السعوديّة العربة الأخيرة في قطار التطبيع

لا يمكن أن نتخيل إلى أي انحطاط سياسي وصل الوضع العربي، فكلما قلنا إننا وصلنا إلى الحضيض، اضطررنا مرة أخرى إلى تغيير نقطة الصفر لتلائم مرحلة الانحدار الجديدة، وإذا كانت مرحلة “الأرض مقابل السلام” تعني التخلّي عن فلسطين والأفق القومي، والانخراط في الحلف الأميركي، مقابل استرجاع أراضي الأقطار العربية التي احتلتها إسرائيل (مصر، والأردن، وسورية، ولبنان) حيث نجحت في الدفعة الأولى بإخراج أكبر دولة عربية من دائرة الصراع، وربطها باالإستراتيجة الأميركية في المنطقة من خلال معاهدو كامب ديفيد، ونجحت في الحقبة الثانية بقوننة وضع الأردن بواسطة توقيع اتفاق سلام رسمي مع إسرائيل، بعد منح الفلسطينيين عبر اتفاق أوسلو نوعا من السيادة الشكلية على جزء من الأرض الفلسطينية التي كانت بحيازته، وجرى احتلالها عام 67؛ فإن المرحلة الحالية جاءت لتخضع “العرب” ليستقيموا مع توجه النهج اليميني الديني الاستيطاني المهيمن اليوم في إسرائيل، والذي عارض منطق مقايضة الأرض بالسلام، وما يزال يرفض أي مساومة على الأرض التي جرى احتلالها عام 67، ناهيك عن الأرض التي جرى اغتصابها عام 1948، وما يترتب عليه من تطبيق قرارات الأمم المتحدة بعودة اللاجئين الذين هُجروا منها عنوة.

وقد صاغ هذا اليمين إستراتيجيته التي أسقطت الأرض من أي تسوية سلام مع العرب والفلسطينيين، عبر معادلة “السلام مقابل السلام”، وهي معادلة تنطوي على تهديد بالقوة العسكرية المتعاظمة لإسرائيل في المنطقة، وتحمل انقلابا في معادلة الصراع العربي – الصهيوني الطويل، فبينما كان العرب في الماضي هم من يهددون إسرائيل بعدم الاستقرار، وعدم القدرة على العيش بأمان في المنطقة، طالما تحتل أراض عربية، أصبحت إسرائيل وفق هذه المعادلة هي من تهدد أمن واستقرار الدول العربية، وباتت الأخيرة هي من تستجدي الاستقرار والأمان من إسرائيل.

لقد نجحت إسرائيل في تطبيق واستثمار نظرية “الجدار الحديدي” التي صاغها جابوتنسكي، عبر تعظيم قوتها العسكرية، بحيث تفرض وجودها كقوة استعمارية في المنطقة، لا مفر أمام جيرانها العرب سوى التسليم والارتداع أمام جبروتها، والاعتراف بشرعية وجودها في المنطقة، لكنها ربما لم تتخيل أن هذه “الجبروت”سيجلب العرب (النظام الرسمي) زاحفين على بطونهم للتطبيع معها، دون أدنى مقابل في الأرض العربية والفلسطينية التي تحتلها، والحقوق الوطنية الفلسطينية التي تنتهكها.

لم يتخيل أباء إسرائيل الذين تعاملوا مع العرب بمنطق عقلاني يرى بهم كأي كائن طبيعي مفطور على سليقة الدفاع عن حقوقه واستردادها ممن سلبها، لكنه محكوم أيضا بحدود القدرة الطبيعية والمكتسبة وتوازن القوة مع الخصم؛ لم يتخيلوا أن يكون العرب حتى عندما يجري الحديث عن النظام الرسمي العربي -وهو الذي على اختلاف طبيعته في مراحل الصراع المختلفة، قد سيّر جيوشا في الـ48 وفي الـ67 وفي الـ73 لمحاربة إسرائيل- أن يصل ذاك الحال إلى هذا المستوى من الدناءة التي تبلغ حد التآمر مع عدو الأمة ضد بعضهم، وضد أبناء جلدتهم، وأن يبحثوا عن حماية عروشهم لدى عدوهم التاريخي ومغتصب أرضهم ومقدساتهم.

نقول ذلك ونحن نتابع باشمئزاز تفاعلات خبر اجتماع وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش مع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، وانفضاح أمر تورط رئيس حكومتها في ترتيب اللقاء، وانكشاف محاولات التستير والترقيع إلى آخر فصول المسرحية المضحكة المبكية، التي يجري تمثيلها مع حكومة إسرائيلية يقيم عدد لا بأس به من وزرائها الكبار في مستوطنات الضفة الغربية.

كما نشاهد بألم ما يجري في أرض الحجاز التي استقبلت 150 إسرائيليا بعد أن هبطت الطائرة التي تقلهم “اضطراريا” في مطار جدة الدولي، في أوج ما يجري من حديث عن اقتراب خروج صفقة التطبيع الإسرائيلية السعودية التي تحيكها أميركا إلى العلن، وما تتناقلته وسائل الإعلام من محاولات استخدام السلطة الفلسطينية كرأس جسر لتمرير هذه الصفقة التآمرية، عبر ما كشفته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية عن محاولات السعودية استئناف دعمها المقطوع للسلطة الفلسطينية، وعن الزيارة المرتقبة لوفد فلسطيني برئاسة حسين الشيخ إلى الرياض، الأسبوع القادم.

أما ما يجري الحديث عنه من “شروط سعودية” تتمثل بموافقة أميركية على “مشروع نووي سلمي”، وما وصف بخطوات إسرائيلية نحو الدولة الفلسطينية، فسيكون مصيرها حتما أشبه بشروط الإمارات المتعلقة بصفقة طائرات “إف- 35″، التي جرى إلغاؤها بعد توقيع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، هذا ناهيك عن أن عملية ضم مناطق ج جارية في الواقع العملي على قدم وساق، وكلنا يعرف أن مثل هذه الشروط توضع لحفظ ماء الوجه، وعدم إظهار عريّ هذه الأنظمة الكامل أمام إسرائيل.

ضمّ السعودية، التي باتت للمفارقة المعقل الأخير، بعد إسقاط باقي المعاقل العربية سلما وحربا، سيغلق دائرة التطبيع مع إسرائيل من المحيط إلى الخليج، ويطوي ملف القضية الفلسطينية، ربما لعشرات السنين، علما بأنه لن يلغي قناعتنا بحتمية انتصار الشعوب المقهورة، وقضاياها العادلة، وإيماننا بأن الخير في أمتنا باق إلى يوم الدين.

عن عرب 48

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *