السنوار وخيارات “حماس” الصعبة
جاء تعيين يحيى السنوار رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس خلفاً للشهيد إسماعيل هنيّة مفاجئاً؛ فقد كان التفكير يتّجه إلى قيادي سياسي مُتمرِّس بالعلاقات والمفاوضات، يقيم في الخارج ويستطيع قيادة الحركة، فيما يقود السنوار المقاومة من داخل قطاع غزّة، ولا يُعرَف ما إذا كان سيبقى حيّاً أو يقضي شهيداً.
أسباب التعيين، وفقاً لمصادر مختلفة قريبة من “حماس”، تفيد بأنّ الحركة اختارت الحفاظ على إجماع تنظيمي، وتجنُّب أيّ خلافات داخلية، لكنها باختيارها السنوار بعثت رسالةً إلى كلٍّ من إسرائيل وأميركا، أنّ مركز القرار يبقى في الميدان، حيث المقاومة والوجود في الأرض مع أهل غزّة المحاطة بالموت من الجهات كلّها. قد يكون التحدّي الأول هو الحفاظ على قيادة جماعية، كما صرّح القائد الحمساوي أسامة حمدان، والترابط بين المقاومة الميدانية والتحرّك السياسي في مواجهة تهديد إسرائيلي يجرّ المنطقة إلى حرب واسعة، تتيح لإسرائيل أخذ راحتها في تحقيق إبادة نهائية لغزّة وأهلها.
تحرّر الشعوب يحتاج منظوراً تحرّرياً لا تُحدّده هُويَّة دينية أو أيديولوجيا، والتوجّه الإسلامي لـ”حماس” يجب ألا يمنع هذا الانفتاح
قبل الإسهاب في الموضوع، ضروري الحديث عن السنوار نفسه، إذ رغم ما يثار من انتقادات وتحفّظات، فإنّ ما يميّز الرجل أنّه يشبه الناس، بل إنّه يُجسِّد استمرارية مقاومة الفلسطينيين، وليس فقط المقاومة الحمساوية، فهو يرى نفسه امتداداً لكلّ من قاتل ويقاتل من أجل فلسطين، من جميع الفصائل والاتّجاهات، وهي صفة مُهمّة ولافتة في شخصيته وحديثه. فكثير منّا يتذكَّر خطابَه في إبريل/ نيسان 2021، حين رأينا فيه صورةً لكلّ مُقاتلٍ قبله ومعه، فروحه الوحدوية ليست شعاراً فحسب. ففي كلمته، ذَكّر بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات مناضلاً ومقاتلاً وليس رئيساً، مُذكِّراً باستيلاء إسرائيل على سفينة كارين إيه، واتهامها عرفات بتهريب أسلحة إلى قطاع غزّة. لقد بدا وكأنّه يختزل في شخصه تاريخ المقاومة كلّه، ومتأثراً بالشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، الذي اغتالته إسرائيل في تونس 1988. ولم يكن ذلك مُستغرَباً؛ فهو وحدوي بالفعل وليس بالقول، ففي سنوات أسره، خاض مع القيادي الفتحاوي مروان البرغوثي معركةً مشتركةً ضدّ إدارة السجون الصهيونية، والهدف تثبيت الوحدة الوطنية الفلسطينية. ولا يستطيع السنوار، الشجاع صلب الإرادة، تحمّل إلغاء الوحدة، والحركة التالية تشكّل تحدياً لـ”حماس” في المستويات كلّها، فالأساس أن تكون الرؤية والتعامل مع حركة تحرّر وطني جامعة، وهو تحدٍّ دائمٌ لحركة حماس لتخرج من إطار عقائدي ضيّق، فالتواصل مع تحرّر الشعوب يحتاج منظوراً تحرّرياً واسعاً لا تُحدّده هُويَّة دينية أو أيديولوجيا، والتوجّه الإسلامي للحركة يجب ألا يمنع مثل هذا الانفتاح، وإلا فلن تستطيع أن تأخذ دورها حركةَ تحرّرٍ وطني، مع الاعتراف هنا بأنّها تقود المقاومة الفلسطينية بشجاعة وحقّ.
ما سبق هو أحد التحدّيات، فأميركا واسرائيل ماضيتان في تدمير غزّة والشعب الفلسطيني، وتهجيره من وطنه. وكسر “حماس”، وكلّ نفسٍ مقاومة، من أولويات واشنطن وتلّ أبيب. لذا، يجب ألا تكون أولوية “حماس” الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فتاريخ حركات التحرّر الوطني يدلّ على أنّ الصمود والثبات في الميدان، والمقاومة بأشكالها كلّها، هي التي تفرض شروط المفاوضات، وإن كان لا مفاوضات أصلاً في وضع يسعى العدو إلى إبادة وإنهاء هُويَّة شعبٍ كامل.
وحدة الشعب الفلسطيني، وليس وحدة الفصائل، هي الهدف الأسمى، وإن كانت الأخيرة مطلوبة أيضاً، فلا مجالَ لاستقواء فصيل على آخر، ولا سلطةَ على شعب، وإن كانت هناك أوهام في رام الله، فالجميع مُستهدَف، فلا رضا إسرائيل ولا رضا أميركا يغيّران حقيقةَ حرب الإبادة ومُخطَّطات التهجير ضدّ الشعب الفلسطيني. لا نُقلّل من هول التحدّيات، لكن من دون قرار فلسطيني، وقيادة فلسطينية غير متشرذمة كما هو الحال الآن، لن يكون هناك حضورٌ سياسيٌّ فاعلٌ للفلسطينيين، ما يتيح الاستفراد بالمقاومة وعزلها، وبخاصّة مع غياب منظّمة التحرير الفلسطينية جسماً يوحّد الفلسطينيين في كلّ مكان.
لكنّ التحدّي المباشر لحماية القيادات الفلسطينية كلّها، والفلسطينيين، هو كيف تتحرّك المقاومة للردّ على اغتيال هنية، فالقضية يجب ألا تُختصَر بانتقام أو ردٍّ لإثبات قوّة المقاومة، بل يجب التغيير لمصلحة الشعب الفلسطيني ككلّ، وبعيد النظر، ولا يكتفي بنتائج آنية، وأن يكون ضمن استراتيجيةٍ لاستمرار صمود الشعب الفلسطيني، خصوصاً أنّ المقاومةَ قد لا تجد إسناداً قويّاً من الحلفاء. فما ثبت الآن أنّ هناك عراقيلٌ تواجه “وحدة الساحات”، وإمكان تنفيذ ردٍّ مشتركٍ من إيران وحزب الله والحوثيين و”حماس”. فالجميع يريد أن يتجنّب الجنون الإجرامي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، خوفاً على الشعوب، وليس خوفاً من شخص لا يهمّه سوى سلطته ونصره الشخصي، ومستعدٌ لارتكاب مجازرَ ممتدَّةٍ في غزّة والضفّة الغربية ولبنان، لتحقيق المشروع الاستيطاني الصهيوني.
ليس المقصود هنا تثبيط العزائم، فالحركات العالمية والشعوب التي تؤازر فلسطين وتناهض إسرائيل هي نصر معنوي مهمٌّ في حدّ ذاته، وإن كان لا يكفي، والأكثر أهمّيةً ضرورة الحفاظ عليه، لكنّ تفعيل جبهاتٍ مُتعدِّدةٍ ليس قراراً بيد “حماس”، بغضّ النظر عمّن يقودها. فلإيران حساباتها قوّةً إقليميةً، وهي واضحة ٌفي عدم رغبتها بخوض حرب مفتوحة، ولذا لم يأتِ بعد الردُّ الإيراني على اغتيال هنيّة، وحزب الله مُكبَّلٌ، ليس بقرار طهران فحسب، بل وبالوضع اللبناني الداخلي، فبالإضافة إلى أعداء الحزب، ووجود تيّار مُهادنٍ لإسرائيل في لبنان، فإنّ الحزب لا يستطيع تجاهلَ مخاوف اللبنانيين من حرب تدميرية إسرائيلية ضدّهم.
يجب ألا تُحصَر المسألة في التفكير بمستقبل “حماس” فحسب، فذلك يقود إلى قرارات فئوية، وليس إلى رؤية استراتيجية
مرّة أخرى، هذه ليست دعوة إلى اليأس، لكنّها دعوة إلى الجميع بأن يكون هناك تفكير استراتيجي وراء كلّ خطوة. إسرائيل ليست الأقوى، وقد ثبت أكثر من مرّة أنّ هناك حدوداً لقوَّتها أمام مقاومةٍ باسلةٍ وشعبٍ فلسطينيٍّ صامدٍ، لكن هي دعوة أيضاً إلى ألا يترك العربُ المقاومةَ وحدها، وإن كان لا أملَ بالأنظمة لكن هناك أملٌ بالشعوب. المقاومة قادرة على توجيه ضرباتٍ قاسية لإسرائيل، لكن أين دور الشعوب؟… ردَّة الفعل الشعبية على استشهاد هنيّة وتعيين السنوار، بالرغم من الأصوات المُتخاذلة، تدلّ على ضمير شعبي حيّ، ولكنّه ليس فاعلاً. المقاومة الفلسطينية مرّت بمحطّات عديدة، وشهدنا كيف بقيت وحيدةً خلال حصار بيروت، وصرخة درويش الشعرية “حاصر حصارك لا مفرُّ”، لكنّنا ما زلنا نتركها وحدها.
وكنت حذّرت في مقالي، “ما بعد الاغتيالات… الأخطر قادم” (“العربي الجديد”، 4/8/2024)، من خطر الحلف العسكري العربي الإسرائيلي قيد التشكيل، وهذا تحدّ رئيس لقيادة “حماس”، ليس على مستقبلها فقط، وإنما على مستقبل المنطقة أيضاً. يجب أن يبقى هدف الهدنة الأول والأكثر أهمّية وقف العدوان، وانسحاب قوات الاحتلال من غزّة مهما كانت الحسابات، لذا، لا تستطيع “حماس” اتّخاذ خطوات للردّ على اغتيال إسماعيل هنيّة من دون أن تعي تبعات ذلك، فالعدو لا أخلاق له ولا معايير اشتباك، وحرب الإبادة التي يشنّها تُلغي القوانين والأعراف كلّها.
يجب ألا تُحصَر المسألة في التفكير في مستقبل “حماس” فحسب، فذلك يقود إلى قرارات فئوية، وليس إلى رؤية استراتيجية، “حماس” يجب أن تكون على قدر المسؤولية، لكن يجب ألّا تترك وحدها، يحقّ لنا أن نسائلها، ونُذكِّرَها بأنّها لا تستطيع قيادة الشعب الفلسطيني وحدها، فهي معركتنا جميعاً، وتُحدّد مصيرنا جميعاً.
عن العربي الجديد