الشجاعة، أو إلى الجحيم كلّ هذا الوعظ!!

كل كلامنا مرصّع بالعِظات أو الحِكم أو النصائح ـ وكلّنا مُبدعون في ذلك. رجل الدين والأستاذ والخبير والمهنيّ وصاحب اللقب (الحقيقي أو المزوّر) ومدرّب التنمية البشرية ـ وما ينطبق على “المعلّمين الرجال” ينطبق على “المعلّمات النساء” ـ لكل منهم ومنّا عدّته في نحت العِظات وإشهارها في وجهنا فيستقيم الكون وينتهي العطب فيه.

مشكلتي مع هذه الظاهرة ومُحدثيها أنهم يتحدثون كأن العالم منبسط ذو بُعد واحد أفقيّ. وكأن علاقات البشر مستوية تماما وتقع على الخط ذاته.

كأن الناس ترتبط ببعضها بعلاقات تكافؤ وتساوٍ وما يُعطّلها هو فقط سوء النيّة أو سوء أخلاق.

كأن العملية الاجتماعية لا تقوم إلا على البعد الشخصي ـ واحد/ة مقابل واحد/ة.

كأن لا فوارق اقتصادية بين الناس ولا طبقات ـ مالك ومُعدم، صاحب عمل وشغّيل، رأسمالي ثري وفقير، سائق وراكب، موظّف ومُدير إلى آخر القائمة.

كأن لا فوارق اجتماعية بين انتماءات صغيرة وأخرى كبيرة بين مُهيمن ومسيطر وبين خاضع ومقهور، بين هُويّة مهيمنة وأخرى مُستضعفة، بين انتماءات حمولتيّة مشحونة،

يتحدثون كأن المجتمع ـ أي مجتمع ـ بدون علاقات قوة ومباني قوة وأنماط قوة وأدوات قوة وسياسات قوّة ولغة قوّة. وهذه كلّها قيد التطبيق على مدار الوقت. يطبّقها أناس على آخرين. وجماعات على جماعات. مباني قوة تُنتج يوميًا ألف صورة للغبن وألف ضحية وضحية،

مَن يتحدث عن العدل عليه أن يتحدث عن منظومات القوة التي تُنتج ضدّه، تُنتج القهر والإجحاف والظُلم،

ومَن حدّثنا عن الأخوة بين الناس أو الجماعات عليه أن يجتهد قليلا في الحديث عمّا يُعطّلها ويهدمها ضمن مباني القوة،

والذي يُحدثنا “أحبّوا بعضكم بعضا” عليه أن يكون شُجاعًا أدبيًا ويقول لنا لماذا “لا تُحبّ” الناس بعضها أحينًا وما الذي يشوّش المحبّة،

نحن لسنا بحاجة إلى عِظات ونصائح وتوجيه بقدر حاجتنا إلى مَن يعمل على تفكيك مباني القوة التي تُنتج كل هذا القُبح في حياتنا.

فضح مباني القوة هي مهمّة العارف الواعي الساعي إلى التغيير الاجتماعي وإقامة “مجتمع المعقولية”. مَن لا يفعل ذلك كانت عِظته مجرّد كلام في الهواء يُغطي على استمرار إنتاج الضحايا والظُلم.

قليل من الشجاعة لا تضرّ الواعظين ولا تضرّنا. أو فليصمتوا للأبد.

(من تماثيل الفنان الصديق أكرم حلبي ـ فيينا/النمسا)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *