار على كلمة عفوية قيلت في حقّه، إلى استجواب من تفوّه بكلمة على الشاشة، إلى البنية التنظيمية السرّية والهرمية الشديدة التي ينضبط تحت لوائها أمين عام أبدى، إلى اقتحامات مليشياته وقمعها المظاهرات السلمية في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 بالحرق والعصي وشعار “لبيك نصر الله” و”لبيك يا زينب”. هذا من دون التكلم عن المقْتلة التي شارك فيها حزب الله في حقّ السوريين المُحتجّين على سلطة غاشمة، والدفاع عنها بإحراق البلدات والبيوت، وقتل سكانها أو تهجيرهم.
هذا التناقض كلّه، يطرح السؤال: حسناً، إذا كانوا غير ديمقراطيين، فلماذا يتحمّسون ويُسهبون في الكلام عن ضعف الديمقراطية الأميركية والأوروبية؟ إذا كانوا يحبّون الديمقراطية ويستنكرون خرق مبادئها، فلماذا يحتجّون على أصحابها ولا يحتجّون على أنفسهم؟ ولا يستشهدون إلا بكتّاب وإعلاميين غربيين لتأكيد مصداقية “احتجاجهم” هذا؟ هل هم ديمقراطيون باطنيون ينتظرون اللحظة المناسبة للإعلان عن برنامجهم الديمقراطي السرّي، أم أنّ الموضوع أقلّ غموضاً من ذلك؟ أي أنّهم يشمتون، مجرّد شماتة بأنظمة لا يستطيعون بتكوينهم التشبّه بها، مع أنّهم يتصدّون لمخالفتهم لها؟ يشمتون بجو بايدن الواقع الآن في إحراج شديد عشية انتخابات هو مُرشّح لها، من دون النظر إلى أنّ هذا الإحراج من صنع الديمقراطية نفسها، من انتخابات وحرّية. لو كان بايدن رئيساً إيرانياً، فهل سيكون مهموماً، مُحرجاً، مهدّداً بكرسيّ حكمه لأنّه يخالف توجّهات أولئك الطلاب؟ وهل من حاجة إلى إعادة التأكيد أنّ فضائل الديمقراطية نسبية، وأنّها اختراع إنساني، أيّ أنّها ذات عيوب، تقع في مطبّات ولا تستنهض نفسها إلا بتجاوز أخطائها بالانتخابات وبمختلف أشكال التنظيم، تواجهها أنظمة ومليشيات تقول إنّ حكمها هو حكم الله، وإنه لا سبيل إلى تغيير قول الله، وبالتالي، لا سبيل إلى تعديل أو تغيير أو تبديل اتجاهاتها؟
عن العربي الجديد