الرقص على صفيحٍ متحرّك الواقع السياسي العربي في إسرائيل، مآلات التأثير في نظام يعيد تشكيل ذاته    

تشكّل الانتخابات الرابعة في إسرائيل صولة أخرى في المخاض المتعسّر لنظام يعيد تشكيل ذاته. إنها أزمة حقيقية لم تشهدها إسرائيل منذ تأسيسها، تتمثل في تصادم حاد بين أركان النظام ذاته. وحتى لو ظل طافياً على السطح الفرز المعهود بين يمين ويسار، ولكن ما يُخفى من صدام، هو بين قطبين مختلفين، يحاربان على وجه إسرائيل ووجهتها. يقود الأول بنيامين نتنياهو ذو “النزعة الملكية السُلطانية” المستأثر بالحكم بكل ما يحمله من توجه “رعوي” للمواطنين ومنظومة متكاملة من أدوات الضبط والسيطرة والإقصاء للتابعين والخصوم؛ والثاني، مؤسسات الدولة التي تشكل عصب الدولة وعمودها الفقري (أو ما يطلق عليها عادة، “الدولة العميقة”)، وأهمها القضاء والشرطة والنيابة العامة وأجهزة الأمن والجيش، وهي مؤسسات غير منتخبة تمتلك من القوة ما يمكنها من مناطحة رأس الدولة، وتسيير أمرها، تيسيره وتعسيره.

على هذا الصفيح المتحرك، تبحث الحزبية العربية عن دور ومكان. بين “إسقاط نتنياهو” و “تحقيق انجازات عينية”، تحوم جميعا حول خطاب “التأثير” حصراً. ويمكن تفهم دوافع هذا التوجه في سياق التهميش والإقصاء المتعمدين الذي يعانيه العرب الفلسطينيون في إسرائيل على مدار عقود. ومع ذلك، فمسعى التأثير هذا لا يمكن أن يشكل مشروعاً سياسياً ولا حتى شعاراً، لأنه من بديهيات العمل السياسي، وفي أن انعدامه أو قلته هو شهادة وفاة للحزبية وأهدافها. لا خلاف ولا اختلاف على التأثير كمبدأ تضمنه حقوق المواطنة، ولكن السؤال، بأية طريقة؟ ما ثمنه؟ وما هي مآلاته؟ فبين الانحسار في خيارات يسار مُفكك منهار وخيار الاستعداد الى القفز الى أحضان اليمين، مخاطر استراتيجية بعيدة المدى قد تظهر نتائجها تباعا في قادم الأيام.

أولها، طريق جهنم المفروش بالورود: المناورة بحقوق المواطنة ذاتها وخدماتها: قد يبدو التركيز على قضايا حياتية معيشية، ومشاكل حارقة يعانيها العرب، مطلب الساعة وتوجها “أليفا” يحظى بإجماع عربي واسرائيلي، كما يظهر حله مُتاحاً وواقعيّاً لو ما تنازلت الأحزاب العربية عن سقفها الوطني “المرتفع”، وقدمت تنازلات في ميادين أخرى؛ إنها أشبه بقطعة جبن سويسرية في فوهة فخٍّ مُحكم. فحتى لو قاد هذا التوجه الى تحقيق بعض المكاسب في المدى المنظور، وبعيداً عن السقف الاستراتيجي للالتحام العضوي للعرب الفلسطينيين في إسرائيل بالشعب الفلسطيني والعالمين العربي والإسلامي؛ ولكن حتى تكتيكياً، يشكل هذا التوجه خطراً داهماً ومنحدراً ستنزلق اليه الحزبية العربية بلا فرامل. فالأزمات التي يعانيها العرب، ومنها العنف والجريمة والمسكن والأرض هي مسؤوليات يتحمل نظام الدولة معالجتها بالكامل، وله المسؤولية المباشرة الحصرية في التسبب والمنع. لقد أثبتت التجارب التاريخية في ميادين أخرى أن المناورة بالحقوق، وخصوصا المعيشية منها، لم تؤد الا الى خفض السقف الوطني والى المزيد من الانتكاسات المعيشية، والى تكريس الأزمات ذاتها، وخلق أزمات جديدة تنتظر المناورة، فيما ميَّعت المسؤولية المباشرة عن وقوعها، وخلقت شريحة من النخب التي تكسب شرعية وجودها وامتيازاتها من وجود الأزمات ذاتها وتكريسها.

لقد نجح الخطاب الاسرائيلي في دفع الحزبية العربية الى خانة القضايا المعيشية للمواطنين، على أهميتها، وهي بذلك تفقد موطن قوتها الأول والرئيس. فالعيش الكريم سيظل مبتوراً بمعزل عن دوائر الانتماء الوطنية والقومية والدينية والانسانية التي ينتمي لها الإنسان العربي، وتشكل الأحزاب العربية مظلتها ودفيئتها، والتي إن تراخت أكثر، فإنها ستزيد من حالات الاغتراب والتيه حتى عن الواقع المعاش وليس العكس.

قد يبدو للوهلة الأولى النموذج “الحريدي” في إسرائيل، وهو نموذج انتهازي بامتياز، مثالا ناجحا لانتزاع الميزانيات، ولكنه في العمق، نموذج بائس لتكريس واقع الاغتراب والتعلق والتيه لجمهور مؤيديه، وتمثيل سلبي للأهداف التي قامت من أجلها هذه الأحزاب. فالكيانية الذاتية ليست هدفا بحد ذاتها، خصوصا إذا ما جاءت على حساب الكينونة، المنظومة القيمية والروح. فالأحزاب الحريدية وإن حظيت بنوع من الاستقلالية في تسيير أمورها، فإنها قد ضربت قدس أقداس عقيدتها الدينية وأهمها تلك المتمثلة بوجوب اقامة دولة اليهود عند قدوم “المشيح” حصرا، جذر المعتقد اليهودي الديني؛ فعلى أرض الواقع، تصهينت هذه الأحزاب، ثم انضوت لاحقا على يمين قطب “النزعة الملكية”، مع علمها بفساده، ففسدت هي ولم تتورع عن منح الغطاء الديني لكل تلك التجاوزات.

يضاف الى ذلك، أن الإحجام عن السياقات الوطنية القومية والدينية، والتركيز على “الخدمات”، هي الوصفة المجرَّبة ونقطة الارتكاز لمن هذا هو ميدانهم وتلك هي خيلهم وذاك هو سيفهم، بالعودة غير المحمودة لحقبة “عرب المَبايْ”، الشخصيات العربية المتنفِّذة قطريّاً والتي ربطت مصيرها وامتيازاتها بالأحزاب الصهيونية وجلّ تفويضها ضرب الحركة الوطنية وكوادرها، وتلك حقبة تاريخية استنزفت الحركة الوطنية العربية لأكثر من أربعين عاما، وشكل انكفاء هذه الظاهرة عن المشهد السياسي العربي، من أهم الإنجازات التي حققتها الحركة الوطنية العربية بكافة مركباتها منذ العام 1948.

أمام هذا المشهد، ثمة تحديات مركزية ثلاثة ستحدد مصير الواقع السياسي العربي في إسرائيل:

الأول، مأسسة العمل السياسي: فالمسيرة السياسية العربية والفلسطينية عموما لم تنجح في بلورة نهج سياسي ممؤسس اذ ارتكزت في غالبها على شخصنة الحيِّز العام واحتكاره. والمأسسة لا تعني حصراً تبديل الوجوه، ولكن بتبديل المعتقد السائد بأن القائد الشخص هو سقف المنظومة السياسية وليس جزءا مركبا منها. هذا المعتقد بالتحديد الذي تحكم بسلوك مختار القرية، ورئيس الحزب ورئيس الدولة، هو ما يجيز لهؤلاء تحجيم وتفصيل القضية العامة على المقاس الشخصي وليس العكس. وبين خياري “القائد النجم”، “والمؤسسة السياسية”، لا شك بأن الأخيرة هي الوحيدة القادرة على تقديم الإجابات الشافية لقضايا استراتيجية جامعة. قد تفيد النزعة الاحتكارية الذاتية للأحزاب بالعمل الى أجل مسمى حسب القاعدة الفلاحية الشهيرة “الفزعة”، ولكنها لا تفيد تلك الأزمان التي تتطلب إحلال التغيير والتخطيط المجتمعي والوطني بعيد الأمد. وعليه، فإن تأطير الفلسطينيين في اسرائيل ضمن هيئة عليا تمثيلية منتخبة (لجنة المتابعة العليا كنقطة ارتكاز) ستمثل ضمانة للثوابت الوطنية والسقف الوطني من أية منزلقات محتملة، وانبثاق مؤسسات اختصاصية اقتصادية وقانونية ومجتمعية وثقافية تكون حاضرة في مختلف الميادين. في هذا السياق، إن أية محاولة انفرادية احتكارية لمواجهة ظاهرة العنف والجريمة بعيدا عن خطة يسودها الاجماع الوطني وترتكز الى قاعدة مؤسساتية جماعية، ستظل في إطار الاستهلاك الإعلامي ليس إلا.

الثاني: التجديد الفكري وتوسعة دائرة البدائل السياسية. لعل الجمود التي وصلت اليه الحزبية العربية كان سببا في العجز عن التشخيص وعدم تطوير الطرح والأداء، وتطوير أدوات وآليات عمل سياسية خارجة عن المألوف. وقد لا تصيب جميع الأدوات والآليات الجديدة، ولكن التجدد الفكري سيكون كفيلا بقراءة سريعة للحدث، وبالتالي باستجابة سريعة لتعديل المسار. فالخروج من حضن اليسار، على سبيل المثال، لا يعني الارتماء بحضن اليمين الاستيطاني. ثمة بديل قد يفي ذات التوجه ولكن بدون أن يكون وصمة في تاريخ الحركة الوطنية، التلويح والاستعداد لمقاطعة الانتخابات كخطوة تكتيكية على الأقل، وهي ورقة لا تستعد الحزبية العربية لرفعها حتى هذه اللحظة. التوجه الى القضاء، التمكين الاقتصادي العربي، تعزيز المنظومة القيمية العربية، وتطوير خطاب دولي حقوقي، العمق الفلسطيني العربي والاسلامي، كلها ادوات يمكن تطويرها والاستفادة منها في السياق السياسي العام.

الثالث: تعزيز الحضور لا الوجود، عبر تواجد الأحزاب في الميادين. فللحزب السياسي دور مركزي في حياة البشرية جمعاء، ودور مضاعف، في حال غياب السلطة المركزية أو استهدافها، وله دور رئيس في حفظ دوائر الانتماء الوطني والقومي والديني خصوصا في حال وجود مشاريع تصفوية لإلغاء الكيان والتاريخ، الجذور والمدى، كما يشكل صمام أمان مجتمعي لحالات تنهار فيها منظومة القيم وتترهل فيه نظم مجتمعية كالعائلة الموسعة والقرية.

لو نجحت الحزبية العربية في هذه التحديات، ستكون قادرة على لعب الدور السياسي المؤثر ضمن الحفاظ على الثوابت الوطنية، وستوفر الإجابات الشافية على الصعيد المعيشي، مع الحفاظ على دوائر الانتماء الوطني القومي والديني.

اللوحة للفنان الفلسطيني الراحل اسماعيل شموط

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *