الرّسالة الرّابعة عشر

عزيزي،

توقّفت عقاربُ السّاعةِ عن الدّوران، لا اللّيل سابقُ النّهارِ ولا النّهار يأتي.

في الموجةِ الثّانية من الوباء لا شيء حقيقيٌّ سوى الموت؛ إسطنبول كما القاهرة، غزة، بغداد، مدنٌ تصنعُ تاريخَ الهزيمةِ وتبحثُ عن البطلِ في هوامشِ الماضي حتى تمنحُ المريضَ قبلةً للحياةِ؛ الكلُّ يتبدّدُ في الشّتاء لا شيء غير البرد الذي يقطعُ أوصالكَ ويستقرُّ في روحكَ فلا ترى الفرقَ بين الملحِ والثّلج وطعم المنفى.

في ساعاتِ الحظرِ الطّويلةِ التي تسودُ صمتكَ تتوقّفُ الحياةُ لا شيء غيركَ، تهربُ مِن ضجيجكَ، فتخرجُ كُلُّ وحوشَ الأرضِ مِن مخبأها وتعيدُ ترتيبَ الصّمتِ مرّةً أُخرى.

ليس هناك مِن أحد، حتى الموسيقى تتلاشى.. فقط ظلُّكَ يصاحبكَ أينما مشيتَ في مسافاتِ الملحِ في روحِكَ.

كلّما طالَ منفاكَ ينكشفُ الضّبابُ لترى كما هو مفزعٌ هذا الوباء فالقتلى في كُلِّ مكانٍ يطلّونَ عليكَ عبر صفحاتِ الأصدقاء على وسائل التّواصل الاجتماعي فيما تبقى صفحاتهم خالية مِن التّدفقِ.

في الأمراضِ الوبائية،  كما في الحروبِ الماضية، كانت الجثثُ تُجمعُ في مستودعٍ كبيرٍ ليتمّ اضرام النّارِ بها حتى يُقتلُ المرضُ وتبترُ الذّكريات، أمّا في يومنا هذا فلا تقوى على حذفِ صفحاتهم في حسابِكَ الأزرقَ حتى تظلّ عالقاً معهم في متاهاتٍ افتراضيةٍ لا فكاك منها، حتى زهرة عباد الشّمس التي أخبرتُكَ عنها في رسائلي الاولى لم تقوَ على مواجهةِ البردِ وحظر التّجولِ في إسطنبول؛ ما الذي أصاب الورد في زماننا هذا؟

إنّه طريقُكَ وحدكَ قد يرافقك فيه أحدهم لفترةٍ من الوقتِ، لكن لن يُكملَهُ أحدٌ غيرك، ولا تنسى أنّك كنتَ تنجو بمفردكَ دائماً، ليس هناك سبباً واضحاً في رحلةِ عشتار سيدة السّماوات التي تركت عرشها السّماوي والهبوط إلى باطن الأرض- عالم الظّلمات والموت- ولم تُخبرنا الاختامُ الاسطوانيةُ لماذا كانت تخلعُ جزءاً من زينتها عند كلِّ درجةٍ حتى وصلت عاريةً إلى العالم السُّفلي، غير أنّها في اليومِ الثّالثِ شرعتْ في رحلةِ الصّعودِ وهي ترتدي ما خلعته في رحلةِ الهبوط! ما الذي كانت تريده سيّدةُ السّماءِ الثّامنة التي قهرت الموتَ بقواها الذّاتية وعادت إلى الحياة.

“لدي أطنانٌ مِن الكلامِ لك.. سأصمتُ كي تُصغي  إليّ جيداً” هكذا كتب الشّاعر على حائطه الأزرق ذاتَ مساء.

في الحياةِ تعلّم أنْ تكونَ قاسياً لا أحد يعلمُ ما أصابكَ ولا أحد يعلمُ كيفَ هي معركتك الخاصّة، لا أحد يعلمُ ما زعزعَ وقتلَ عفويتك، كم كافحتَ وكم خسرتَ، لا أحد يعلمُ حقّاً مَن أنتَ! لا تثق في أحدٍ، رغم ذاك تُعلّمُ الآخرينَ فضيلةَ الصّمتِ.

كان جدّي وحيداً يجلسُ صامتاً لا يسمحُ لأحدٍ أنْ يدخُلَ في غرفته، صغيرته فقط هي التي منحها حق في الولوجِ إلى صمته. كانَ يُعلّمني كيف انصتُ إلى قلبي فهو وحدهُ الذي سيُخبرني بحقيقةِ الأشياء.. كان يُقلّب الرّاديو كلَّ صباحٍ على محطّة البلاد تُعرفُ بـ “هنا اورشليم القدس”  كان يعرفُ أنّها إذاعةُ العدوِ، لكنّه كان يسمعُ منها رائحةَ البلادِ؛ يغمضُ عينيه لثوانٍ ويرى بلدتهُ “هربيا” في الأثير، وبعد أنْ يفتحَ عينيه ويرتشفُ الشّاي بالمريمية يحكي لي عن قريته وعن ناسها الذين كانوا يزرعون العنب وقصب السّكر، ويحكي لي عن سُكّانِها العرب والمصريين والخوارزميين الذين جنّدهم  نجم الدّين أيوب من بلاد القوقاز ليعزّزَ حكمهُ ضدَ أخيه وحاربوا معه وأقطعهم أراضي في قريتنا وعاشوا معنا وتزوّجوا منّا.

جدّي عرفَ أنّ قريته دمّرتها مليشيات الشّتيرن عام ١٩٤٨ وأُقيمتْ على أراضها مستوطنة “كرمي”، لكنّه ذاتَ يومٍ حين عاد في زيارةٍ إلى تلك القريةِ وجلب لي منها شتلة ياسمين وزرعها أمامَ بيتِ الشّتات.

“وانصتْ إلى قلبِكَ فهو يعرفُ كلَّ شيءٍ.. إذا أخبركَ يوماً أنْ شيئاً ما ليس على ما يُرام فلا تتجاهله”. كانوا يسمّونه “الشّاويش” وهناك مَن يُسمّيه “الجنجي” يخبرني جدّي أنّ أباه صالح كان شاويش في الجيش العثماني وكانَ أبيضَ الوجهِ ذا شعرٍ أحمرَ وعيون زرقاء، ربما كان من بقايا أولئك الصّلبيين الذين أحبّوا بلادنا فمنحتهم حياةً دافئةً.. وحين يعودُ في  كلِّ إجازةٍ إلى القريةِ كانت فتياتُ القريةِ يهمسنَ لبعضهن “اجي الجنجي اجي الجنجي” ويتساءلنَ “وينتا بدّو يتجوّز الشّاويش؟”.

جاء بعروسه من حيفا، عروس مِن المدينةِ، غريبة كما جدّي ويتيمةٌ مثله تماماً. في تاريخِ الملح لا يبحثُ النّاسُ عن البطلِ والبطولة ولا يصنعونَ من وردِ الملح اسطورتهم.. فقط يتعلّمونَ صناعة البقاء أحياءً.

في تركيا أتعلّم فنّ البقاء عبر البحثِ عن مدنٍ ترسمُ بعضاً من الحياةِ في روحي، في قونية يسكنُ الرّومي والتّبريزي ليستريحا قليلاً من ضجيجِ هذا العالم. في قونية، كلُّ شيءٍ ساكنٌ وهادئٌ.. هناك تشمُّ عبقَ اللهِ، وتراه وتشعرُ أنّه ينصتُ إليكَ جيداً ويكلّمكَ مِن كلِّ مكان فـ ” ما تبحثُ عنه يبحثُ عنك “.

في تلك المدينةِ، انتصرَ الجيش المصري على العثمانيين عام 1832م وأُسر الباشا العثماني وصارت الشّام تحت حكم محمد علي باشا.

كانت مدينة قونية مليئة باللاجئين من امبراطورية خوارزمي في القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر حيث فرَّ كثيرٌ من السّكانِ إلى قونية والشّام ودخلَ الكثيرُ منهم الإسلام وصاروا جنود مماليك حاربوا مع الايوبيين فاهداهم الولاة “هربيا” قرية جدّي.

بلغت قونية ذروة مجدها عندما كانت عاصمة السّلاجقة قبل الغزو المغولي؛ حين ترى نساء المدينة بزيّهنَّ الدّيني وترى القباب وتسمع صوت الأذانِ في كلِّ مكانٍ تشعرُ كأنّك تمشي في النّجف أو كربلاء، في طنطا أو الخليل.. المدن تشبه بعضها البعض. ظلّتْ قونية مكاناً آمناً للاجئين، منحت الغرباء السّلام والسّكينة، منحت مولانا جلال الدّين الرّومي بيتاً ومقاماً وغرباء.

“استمع إلى صوتِ النّاي كيف يقصّ حكايته.. كيف يشكو آلام الفِراق، منذُ قطعت من منبتِ الغابِ والنّاس رجالاً ونساءً يبكون لبكائي، إنني أنشد صدراً مزّقه الفِراق، حتى أشرح له ألم الاشتياق، فكلُّ إنسانٍ أقام بعيداً عن أصله، يظلُّ يبحثُ عن زمانِ وصلهِ؛ هكذا يستهلُّ مولانا في المثنوي، بهذه المفاتيح أسافرُ إلى قونية فتهديني علامة تلو الأُخرى منذ اللّحظة الاولى للوصول.

في قونية تتعلّمُ أنْ لا تبحث عن الأشخاصِ والأماكن، كما أنّك لا تحتاج إلى خرائطَ أو إلى محرّك البحث جوجل ولا حتى إلى لغة؛ هناك تعلّم أنْ تُصغي لصمتكَ وسترى كُلَّ ما تبحثُ عنه، ستجلسُ مع شمسكَ وتسكنُ في المثنوي، وتُكلّم الرّومي في حضرةِ الله، لا زمان ولا مكان، حتى تتوقفُ عقاربُ السّاعةِ. هناك، يؤنسك كُلُّ مَن رحلَ عنك، وما عليك سوى أنْ تشفى مِن جُرحك لوحدك حين تتخلى عن ما يؤلمك.. حينذاك، فقط، يتجلّى الله، يتلقّاك حين تحين النّهاية، فاتحاً لكَ ألفَ بابٍ.

لم تدُم زيارتي غير بضعةِ أيام، لكنّي لن أعودَ إلى قونية مرّة أُخرى،

يحدُثُ أنْ أكونَ في مكانٍ وقلبي في مكانٍ آخر.

عزيزي أحتاج إلى أنْ أختفي كي لا يعثرُ علينا أحدٌ، فهل تنتظرني حتى أراني؟.

#رسائل_العزل

#سفربرلكالأخيرة

#رسائل_المنفى

 

 

About The Author

1 thought on “الرّسالة الرّابعة عشر

  1. يا له من نص جميل غاية في الروعة والابداع….إنه نص ادبي بامتياز.ولغة صريحة مباشره كنظم القصائد. هكذا وجدته صدفه…اغراني جدا لاكمل القراءة، رغم اني عائد من يوم عمل شاق وطويل…. من فضلك اكتبي اكثر…..
    آمين الكلح_كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *