«السلام» من وجهة نظر إسرائيل

في العام 1975، دُعِيَ رئيس وزراء إسرائيل، إسحاق رابين، إلى المكتب البيضاوي لعقد اجتماع مع الرئيس جيرالد فورد ووزير الخارجية هنري كيسنجر. ناقش الثلاثة آفاق السلام الدائم في الشرق الأوسط، وهو الهدف الظاهري الدائم للولايات المتحدة في المنطقة. وفي خلاله، تحدّث رابين ليُوضِّح موقف بلاده:
«من وجهة نظرنا، تعني العودة إلى حدود العام 1967 وإقامة دولة فلسطينية أن إسرائيل لن تستطيع البقاء… ومن ناحية استعداد إسرائيل لسلام نهائي واحتياجاتها الأمنية، لا تسمح حدود 1967 مع مصر وسوريا بترتيبات أمنية ضرورية لدولة صغيرة يبلغ عدد سكانها 3 ملايين شخص، في مواجهة مجموعة من الدول يبلغ مجموع سكانها 60 إلى 65 مليوناً. نحن على استعداد لمحاولة تحقيق السلام، لكن الفجوة في هذه القضايا واسعة. لم نستشعر بعد أي استعداد عربي للتقارب مع أساسيات السلام كما نراها من وجهة نظرنا».
من وجهة نظرها، وجدت إسرائيل نفسها منذ العام 1948 في بحر من العداء يتعذّر تفسيره. ومن وجهة نظرها، من البديهي أن يكون الوضع دائماً «3 ملايين ضدّ 60 مليوناً». وبناءً عليه، بما أنّ الصهاينة يرون أنفسهم أقلية إزاء هذا التفوّق العددي في أدغال العرب، وبما أنّ اللغة الوحيدة التي يفهمها أعداؤهم هي القوة، يجب على إسرائيل اللجوء إلى العنف لتأمين تفوّقها غير المرجّح بمساعدة قوة عظمى. الحل إذاً في توسيع الحدود، من أجل الأمن. أي تأمين أمن إسرائيل على أرض مسروقة بوصفه السبيل الوحيد الممكن نحو السلام.
بعدما كرّر كيسنجر التزام الولايات المتحدة بدعم إسرائيل، طرح سؤالاً على رابين بشأن هذه الرقصة المألوفة:
الوزير كيسنجر: في هذا المفهوم عن الأمن والسيادة، أترغبون في تغيير الحدود وأيضاً في خط انتشار مختلف؟
رئيس الوزراء رابين: خط انتشار (مشيراً إلى خريطة) يمكن الدفاع عنه إذا ترافق مع خط سياسي يكون هو الحدود النهائية. نحن لا نطالب بشرم الشيخ (جزء من مصر احتلته إسرائيل)؛ نريد فحسب أن نكون هناك، إلى أن نرى التزاماً ثابتاً بالسلام.
نحن لا نطالب بها، نريد فحسب أن نكون هناك. سوف تحتل إسرائيل الأرض (لحماية الأرض من شعبها) إلى أن يحلّ السلام. يرى الغرب رابين حمامة سلام، على الرغم من أن سياسته أمرت القوات الإسرائيلية بكسر عظام الفلسطينيين حرفياً. في النهاية، اغتيل رابين – على يد أحد مواطنيه – بسبب جهوده لتحقيق السلام من وجهة نظر إسرائيل.
منذ بداية الانتدابين الفرنسي على لبنان والبريطاني على فلسطين، وحتى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الحدود بين فلسطين ولبنان مجرّد حبر على الخرائط الاستعمارية. وفي العام 1938، حاولت السلطات البريطانية بناء سياج على هذه الحدود. وبحلول الوقت، اتضح لكثير من الفلسطينيين أنّ للصهاينة نوايا استعمارية. ردّاً على ذلك، صعّد الفلسطينيون التعبئة الشعبية المسلّحة، ما لفت انتباه السلطات البريطانية. وفي هذه الأثناء، اتخذت الميليشيات الصهيونية خطواتها الخاصة. في تشرين الأول/أكتوبر 1935، وبينما كان عمّال الميناء الفلسطينيون يفرغون براميل الإسمنت في ميناء يافا، تحطّم أحد البراميل لتتدفّق منه الأسلحة والذخيرة. وفي المجمل، صادرت السلطات البريطانية مئات البنادق ومئات الآلاف من الذخائر. كانت هذه الأسلحة في طريقها إلى الهاغاناه، وهي ميليشيا صهيونية وسلف جيش الاحتلال الإسرائيلي.
بحسب مقال في صحيفة «فلسطين بوست» (تُعرف الآن بـ«جيروزاليم بوست»)، فإنّه على الرغم من «همة التحقيقات وشدّتها… في جريمة تهريب الأسلحة الخطيرة جداً… المدعومة بقوة من سلطات الانتداب»، لم يُعثر على التاجر اليهودي في تل أبيب الذي كانت الأسلحة مُتجهة إليه. على الرغم من تأكيدات المستعمر البريطاني بأنّ «كل الإجراءات الممكنة تُتخذ للكشف عن المسؤولين وتقديمهم للعدالة»، عزّز هذا الحدث الشكوك المتزايدة لدى الفلسطينيين بأنّ الحركة الصهيونية، بمساعدة القوى الاستعمارية، تحشد السكّان والقوة العسكرية اللازمة للاستيلاء على الأرض، خصوصاً لترافقه مع التدفق الهائل للمهاجرين اليهود الأوروبيين إلى فلسطين في تلك الفترة.
لا يصنع السياج حدوداً. رفض الناس الحدود، ووجدوا مع الوقت طريقة لعبور السياج. والآن كما في الماضي، ترفض إسرائيل بدورها الحدود ولكن لأسباب مختلفة: الحدود هي حدٌ صارم أمام التوسّع وفق رؤية المستوطن
وجدت السلطات البريطانية أنّ رعاياها الفلسطينيين غير منطقيين. فقد عبّر مقال «فلسطين بوست» عن أسفه من «التسامح المُفرط» من جانب السلطات البريطانية تجاه «التحريض… الذي يثيره عمداً الزعماء العرب»، و«التشهير بهم بلا أدنى دليل»، ورأت أنّ الأمر برمّته «مسرحية مكشوفة». هؤلاء العرب خبثاء، يُروّجون للدعاية ضدّ المشرفين عليهم من دون أن يصدّقوا حتى ما يقولونه، «إنّ عدداً لا بأس به منهم يثير هذه الكراهية بطريقة ساخرة وليست على محمل الجدّ». أصرّ الكاتب، وقد نفد صبره، على أنّ «الأغلبية العربية في فلسطين – أيجب تكرار ذلك؟ – ليس لديها ما تخشاه من المستوطنين اليهود»، الذين وصفهم في مكان آخر بـ«الأقلية اليهودية في فلسطين»، مشيراً إلى المبالغة في ردّة فعل العرب وافتقارهم للمنطق. فالحقائق على الأرض لم تدعم مخاوفهم. وأضاف الكاتب، وقد تشير حساسية الفلسطينيين المفرطة إزاء هذا الأمر إلى أنّهم ربّما يستفيدون من جلسات تحليل نفسي: «الاحتجاجات المفرطة، وقد وصلت إلى أقاصي العالم، ربما تخفي ضميراً مذنباً».
في تشرين الثاني/نوفمبر 1935، قتل الاستعمار البريطاني الزعيم المناضل ضد الإمبريالية الشيخ عز الدين القسّام الذي سافر في وقت سابق من جبلة في سوريا، حيث وُلِد، إلى حيفا. وكان القسّام، كما يصفه رشيد الخالدي، «أول داعية بارز للمقاومة المسلّحة في الريف» في فلسطين. ويُقال إنّ جنازته كانت أكبر تجمّع سياسي في خلال فترة الانتداب البريطاني. أسفر الغضب الذي اجتاح الشوارع بعد اغتياله، إلى جانب الاستياء الاقتصادي المتزايد بين مختلف الطبقات الفلسطينية، وبدايات التجريد من الملكية، عما بات يُعرف بالثورة العربية الكبرى بين عامي 1936 و1939. ومع انتشار أخبار الانتفاضة شمالاً، سافر عرب من لبنان وسوريا، اللذين كانا تحت الانتداب الفرنسي، مسافة قصيرة في الاتجاه المعاكس لمساعدة إخوتهم وأخواتهم على المقاومة.
فهمت السلطات الاستعمارية البريطانية، من منظور استراتيجيتها «فرق تسد»، أنّ وحدة الجبهات هي تطوّر خطير. في كانون الأول/ديسمبر 1937، وصل السير تشارلز تيغارت إلى فلسطين ليكون «مستشار الحكومة الفلسطينية لقمع الإرهاب» وتقييم خطورة الانتفاضة وتحديد ما يجب فعله حيالها، بعد أن خدم سابقاً في قوة الشرطة الاستعمارية البريطانية في الهند ثم في المجلس الاستشاري الاستعماري للهند في لندن. قام تيغارت بجولة على نقاط الشرطة، والتقى بالمسؤولين الاستعماريين، وقدم توصياته، وكان من بينها بناء العشرات من مراكز الشرطة المُحصّنة، ونقاط المراقبة، وغيرها من الحصون في جميع أنحاء فلسطين، بالإضافة إلى سياج كبير يفصل فلسطين عن لبنان وسوريا اللتين كانتا تحت الانتداب الفرنسي. سوف يُعرف هذا السياج، بكثير من المبالغة، بـ«جدار تيغارت». ساد اعتقاد أن جدار الفصل بين فلسطين ولبنان وسوريا سوف يمنع حشد المقاتلين وتدفق الأسلحة من الشمال. وقد كلّف بناؤه حوالي 450,000 دولار، وأسنِد جزء من بنائه إلى شركة سوليل بونيه، وهي شركة بناء صهيونية، وجُلِبَت الأسلاك الشائكة من إيطاليا موسوليني.
في آب/أغسطس 1938، اكتمل بناء «الحاجز الشائك المعزّز» بارتفاع 9 أقدام، ليحدّ من الزراعة والتجارة وحق الناس في الحركة. بُنِيَت أجزاء طويلة من هذا الحاجز على أراضٍ خاصة، وفُرِض رغماً عن إرادة أصحاب الأرض. زعمت مجلة «تايم» أنّ عدداً كبيراً من عرب فلسطين المتشدّدين يأتي من لبنان وسوريا، وأضافت في المقالة نفسها «تسلّلت مجموعة من الإرهابيين العرب إلى السياج… قطعته وقطرته إلى لبنان». سقط السياج بعد هذه الحادثة بسنة، واضمحلت الحدود مجدّداً حتى العام 1948.
حتى العام 1948. في الأيام والأشهر التي تلت النكبة، حاول عدد من الأشخاص العودة إلى فلسطين لدفن أحبائهم الذين أُجبروا على تركهم خلفهم، أو للصلاة على السجاجيد التي ما زالت مفروشة في منازلهم، أو لمحاولة إنقاذ ما تبقى من عالمهم، عُومِل هؤلاء معاملة «المتسللين» وأطلقت النار عليهم دوريةٌ إسرائيلية مُكلفة بحماية الحافة الشمالية الأولى لدولتهم التوسّعية. في النهاية، أقام الإسرائيليون، على غرار أسلافهم الاستعماريين، سيّاجاً معدنياً على طول الحدود.
لا يصنع السياج حدوداً. رفض الناس الحدود، ووجدوا مع الوقت طريقة لعبور السياج. والآن كما في الماضي، ترفض إسرائيل بدورها الحدود ولكن لأسباب مختلفة: الحدود هي حدٌ صارم أمام التوسّع وفق رؤية المستوطن، سواء من الناحية المجرّدة أو الجمالية. على أي حال، طوّرت إسرائيل في مواجهة شعب يطالب بالعودة أسوارها إلى جدران خرسانية، لتقليل أي احتكاك قد تواجهه إرادتها التي تحمل اسم «السلام». أصرّ أصحاب الأرض على أنّ الجدران، كالأسوار، لا بد من تجاوزها؛ ولهذا السبب قررت إسرائيل أنّ عليها إنهاء وجود أصحاب الأرض.
***
أسَّست خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين للعام 1947 مستعمرةً استيطانية. في تشرين الثاني/نوفمبر 1948، أوضح القائم بأعمال وسيط الأمم المتّحدة بين إسرائيل و«العرب» أنّه «ليس في وضع يسمح له بالضغط من أجل أي تسوية». حتى وقت قريب، كان يعمل مساعداً للوسيط، وصار وسيطاً بعد أن اغتالت رئيسه مجموعةٌ شبه عسكرية إسرائيلية، عصابة شتيرن، اندمجت لاحقاً في جيش الاحتلال الإسرائيلي. أعرب أحد عناوين صحيفة «نيويورك تايمز» آنذاك عن القلق: «لا توجد أي احتمالات لاتخاذ أي إجراء جاد من قِبل الأمم المتحدة في المستقبل القريب، وتتزايد المشاعر بين المراقبين هنا بأنّ الأمم المتحدة لن تتخذ أي إجراء جاد بشأن فلسطين على الإطلاق. ومع قبول وقف إطلاق النار، تراجعت المشكلات هناك مؤقتاً».
في تشرين الأول/أكتوبر 1948، اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان فيما بدا محاولة لاحتلال دائم. العنوان الفرعي لمقالة «نيويورك تايمز» أعلاه ذكر: «يبدو أن أمر وقف إطلاق النار الأخير في فلسطين، حيث كانت القوات الإسرائيلية تقاتل اللبنانيين، قد بات أخيراً فعّالاً». وتعني كلمة «فعّال» هنا دخوله حيز التنفيذ، نظرياً: في إطار وقف إطلاق النار، «أمرت الأمم المتحدة الجيش الإسرائيلي… بسحب القوات التي قال المراقبون إنّها عبرت الحدود اللبنانية بعمق يتراوح بين 2 إلى 3 أميال على معظم الجبهة الشمالية. لكن الحكومة الإسرائيلية رفضت حسبما يبدو». أصرّ متحدث باسم إسرائيل على أنّ الجيش لا يعرف أي أمر من الأمم المتحدة بالانسحاب. لكنّه أضاف حال وجود هكذا أمر، «نحن ندعي الحق في احتلال الأراضي المستولى عليها قبل الهدنة الثانية». وفي عنوان آخر من «نيويورك تايمز» نشر بتاريخ 15 تشرين الثاني/نوفمبر من ذلك العام يعبر بنفاد صبر: «من المتوقع مزيد من التأخيرات بشأن حدود إسرائيل». وأُشِيرَ إلى أنّ «التردّد» الأميركي بشأن مستوى الضغط المناسب الواجب ممارسته على الدولة الناشئة كان «عاملاً كبيراً» في هذه التأخيرات. على أي حال، لم يكن خيار العقوبات ضد إسرائيل بسبب انتهاكاتها الإقليمية مستحسناً، خوفاً من أن «تجبر هذه العقوبات الدولة الجديدة على اللجوء إلى الشرق طلباً للمساعدة».
في 10 كانون الأول/ديسمبر، أدان القنصل العام لإسرائيل «المزاعم» المتعلقة بانتهاكات إسرائيل للحدود ضد جيرانها، ووصفها بـ«التافهة التي لا أساس لها [وتهدف بوضوح مرة أخرى إلى إعاقة وتشويه موقف الحكومة الإسرائيلية أمام الأمم المتحدة]». لم يكن قد مر عام واحد بعد، وكانت الدولة الصهيونية قد بدأت تشعر بالإرهاق من مطالب أخذ الآخرين في الاعتبار.
عند توقيع اتفاقية الهدنة، أكد رئيس الوفد الإسرائيلي أنّ «إسرائيل لم يكن لها أي خلاف مع لبنان في الماضي»، وهو أمر مدهش أن نتحدّث عن «الماضي» لدولة لا يتجاوز عمرها عاماً
يكشف هذا الرد جانباً رئيساً من النفسية الصهيونية: مجرّد تسمية سيادة بلد آخر أو الإشارة إلى عدوان إسرائيلي، ستراه الصهيونية على الدوام محاولة لتشويه صورتها. يبدو المضمون الفعلي للتهم المطروحة- ومنها اليوم الإبادة الجماعية- وكأنّه أمر ثانوي. في تلك الفترة، أدان القنصل الإسرائيلي أيضاً مقالين نُشرا في مجلة «ذي إيكونومست»، من بين كل الصحف والمجلات، لأنّهما قدما «أكثر الروايات إيجابية حتى الآن عن وضع اللاجئين العرب». «وضع» اللاجئين «العرب»، عبارةٌ توحي باللا مبالاة: مَن يدري كيف حدث ذلك.
في 23 آذار/مارس 1949، وقعت إسرائيل ولبنان اتفاقية هدنة لترسيم الحدود، نصّت على انسحاب إسرائيل من 9 قرى لبنانية محتلّة «بالإضافة إلى 5 قرى أخلتها مؤخراً في بادرة حسن نية». وقدّمت «نيويورك تايمز» هذا الحدث بلغة غامضة ترفض تحديد الطرف المسؤول، قائلة إنّ الاتفاق «سوف يقلّل من مشكلة اللاجئين في لبنان». دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ مع تبادل للأسرى: 7 إسرائيليين مقابل 38 لبنانياً.
عند توقيع اتفاقية الهدنة، أكد رئيس الوفد الإسرائيلي أنّ «إسرائيل لم يكن لها أي خلاف مع لبنان في الماضي»، وهو أمر مدهش أن نتحدّث عن «الماضي» أساساً، دع عنك ماضٍ خالٍ من الخلافات، لدولة لا يتجاوز عمرها عاماً، وكانت طوال وجودها القصير، ولا تزال، في حالة حرب مستمرة مع كل ما يحيط بها. واصل حديثه قائلاً: إسرائيل «لا ترى أي سبب لخلاف في المستقبل». إسرائيل لم ترَ أي سبب حتى لشيء بسيط من قبيل «الخلاف» المستقبلي لأنّها كانت ترفض رؤية الفلسطينيين، مئات الآلاف منهم لجأوا إلى لبنان في العام الماضي وحده منذ بداية النكبة. زد على ذلك، لم تستطع إسرائيل قبول فكرة أنّ شعوب الأرض قد يكون بينها التزام تجاه بعضها البعض، وأنّها رفضت الاعتراف بوجود عواقب لعدوان إسرائيل على لبنان. والأهم من ذلك، كما سيظهر الزمن، أنّها رفضت وقف هذه الاعتداءات باسم «حسن النية». احتفى رئيس الوفد الإسرائيلي قائلاً: «الاتفاقية الموقعة الآن تُغلق فصلاً غير سعيد». في العام 1951، نشرت «نيويورك تايمز» خريطة تُصنّف الدول العربية المحيطة بإسرائيل بناءً على «عدائها» لها، في تذكير بأنّ أوروبا وفروعها حاولت جعل الدولة الصهيونية مركزاً لعالمنا («الإسرائيليون وجيرانهم العرب»). وقدمت الخريطة تقديرات لعدد سكان بلداننا، وقسمتنا إلى 3 درجات من العداء، من الأكثر إلى الأقل. آنذاك، صُنِّفَ لبنان ضمن الأقل عداءً.
***
السياج المعدني الذي أُقيم لفصل فلسطين عن الفلسطينيين جرى اختراقه بسهولة. ومع تحوّل الأشهر إلى سنوات بعد العام 1948، استمرّ تراجع أمل الناس في القانون الدولي الوليد. وهذا أمر مفهوم، نظراً لأنّ القانون الدولي أسّسته القوى التي سلّمت أرضاً ليست لها لشعب لا ينتمي إليها. تصاعدت العمليات الفدائية الفلسطينية عبر الحدود من لبنان إلى فلسطين المحتلة بالتناسب مع ما سمحت القدرات. تأسّست منظّمة التحرير الفلسطينية في منتصف الستينيات، وبعد العام 1967 كثفت هجماتها ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية عبر الأردن. في العام 1968، غزت إسرائيل الأردن، بحجة وقف الهجمات، لكنّها اضطرت في النهاية للانسحاب. وفي العام 1970، وتحت ادعاء تفشّي الفساد في منظمة التحرير الفلسطينية ومع تصاعد الضغوط الخارجية، استهدفت الأردن الفدائيين الفلسطينيين في ما أصبح يعرف بأيلول الأسود، لتُبعِد في النهاية منظّمة التحرير إلى لبنان.
في العام 1978، اجتاحت إسرائيل لبنان بحجة القضاء على التهديد الذي تمثله منظّمة التحرير الفلسطينية لأمنها. وطالبت بمنطقة عازلة منزوعة السلاح في جنوب لبنان تكون على الأقل بعمق يعادل مدى صواريخ الفدائيين. أخفى هذا العمق المقترح دوافع أخرى: أطلقت إسرائيل على هذا الغزو «عملية الليطاني» نسبةً إلى النهر الذي سعت الصهيونية إلى ضمّه لدولتها. نهر الليطاني، أطول أنهار لبنان، يغذّي بعضاً من أخصب الأراضي في المنطقة، وكان منذ فترة طويلة هدفاً للغزو الاستعماري. ففي أوائل الأربعينيات، خاضت القوات الفرنسية المتحالفة مع دول المحور معركة ضد القوات البريطانية والأسترالية حملت اسم النهر، في إطار عملية تحمل الاسم الرمزي «إكسبورتر». قبل ذلك بعقدين، وبعد فترة وجيزة من توقيع اللورد بلفور لوعده الشهير، قدّم اثنان من مؤسسي الدولة الصهيونية، دافيد بن غوريون وحاييم وايزمان، خريطة لدولتهما المستقبلية في مؤتمر باريس للسلام في العام 1919. كان من المفترض أن تشمل هذه الدولة، في حدودها المثالية، نهر الليطاني الذي كانت السلطات البريطانية والفرنسية قد قرّرت بالفعل أنّه ينتمي إلى الأخيرة.
في العام 1982، وبعد فشل عملية الليطاني، اجتاحت إسرائيل لبنان مرّة أخرى، وأطلقت على هذا الاجتياح الجديد «سلامة الجليل». كان مخطّط إسرائيل، إلى جانب إفراغ بيروت من المقاتلين الفلسطينيين، احتلال جنوب لبنان احتلالاً دائماً، سواء مباشرة أو بالوكالة. بحلول ذلك الوقت، كانت إسرائيل تعمل منذ سنوات على تأسيس ميليشيا جيش لبنان الجنوبي. في بداية ما يُعرف بالحرب الأهلية اللبنانية، أعلن جيش لبنان الجنوبي أنّ أحد أهدافه الرئيسة الاستيلاء على الأراضي «الواقعة تحت سيطرة» الفلسطينيين الذين تمركزوا في الجنوب. جيش لبنان الجنوبي، وهو قوة انفصالية تديرها الجهات التي تحتل فلسطين، كان يرفع 3 رايات في مقره: علمان لبنانيان بينهما علم إسرائيلي.
حوّلَت الفصائل الفلسطينية جزءاً كبيراً من مواردها، المخصّص في الأصل للاستخدام ضد إسرائيل، إلى الشمال نتيجة «الحرب الأهلية» اللبنانية. بدأت الحرب نفسها بسلسلة من الأحداث، وكانت القشّة الأخيرة مذبحة بحق ركاب حافلة تنقل لاجئين فلسطينيين إلى مخيم تل الزعتر، نفّذتها جماعة مستوحاة حرفياً من النازية تُدعى الكتائب. تخيّلت ميليشيات الكتائب نفسها أوروبية، واعتقدت باشتراكها مع أوروبا لا في النسب المزعوم إلى جبال القوقاز فحسب، بل أيضاً في عداوة مُشتركة تجاه العرب. سافر مؤسّسها، بيار الجميل، إلى برلين في خلال أولمبياد العام 1936 ووقع في حب هذا النموذج من القومية العسكرية، وأضاف إليه نسخة من المسيحية أوضح وأعنف. فقد رأى في النظام النازي، كما قال، «الانضباط. ونحن في الشرق الأوسط، نحتاج إلى الانضباط أكثر من أي شيء آخر».
كانت الكتائب، على غرار حلفائها في جيش لبنان الجنوبي، مدعومة مالياً من إسرائيل. يمكن تتبع هذه العلاقة إلى العام 1948 على الأقل، حين طلبت الجماعة مساعدة إسرائيل للإطاحة بالحكومة اللبنانية. تذكّر هنا ما ورد سابقاً عن أنّ «إسرائيل لم يكن لها أي خلاف مع لبنان في الماضي». تعود علاقة إسرائيل مع (بعض) الموارنة في لبنان، الهوية الطائفية لكل من الكتائب وجيش لبنان الجنوبي، إلى وقت أبكر، إلى العام 1920 على الأقل، حين «وقع الصهاينة وهؤلاء اتفاق تعاون». وكان هدف الاتفاق، بحسب أحد وزراء الخارجية الإسرائيليين الأوائل، «إخراج لبنان من دائرة الوحدة العربية… وارتباطه بإسرائيل يبعث على الدفء الشديد ويفتح الباب لإعادة تنظيم واسعة النطاق في هيكل الشرق الأوسط بأكمله». نسمع هنا أصداءً لهذا في قول كونداليزا رايس عن «آلام ولادة شرق أوسط جديد» لوصف مذبحة المدنيين اللبنانيين على يد إسرائيل في العام 2006.
في العام 2021، دشّنت إسرائيل «نُصباً تذكارياً تخليداً لذكرى مَن سقط من جيش لبنان الجنوبي، وقد حلّ هذا النُصب التذكاري محل نُصب آخر بُني قبل العام 2000 ودمّره حزب الله بعد تحرير لبنان
في آب/أغسطس 1976، قام رئيس مكتب مجلة «تايم» في القدس بجولة في الأراضي بين لبنان وإسرائيل وذكر:
«تفعل إسرائيل، بالقول والفعل، كل ما في وسعها (باستثناء الغزو الشامل) لتحييد حدودها اللبنانية. ولتحقيق هذا الهدف، أقامت علاقات مع وحدات الجيش اللبناني المنشّق، وهي القوة شبه الحكومية الوحيدة المتبقية في المنطقة، وتسعى لكسب حسن نية، إنْ لم يكن قلوب وعقول، سكان القرى الحدودية. سياسة إسرائيل تؤتي ثمارها حتى الآن. المنطقة هادئة».
أطلقت إسرائيل على حدودها مع لبنان في خلال هذه الفترة اسم «الجدار الطيّب». ذهب أعضاء جيش لبنان الجنوبي وعائلاتهم إلى إسرائيل لقضاء العطلات والبحث عن فرص عمل. وسرعان ما اصطفت السلع الإسرائيلية على رفوف المتاجر في جنوب لبنان أو شُحِنَت من الموانئ اللبنانية لإعادة التصدير. رفض الإسرائيليون دفع الرسوم الجمركية، على الرغم من الاحتجاجات المتكرّرة من حلفائهم اللبنانيين. في المقابل، كانت السلع اللبنانية محظورة تقريباً من دخول الأسواق الإسرائيلية. وذكرت «كريستشن ساينس مونيتور» في تقرير لها في العام 1982 أنّ «بعض الإسرائيليين يأملون – في ضوء الأدلة المتاحة حتى الآن – أنّ يصبح لبنان بمعاهدة سلام أو من دونها سوقاً متزايدة للتصدير، وممرّاً للصادرات الإسرائيلية إلى العالم العربي».
في العام 2000، أجبر ائتلاف بقيادة حزب الله إسرائيل على سحب قواتها من لبنان، تاركة وراءها حلفاءها من جيش لبنان الجنوبي بلا سابق إنذار. في ذلك الوقت، كان أنطوان لحد في باريس يسعى للحصول على الدعم لجيشه من المستعمِر السابق للبنان. وقد أعرب عن أسفه لترك قوّاته، وطلبَ من إسرائيل إبقاء الحدود مفتوحة ليتمكّن رجاله من الحصول على الرعاية الطبّية والدعم اللوجستي اللازمين للحفاظ على قدرتهم على القتال. لكن على الرغم من رجاءاته، أُغلِقَ «الجدار الطيّب». هرب لحد نفسه إلى إسرائيل، وصدر حكم بإعدامه غيابياً في وطنه لبنان بتهمة الخيانة. ثمّ مات بهدوء في باريس في العام 2015.
بعد إعلان تحرير جنوب لبنان في أيار/مايو 2000، اندفع على الفور الفلسطينيون من الجانبين نحو بعضهم البعض، في تقارب جسدي للمرة الأولى منذ عقود. في لقطات من تلك الأيام، تبادل الناس الكلمات والقبلات، وتصافحوا عبر الفجوات. في إحدى اللقطات، يمرّر أحد الآباء بحذر طفله، المولود على ما يبدو في لبنان، بين صفين من الأسلاك الشائكة إلى فلسطين، ليقابل عائلته وأرضه. تظهر لقطة أخرى جنوداً إسرائيليين بالقرب من السياج، يجلسون بلا حراك في سياراتهم العسكرية.
في العام 2021، دشّنت إسرائيل «نُصباً تذكارياً تخليداً لذكرى مَن سقط من جيش لبنان الجنوبي ومنحت أوسمة حملة عسكرية لمَن قاتل إلى جانبها من أعضاء التنظيم»، وهي المرة الأولى في تاريخ إسرائيل التي تُمنح فيها هكذا ميداليات لمقاتلين خارج جيش الاحتلال الإسرائيلي. حلّ النُصب التذكاري الجديد محل النُصب الأصلي الذي بُني قبل العام 2000 ودمّره حزب الله بعد تحرير لبنان. في الحفل الذي أُقيم في إسرائيل، تُلِيَت صلاة خاصة باللغة العربية (وهي مبادرة تنوّع أثنت عليها الكثير من وسائل الإعلام الإسرائيلية). يحمل النُصب تذكاراً، باللغتين العربية والإنكليزية، يقول: «سنتذكر جنود جيش لبنان الجنوبي الذين سقطوا في أثناء الدفاع عن بلدات جنوب لبنان وشمال إسرائيل». يقع نُصب الجدار الطيب في مستوطنة المطلة. الاسم الإسرائيلي مأخوذ من العربية. كانت المطلة موجودة على جانبي الحدود المتغيرة في خلال فترة الانتداب. في أيام الجدار الطيب، كان أنصار جيش لبنان الجنوبي يمرون عبر القرية في طريقهم للمشاركة في القوة العاملة الصهيونية. أُخلِيَت المطلة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023. يقول ما لا يقل عن ربع سكانها إنّهم لن يعودوا إليها، مشيرين إلى عدم قدرة حكومتهم على ضمان أمنهم.
***
في حالة نادرة من التأمل الذاتي، لاحظت «جيروزاليم بوست» في مقال في العام 2012 أنّ «مصطلح الجدار الطيب تعبير متناقض بالطبع، إذ إنّ الجدران بطبيعتها تفصل وتقسم». لكن هذه البصيرة لا تدوم طويلاً، إذ يسارع المقال نفسه في الفقرة التالية إلى القول: «بيد أنّ إسرائيل، في أيام مجد علاقاتها مع المسيحيين والقرى في جنوب لبنان، كانت تأمل في جعل الجدار وسيلةً للتعايش». ما تقصده بـ«التعايش» معناه الحرفي: أنا أعيش هنا وأنت تعيش هناك، حتى لو كنا، مثل خطين متوازيين، لا نلتقي أبداً. لا أعلم إنْ كان في التاريخ حالة عكس فيها جدار فرضه المستعمِر على المستعمَر الرومانسية المفرطة في الأمل. والأهم من ذلك، حتى تشبيه الخطوط المتوازية يُعدّ سخياً للغاية، فإسرائيل تفتقر إلى القدرة الأيديولوجية لتقبل وجود شيء حولها يضاهيها – بل تفضِّل دائماً، الاستعباد على المساواة. إسرائيل بحكم عنصريتها المفرطة، ولكي تستطيع البقاء، لا تعترف بوجود أنداد لها بين جيرانها.
تواصل إسرائيل الإصرار على أنّ جانبها من الحدود مع لبنان يجب أن يشمل أراضٍ لبنانية، وأن يصبح الجنوب «منطقة منزوعة السلاح». وباسم السلام، تشدّد إسرائيل على الحاجة لهذه المنطقة المنزوعة السلاح مع التظاهر بالتعالي وكأنّها «البالغ الوحيد في الغرفة». بالطبع، لا يمكن أن يكون نزع السلاح ثنائياً: لماذا يجب على إسرائيل التخلّي عن حقها في «الدفاع» عن نفسها؟ في النهاية، لا يمكن الوثوق بأعداء إسرائيل في الحفاظ على «السلام النهائي» وفقاً لنظرة رابين.
تناقش مقالة حديثة في «ذا نيويورك ريڨيو أوف بوكس»، عن حق أنّ سياسة إسرائيل في اغتيال القادة الأعداء في دول أجنبية لم تكن ناجحة، وأن عدم فاعلية هذه السياسة يجب أن يدفع إسرائيل إلى إعادة النظر. دعونا نضع جانباً الآن أنّ هدف الاغتيال كان، على مدى عقود على الأقل، وسيلة لإلهاب مشاعر التفوّق لدى الإسرائيليين على المدى القصير، وليس إضعاف حركات المقاومة. لكن من النادر أن طُرِح سؤال: بأي حق تستمر إسرائيل في تجاهل سيادة الدول الأخرى؟
يُفترَض بالحدود القيام بشيئين: تحديد الأراضي السيادية وإرساء الأمن. لكن إسرائيل قلبت هذا النموذج. وقبل أن تتمكّن من تحديد أراضيها، أي الحدود التي يجب أن يشكّل تجاوزها من قبل طائراتها المسيّرة والمقاتلة عدواناً، يجب أن يتوفّر لديها الأمن. لا تملك إسرائيل حدوداً معترفاً بها دولياً مع لبنان، بل خط هدنة تسميه الأمم المتحدة «الخط الأزرق» ويحدّده اليوم جدار سميك تم تعزيزُه بشكل كبير في السنوات التي تلت العام 2006. على خرائط غوغل، تظهر خطوط منقطة بين إسرائيل وقطاع غزة والضفة الغربية (تسميها إسرائيل باسمها التوراتي «يهودا والسامرة») وتعيد تصوير هذه الأراضي كأراضٍ متنازع عليها. وهي كذلك، حرفياً، بمعنى أنّ إسرائيل تعمل على الاستيلاء عليها وفق منطق «القوة تصنع الحق». فضلاً عن الخطوط التي حدّدتها الأمم المتحدة مع الأراضي الفلسطينية، والتي تُسمى مجتمعةً «الخط الأخضر»، توجد جدران خرسانية. لذا، لدينا جدران حدودية بلا حدود. والأمل الإسرائيلي في المستقبل أن تُزال هذه الجدران بمجرد إعادة إنشاء منطقة أمنية، بعد إفراغ الأرض من سكانها، من أجل تحقيق ما تعتبره إسرائيل سلاماً.
بما أنّ إسرائيل ترى الوعي الوطني الفلسطيني تهديداً وجودياً لها أو اعتداءً عليها، فإنّ السلام لن يتحقّق من وجهة نظرها إلا باختفاء الفلسطينيين ومن يدعمهم
إسرائيل مشروع توسّعي، وشأنها شأن هكذا مشروعات، تُفضّل حدوداً متوسّعة باستمرار على جدار أو حدّ ينتصب أمام آفاقها الطموحة. يقوم المستوطنون الإسرائيليون، ممن وفّرت لهم الدولة الدعم والتسليح، بالاعتداء على الأحياء الفلسطينية في الضفة الغربية ويدفعون «العرب» إلى جيوب أصغر فأصغر من الأرض. توجد حركة متزايدة داخل الدولة الاستيطانية اليوم تطالب بتحقيق إسرائيل الكبرى، وهي أمة تمتد، في شكلها الأقصى، «من وادي مصر إلى الفرات». تُصدِّر وسائل الإعلام الغربية هذا الموقف على أنّه وجهة نظر هامشية، ولا يهم إن كان وزير الأمن الإسرائيلي، إيتامار بن غفير، من مؤيّديه. أمّا النسخة الأخرى من الصهيونية يمثلها زعماء من أمثال رابين «حمامة السلام»، وهي تحتفظ بحق إسرائيل في التوسّع، بقدر ما تحتاج إليه، باسم الأمن. هذه المواقف، والعنصرية الكامنة وراءها، متشابهة في الجوهر، فإحداها مُعطاة من الله، والأخرى من الدولة.
ليست الحدود الإسرائيلية غير المستقرّة عيباً يحتاج إلى حل، بل ميزة من ميزات الدولة الصهيونية، ومصدر لعدم المحاسبة التي منحتها لنفسها، وضمنتها لها الولايات المتحدة. فمن منظور إسرائيل، شأنها شأن غيرها من الدول المحتلة، تُعلِّق الحرب العمل بالقانون. وبما أن إسرائيل في حالة حرب مستمرّة (وهي في حد ذاتها، كما كتبتُ في مواضع أخرى، دولة عدوانية بطبيعتها) فهي أيضاً في حالة من الفوضى القانونية الدائمة باسم أهداف غير محدّدة (أي الأمن) لا يمكن تمحيص وسائلها إلا بعد تحقيق الأمن، وإحلال السلام.
من وجهة نظر إسرائيل، يعجز أعداؤها عن الدفاع عن أنفسهم، وإسرائيل تعجز عن الاعتداء. وبما أنّ إسرائيل ترى الوعي الوطني الفلسطيني تهديداً وجودياً لها أو اعتداءً عليها، فإنّ السلام لن يتحقق من وجهة نظرها إلا باختفاء الفلسطينيين ومن يدعمهم. يظل «الأمن» الإسرائيلي كلمة ملطّفة تمنح إسرائيل حرّية مُطلقة لتعزيز حقها التأسيسي في الهيمنة، وارتكاب المجازر والاستيلاء على الأراضي، من دون عوائق. إنّ الاستمرار في تأكيد هذا الحق هو الوسيلة الرئيسة للدولة الصهيونية للحفاظ على قوتها.
يعبّر كاتب المقال في «جيروزاليم بوست» الذي يذكر «الجدار الطيب» عن قلقه أيضاً من أنّ «إسرائيل تحيط نفسها بالأسيجة والجدران تحت الضغط وبلا أي تفكير أو عملية تخطيط». في إسرائيل، «الإجماع العام مؤداه أنّ هم يجب أن يسيّجوا أنفسهم، وليس نحن». الجدران المحيطة بإسرائيل، على غرار جدران رعاتها الاستعماريين، تُفرض على الأرض وأصحابها الأصليين. الجدران ليست وسيلة فعّالة للإنكار. لقد تفادت إسرائيل لبعض الوقت تسوية قضيتها الأساسية مع جيرانها، أي قضية الاستعمار الصهيوني لفلسطين، بفضل تكنولوجيا الأسوار الذكية وغيرها من الأسباب.
جاء 7 تشرين الأول/أكتوبر وألغى جدوى المقايضة الإسرائيلية المدروسة: عوائق مؤقتة على كامل ما تصنّفه أرضها، في مقابل إبقاء السكان الأصليين خارجاً، لكن ضمن خط رؤيتها ومدى أسلحتها. اليوم، تمثّل تكنولوجيا الجدار الذكي، البنية التحتية للمراقبة والأسلحة التي تُدار عن بُعد لجدارها الحدودي المتطوّر، في غزّة مصدر إلهام لجدارها الذكي في جنوب لبنان. لا يُحدّد أي منهما حدوداً آمنة، أو حدوداً على الإطلاق. ولا يمكن لأي منهما محو الماضي، أو محو شعب لا يسامح ولا ينسى. اليوم، أنشأ اللبنانيون، للمرّة الأولى، منطقة عازلة داخل إسرائيل. لكن يزداد الجدار الذكي ذكاءً، متجنباً بطريقة خرقاء سؤالاً مستحيلاً.
نُشِر هذا المقال في Protean Magazine في 19 أيلول/سبتمبر 2024، وتُرجِم إلى العربية ونُشِر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.
عن موقع صفر