أنقلب يومي، إذ لا الصّبحُ صار صُبحاً ولا اللّيل ضبطَ ساعةُ المنبّهِ لينجلي. أيامٌ طويلةٌ قضيتها داخل سريري والطّقس حارٌّ، لا أرى سوى شباك تتسلّلُ من خلاله نسمة من الهواء. حاولتُ أنْ أتخذَ الوضعَ الجنيني كلّ ليلةٍ لاحمي عقلي وجسدي، ولكن لا أراه يُجدي نفعاً. فقط الحاجةُ الوحشيةُ إلى هدوء يُعيدني إلى ذاتي من تيهكَ الدّائم.
أتعرفُ يا صديقي أنّ الهدوء وهمٌ سمعي، لذا روّضت نفسي خلال المنفى على الهدوء النّسبي، ذلك الوهم الذي يُدجنُ الوحش بداخلنا، ويحمينا من جنونِ ذاكرةٍ عصى عليها المحو.
لا يزالُ طعمُ القهوةِ التركيةِ في فمي، أرشفُ معها كلَّ المحو الذي مارسه العثمانلية في ثقافتنا. وها أنا أشتريها، بعد سبعة أشهرٍ من وجودي القسري، من البائعِ السّوري الذي يقوم بطحنها خصّيصاً لي كما عودتني جدّتي، إذ أجدُني أُحبّها سوداء دون هيل.. دون زيف.
توقّفتُ عن قراءة خرائط غوغل التي تُصيبني بالجنونِ، واكتفيت بغرفتي وسجائري، وبحثتُ في قائمة كتبي الرّقمية عن كلِّ ما هو صعبٌ لأيماني بأنّ الشّيء الغامضَ هو ما لا نفهمه: سيكولوجيا المقهورين، الاستشراق، الاسطورة عند افلاطون، الفلسفة السّياسية عند هيجل، اللامنتمي، المعذبون في الارض، بيداغوجيا المضطهدين، واتنقّلُ بين الصّفحات الالكترونية بحثاً عن شيء ما.
نسيتُ أنْ أُخبرَك أنّ رائحةَ الورقِ تُغريني أكثر من حبيبي، أنا أيضا أُحبّ الشّعر مثلك، لكنّي أُحبُّ ملمسَ الكلماتِ في الورقِ، صار محمود درويش يُعذّبني بلونه الأزرق، وهذا بيكاسو لا يخرجُ مُطلقاً من زرقته، أما سيوران فهو مَن لوّنَ ذلك البحر الذي بات يرافقُ أحلامي علّني أستيقظُ يوماً لأراه يشربُ القهوة معي في شُرفةِ منزلي في حي المبتديان بالسّيدة زينب.
نسيتُ أنْ أخبرَكَ أيضاً أنّ في هذه المدينةِ الكثير مِنَ الأكاذيبِ التي استقرّتْ في الذّهنِ وباتت معلومةً من الحياة بالضّرورة: الجبنة التركية، القهوة التركية، والعرق التركي وغيرها الكثير.. ففي تركيا هجين مِن الكلماتِ التي شكّلتْ عبر الحقبة الاتاتوركية قاموساً قائماً بذاته ولذاته كما أولئك العابرين الذين استوطنوا البلاد.
هنا وهناك فاوضَوا اللهُ على بقرة، وعاقبَ الفلستيين على يدِ شمشون الذي استمر يتردّدُ على المدنِ الفلستية ليقتلَ مزيداً منهم، هناك وبحسب الخطة الإلهية لتدمير الفلستيين، حرقَ مزارعهم، بواسطة 300 ذئب، ربط في ذيولها مشاعل وأطلقها لتنشرَ النّار في مروجِ القمحِ وقتل أكثر من 3000 منهم. وحين دخلَ غزّة في أحد الأيام متخفياً، تعرّف على فتاةٍ تُدعى دليلة، لم تلبث أنْ أصبحتْ معشوقتهُ، ونقطة ضعفه في آن.
تمكّن الفلستيون من القبضِ عليه، وحرقوا عينيه بالنّار، ثم ربطوه إلى رحى طحن الحنطة حتى يحينُ موعد تقديمه قرباناً في معبد الإله “داچون”. يفاجئ البطل التوراتي الجميع ويحطّمُ قيده، ويضغط بيديه على أعمدةِ المعبدِ الضّخمِ، صارخاً: “عليّ وعلى أعدائي يا رب”.
أتتْ الشّرطةُ إلى بيتي يوماً لتُخبرني بأنّ الجيران يعتقدونَ بأنّني في شجارٍ مع أحد ما، فسمحتُ للشّرطي بالدّخولِ إلى البيت ليرى بنفسِه أنّني أعيش لوحدي، كان بلاغاً كاذباً دون شكّ.. مَن يدري! ربما كنتُ أتعارك مع نفسي خلال ذلك العزل الاختياري! إنّهم يخافون المجهول، وها أنا الغريبة في ديارهم. الغريب الذي ينبغي التّحقق من هويته والتّعرف على آثاره، وإلا سيكون نقطة عمياء أُخرى في سلامِ الواهم.
الخوفُ هو الوحشُ السّاكنُ في الرّوحِ، علينا مواجهة هذا الوحش – كما أخبرتني- حيث النّظر في المرايا لا يحملُ المفاجئات ولا حتى المصادفات. أنا الذي حدثتك دائمًا عن خوفي مِن الوقوفِ على الحافة.
نحن نعرفُ سلفاً ماذا ينتظرنا على المرآة، قطعة لحم فظّة ومظلمة “وجهنا القديم الأبدي”. أما ما يحرّك حمأ القعر ويمزّق السّطوح النّاعمة من ألوانِ القتلِ والعشقِ والجنونِ والأحداثِ الكبرى والولاداتِ فهو خلفنا أو خلف المرآة.
في خطبة الهندي الأحمر يخبرنا الشّاعر “سَتنقصكُم هُدْنَةً مَعَ أشباحِنا في ليالي الشّتاء الْعقيمة، وشمساً أقلّ اشتعالاً، وبدراً أقلّ اكتمالاً، لتبدو الجريمة أقَلّ احتفالاً على شاشَة السّينما، فَخُذوا وقتَكُم لكَي تَقتُلوا الله.. وُلدنا هُنا بين ماءٍ ونارٍ.. ونولَدُ ثانيةً في الغُيوم”.
أُختلقت قصة شمشون “رجل الشّمس” وحمُّلتْ الكثير من المبالغاتِ لتكونَ سلوانا للقبائلِ العابرة التي لم تتمكن يوماً مِن هزيمةِ أهل البلاد، وهذا ما دفع بالمؤرخين للتّحقيق في صحّة جذر القصة، فرجّحوا كونها حكاية شعبية وجدت طريقها إلى الكتاب المقدس في عهد “عزرا” كاتب التّوراة، فترة السّبي البابلي.
اختار العابرون أنْ ينتصروا في الحكايا الشّعبية ثم يقدّسونها لتحلّ محل الواقعِ الصّعبِ، فيصبحُ الكذب جزء أساسياً من نسيجِ المقهورين، ويعمّم كلّ العلاقات: كذبٌ في الصّداقةِ، كذبٌ في الايمان، كذبٌ في ادعاء القيمِ السّاميةِ، كذبٌ في الحبِّ والزّواج .
تتشابه قصة القاضي شمشون مع قصّةِ البطل البابلي “إنكيدو” من حيث صلة اسمه بالشّمسِ، ومن حيث صلة اسم المرأة التي شكّلتْ نقطةَ ضعفهِ باللّيل، فاسم دليلة أيضاً مرتبطٌ بالكلمةِ العبرية المرادفةِ لليل “ليلا”، و “قاضي / شوفيط” هنا لا تنصرفُ إلى المعنى المعروف للكلمةِ بمعني الزّعيم وفقاً للّغة العبرية، إنّما يعودُ جذرها إلى الآرامية “شفط/شوفطنا” أي النّذل السّاقط، وهي أقربُ ما تكونُ إلى الكلمةِ العاميّةِ “الشّبيح أو الأزعر أو البلطجي” على اختلاف اللّهجات.
وفي الذّاكرةِ الجمعيةِ للشّعبِ التّركي بطلاً شعبياً يُدعى حكيم أوغلوا، فعلى الرّغم من أنّه أُعدِمَ رمياً بالرّصاص في فلسطين في بداية القرن العشرين، فقد كان حالماً متمرداً مناكفاً ومقاوماً لظّلمِ الأفندية والبكوات العثمانيين في البلاد، ويقولون تمرّد قلبهُ عليه، فسكنَ الجبال وكوّنَ جماعةً مسلحةً من المغاويرِ الشّبابِ والفلاحين والفارّين مِن التّجنيدِ الاجباري في حروبِ القرم واليونان.
هناك دوّنت النّساء حكاية “مشعل” الذي ثارَ على قانونِ التّجنيدِ الإجباري الذي فرضتهُ الدّولة العثمانية، فرّ مشعل وتخفّى في المزارعِ والكهوفِ والجبال، وظلّ مُطارداً حتى ألقى القبضَ عليه رجلُ الدّولة التّركي وساقه إلى الجنديةِ، ومن ثمّ نقله في القطارِ إلى جبهةِ القتالِ، ورغم أنّ مشعل قدّمَ للرّجلِ التركي مجيدية ذهب ليتركه وشأنهُ، لكنّهُ أخذَ المجيدية وساقه للعسكريةِ وسط بكاء الأطفال وعويل النّساء.
أوغلو ومشعل متلازمان للبطل الشّعبي الذي قُتلَ أو غابَ، فكيف ترسمُ حكايتنا تاريخاً لحزنٍ لا ينتهي.. ففي حالتنا علّمتنا الحربَ أنْ نقولَ كلَّ شيءٍ بلا زيادة أو نقصان، أنْ نقولَ الحكايةَ بالقليلِ من الكلامِ، ويكون الايجاز بديلاً عن الحقيقة.
تلك الحقيقة التي تجعلُ من الفلسطيني أنْ يكونَ مُصاباً بالذّاكرةِ وأنْ يروي لوحده تاريخَ الحزنِ والهزيمة، أنْ يخطبَ لنفسهِ، ويشاهدَ نفسه ويعيشَ ويكتبَ محاولاً أنْ يجدَ نفسه في وقتٍ واحدٍ على خشبةِ المسرحِ وبين صفوفِ المشاهدينَ، يصفّقُ وحده على مصائبنا التي مضتْ، وأوجاعنا التي تمضي.
جفّتْ زهرةُ عبّادِ الشّمسِ التي اشتريتها في زمنِ العزلِ من رجلِ الوردِ التركي الذي مات بسببِ الوباء، وتوقّفتَ أنتَ عن الحديثِ معي بعد أصابتِكَ بالجائحة، فيما نجوتُ أنا مؤقتاً مِن الموتِ لأفسحَ مكاناً لسجينٍ أخرَ في بلادنا.
في غرفتي الوحيدة، يكونُ العداءُ نحو المحيطِ هي سمتي الآنيّة.. سلاحي الوحيدُ للّدفاعِ عن تاريخِ هنا وجغرافية هناك.. هذه السّمة هي التي تُبقي الذّاكرة طازجة، إنّها حيلةٌ أخرى من آليّاتِ الدّفاعِ عن النّفسِ، تلك التي يستخدمها المقهورون. لعلّ غُفران اللهِ لتطاولي وغبائي والتزامي الاخلاقي نحو الأقل حظّاً بدأ يتلاشى.. لم يعد يؤرّقني عدد الذين ماتوا بسببِ الوباء أو بسببِ الخوف منه، ولم أعُد أهتم باحتجاجات السّود في أمريكا، ولا التّجارب السّريرية لمصلِ الكورونا في افريقيا، ولا حروب الفضاءات الكونية، ولا خطورة زيادة رُقعة طبقة الاوزون، ولا دفاع الصّينيين عن ثقافتهم الغذائية حول براءة حساء الخفافيش، لهم دينهم ولي ديني.
كتب كرستوفر مارلو في مسرحية “تيمورلنك العظيم” على لسان تيمورلنك فاتح آسيا الوسطى وهو على فراش الموت: “أعطني خارطة، ثم أرني كم تبقى لي لإتمام فتح العالم بأسره”، فالخارطةُ هي التي تقولُ الحقيقة بإيجاز وأن تموت عارفاً.
#رسائلسفربرلك
#رسائلالعزلوالوباء