الرقابة على الرواية الفلسطينية في الفضاء الرقمي

مقدمة

ترافق حملة الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، والتي خلّفت أكثر من 230 ألف شهيد وجريح ودمرت أكثر من 92% من المباني السكنية،[1] معركة أُخرى في الفضاء الرقمي. فقد لجأ الفلسطينيون والمناصرون للحقوق الفلسطينية إلى منصات التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك وإنستغرام وإكس وتيك توك وغيرها من المنصات، لتوثيق جرائم الاحتلال ووقائع حياتهم اليومية تحت الإبادة، وتوعية الشعوب الأُخرى بما يحدث في قطاع غزة، والتعبير عن مشاعر الغضب والخوف والجوع، وطلب المساعدة والمعونة.

لقد منحت منصات التواصل الاجتماعي مساحة غير مسبوقة لعرض الرواية الفلسطينية على العالم مباشرة من الضحايا أنفسهم، بعد أن جرى إقصاؤهم تاريخياً من جانب وسائل الإعلام الرئيسية (Mainstream Media) وتحديداً الغربية.[2]

تكتسب منصات التواصل الاجتماعي أهمية خاصة في السياق الفلسطيني، إذ تمثل مساحة بديلة للفلسطينيين للتعبير والتواصل في ظل تهميش أصواتهم في وسائل الإعلام الغربية الرئيسية، التي غالباً ما تتبنى الرواية الإسرائيلية أو تتجاهل الرواية الفلسطينية. وتزداد هذه الأهمية في ضوء امتلاك إسرائيل قدرات وموارد إعلامية ضخمة تمكّنها من تعميم سرديتها عالمياً، في مقابل محدودية وصول الفلسطينيين إلى المنابر الإعلامية الكبرى.

كما أن الشرذمة الجغرافية التي يفرضها الاحتلال داخل فلسطين التاريخية، إلى جانب إجراءات القمع والتقييد التي تحد من النشاط السياسي على الأرض، تدفع الفلسطينيين إلى استخدام الفضاء الرقمي كـملاذ أخير لممارسة النشاط السياسي وتعميم روايتهم إلى العالم.[3] ومن المثبت اليوم في العديد من الدراسات والأبحاث أن منصات التواصل الاجتماعي تؤدي دوراً محورياً في الحشد والمناصرة والتوعية بالقضايا السياسية والحقوقية، بما في ذلك القضية الفلسطينية، إذ تعد أدوات أساسية في نشر الرواية الفلسطينية، وكشف ممارسات الاحتلال، والتأثير في الرأي العام العالمي، فضلاً عن كونها وسيلة فعالة للضغط والمناصرة من أجل تغيير السياسات والمواقف الرسمية تجاه قضايا العدالة وحقوق الإنسان.[4]

ولا تخلو منصات التواصل الاجتماعي من علاقات القوة والصراعات وسيطرة الدول الاستعمارية، لذلك لم تكن التجربة الرقمية الفلسطينية استثناءً. إذ تحمل منصات التواصل الاجتماعي في تصميمها مصالح وتصورات الدول الاستعمارية حول العالم، ولا سيما الولايات المتحدة. ولأن المنصات الرقمية تعكس العالم الواقعي بصراعاته وتضارب المصالح والروايات التي تكتنفه، وبما يحمله من أشكال القمع والإسكات والعنف والتمييز في الواقع السياسي، وخصوصاً تجاه الشعوب المضطهدة مثل الشعب الفلسطيني في مقابل الدول الاستعمارية، فإن هذا ما سنوضحه في تحليلنا أدناه.

تأطير نظري/تاريخي

تملك منصات التواصل الاجتماعي اليد العليا فيما يتعلق بصراع الروايات والإقصاء على المنصات الرقمية، إذ تحكمها سياسات إدارة المحتوى أو معايير المجتمع لكل منصة، وهي التي تحدد، ببساطة، ما يبقى على المنصات وما يُزال أو يُقلَّص وصوله إلى المستخدمين. ويعود أصل استهداف المحتوى والرواية الفلسطينية على هذه المنصات إلى السياسات التي تحكم عملية إدارة المحتوى في المنصات المختلفة، حيث تنفَّذ هذه السياسات آلياً من خلال نماذج لغوية كبيرة تتخذ قرارات بشأن بقاء أو إزالة محتوى/حساب أو تقليل وصوليته، وفي مستويات أُخرى تتخذ قرارات بشرية بعد مراجعة المحتوى.

ولعل أبرز إشكالية تتعلق بسياسات منصات التواصل الاجتماعي هي أنها نشأت وأُقرت في سياق غربي وأميركي بالأساس، وتُطبَّق على العالم بأسره من دون الأخذ في الاعتبار السياقات المحلية والاختلافات الثقافية والتنوع الاجتماعي والسياسي والتاريخي لشعوب ودول العالم.

يوضح مايكل كويت أن الولايات المتحدة طورت شكلاً جديداً من الاستعمار سمّاه “الاستعمار الرقمي”، تنهب من خلاله العائدات الرقمية للشعوب الأُخرى، لكن الأهم من ذلك هو تحكّمها في الخطابات السياسية داخل الفضاء الرقمي، وتحديدها لأنواع المحتوى والروايات المسموح بها وغير المسموح بها وفقاً لمصالحها وقيمها وتصوراتها للعالم، بحكم امتلاكها للبنية التحتية الرقمية التي يقوم عليها العالم بأكمله.[5]

وانعكاساً لذلك، فإن سياسات منصات التواصل الاجتماعي نشأت من أحشاء النظام السياسي والبيئة القانونية الأميركية، وتمثل بذلك القيم والمفاهيم الأميركية للحريات والحقوق والإرهاب والعنف وغيرها. وعلى صعيد أضيق، تعبر عن قيم ومصالح الإدارات الأميركية وتصورها للعالم، وهو ما سيبرز بشكل أكثر فجاجة مع وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم للمرة الثانية.

إن التحولات السياسية في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية، مع وصول اليمين المحافظ إلى السلطة، تلقي بظلالها مباشرة على سياسات منصات التواصل الاجتماعي وطريقة معالجتها للروايات السياسية المتنوعة. فقد عمدت كبرى شركات التواصل الاجتماعي إلى تغيير سياساتها بما يتلاءم مع الرؤية الأيديولوجية لترامب، ولعل أبرز مثال على ذلك التغييرات التي أجرتها شركة ميتا استعداداً لوصوله إلى الحكم، تناغماً مع أجندته السياسية المحافظة. ومن نافل القول إن هذه التغييرات لن تمس السياق الأميركي المحلي فحسب، بل تطبق على العالم بأسره، بما في ذلك فلسطين. ومن أبرز هذه التغييرات تقليل الاعتماد على الإدارة المؤتمتة للمحتوى بهدف منح مزيد من الحرية للخطابات السياسية اليمينية والمحافظة، وتعديل سياسة خطاب الكراهية بطريقة تسمح بخطابات كانت تعدُّ سابقاً من ضمن خطابات الكراهية، والتحول إلى نموذج “ملاحظات المجتمع” في مواجهة المعلومات المضللة، وكذلك تعهد مارك زوكربرغ بالتعاون مع الإدارة الأميركية لمواجهة الضغوط الحكومية (ويقصد بها الحكومات الأوروبية الليبرالية) التي تسعى إلى ضبط تغول منصات التواصل وإخضاعها للقوانين المحلية.

إن تموضع شركات التواصل الاجتماعي بهذه السرعة ضمن معسكر اليمين المحافظ، وخضوعها السريع للإدارة الأميركية الجديدة التي كانت ترى في المنصات أبواقاً للخطاب الليبرالي، يزيد الأمور تعقيداً، ويثبت طبيعة العلاقة البنيوية بين السياسات الاستعمارية الغربية وكبرى الشركات الرقمية التي تتحكم بالروايات في الفضاء الرقمي، بطريقة تضمن هيمنة الروايات الاستعمارية وإسكات روايات الشعوب المستعمَرة.[6]

وفي هذا السياق، تمتلك الحكومة الإسرائيلية قدرة كبيرة على التأثير والضغط في مختلف منصات التواصل الاجتماعي، ويعود ذلك إلى العلاقة السياسية الاستثنائية التي تربطها بالولايات المتحدة الأميركية، وإلى نفوذها الواسع في مراكز صناعة القرار الأميركية وفي مجمل الحياة السياسية هناك.

كما أن إسرائيل، بوصفها سوقاً ودولة متقدمة في مجال التكنولوجيا، تشكل محور مصالح مباشرة لكبرى الشركات العالمية، إذ استحوذت العديد من شركات التواصل الاجتماعي على شركات تكنولوجيا ناشئة إسرائيلية، وتمتلك جميع هذه الشركات مراكز لها داخل أراضي عام 1948.

إلى ذلك، تتمتع إسرائيل بنفوذ داخلي داخل هذه الشركات من خلال موظفين إسرائيليين أو داعمين لها، يشغل كثيرون منهم مواقع صنع القرار، وكذلك من خلال جوردانا كاتلر، مسؤولة السياسات الخاصة بإسرائيل والمجتمعات اليهودية في شركة ميتا.[7] وهذا ما يفسر النسبة العالية من الاستجابة لطلبات إزالة المحتوى التي ترسلها إسرائيل إلى مختلف منصات التواصل الاجتماعي، إذ استجابت شركة ميتا بشكل إيجابي لما نسبته 94% من طلبات الإزالة الطوعية المقدمة من الجانب الإسرائيلي،[8] في حين استجابت منصة تيك توك إلى 87% من الطلبات.[9]

وهو ما أوضحته كوستانزا تشوك في توصيفها لتصميم البنية التحتية لمنصات التواصل الاجتماعي، إذ أشارت إلى أن تصميم البنى الرقمية ليس مسألة تقنية فحسب، بل يعكس في جوهره مصالح من يمتلكون السلطة في مقابل الفئات المستضعفة والمهمشة، من خلال التحكم بما هو مسموح أو ممنوع في الفضاء الرقمي.[10] ولذلك، تحولت منصات التواصل الاجتماعي في السياق الفلسطيني–الإسرائيلي إلى مساحة لإقصاء وإسكات الطرف الأضعف، أي الفلسطينيين، في مقابل إبراز الرواية الإسرائيلية وإظهارها، على الرغم من طابعها العنيف في كثير من الحالات.

ولعل أحدث مثال على الدور الوظيفي الذي تؤديه شركات التكنولوجيا الكبرى كأدوات استعمارية جديدة، هو اعتراف بنيامين نتنياهو قبل أيام قليلة (في نهاية أيلول/سبتمبر 2025) أمام مجموعة من المؤثرين الأميركيين الشباب على منصات التواصل الاجتماعي، بأن هذه المنصات تمثل “أهم سلاح” للحفاظ على دعم المجتمع الأميركي لإسرائيل. وقد تطرق نتنياهو في حديثه إلى صفقة شراء منصة تيك توك من قبل رجال أعمال أميركيين بعد ضغوط وتهديدات أميركية وُجهت إلى المنصة بحجة سماحها بانتشار الرواية الفلسطينية “المعادية لإسرائيل”، مشيراً بوضوح إلى أن هذه الصفقة تعدُّ مفيدة جداً لإسرائيل.[11]

يتحدى ملايين المناصرين للحقوق الفلسطينية حول العالم الهيمنة الرقمية لمنصات التواصل الاجتماعي من خلال نشر محتوى داعم للفلسطينيين وتوضيح الانتهاكات الممارسة ضدهم. وتنخرط في هذا السياق العديد من المؤسسات الحقوقية، سواء الفلسطينية مثل “حملة”، أو الإقليمية مثل سمكس (SMEX)، أو الدولية مثل أكسس ناو (Access Now)، في جهود لرصد وتوثيق مظاهر التمييز والتحيز في إدارة المحتوى على هذه المنصات، بما في ذلك حذف المنشورات، وتقييد الحسابات، وتقليص وصولية المحتوى الفلسطيني.

وتعدُّ هذه الجهود أدوات مناصرة قائمة على الأدلة، تهدف إلى الضغط على المنصات لتغيير سياساتها وإجراءاتها في إدارة المحتوى، كما يفعل مركز “حملة” على سبيل المثال. وإلى جانب هذا الضغط الخارجي، تساهم مجموعات من العاملين داخل الشركات نفسها في ممارسة ضغط داخلي لإعادة هيكلة سياسات إدارة المحتوى، بما يضمن تحقيق العدالة الرقمية وغياب التمييز ضد المحتوى الفلسطيني.

وهكذا تتقاطع الجهود الخارجية والداخلية لإحداث تغيير هيكلي في البنية التحتية الرقمية، بحيث تتحول المنصات من أدوات لتراكم السلطة والتحكم بالخطاب السياسي بيد الحكومات والدول الاستعمارية، إلى فضاءات أكثر عدالة وحرية، تتيح للفئات المهمشة والشعوب المتأثرة بالسياسات القمعية التعبير عن رواياتها والمشاركة في النقاش العام.

ويمكن تأطير هذا النضال ضمن إطار نظرية العدالة التصميمية، التي تؤكد أن تصميم البنية التحتية الرقمية ليس فعلاً تقنياً محايداً، بل هو فعل سياسي واجتماعي يعكس مصالح من يمتلكون السلطة على حساب المجتمعات المهمشة، ما يجعل المقاومة الرقمية وسيلة لإعادة توزيع السلطة في الفضاء الرقمي.[12]

إجراءات المنصات التمييزية

لم تكن منصات التواصل الاجتماعي يوماً فضاءات محايدة، غير أنها بعد انطلاق حرب الإبادة في نهاية عام 2023 عززت إجراءات القمع والإقصاء الرقمي ضد الرواية والمحتوى الفلسطيني والداعم لفلسطين. شملت هذه الإجراءات حذف وإزالة منشورات، وتقييد حسابات، وتعليقها بشكل نهائي، وتقليص الوصول إلى المحتوى الفلسطيني، فضلاً عن قمع أصوات العاملين في هذه الشركات المساندين للحقوق الفلسطينية. ومن الأمثلة على ذلك، تقارير أصدرتها مؤسسات فلسطينية تعنى بالحقوق الرقمية، مثل مركز “حملة”، وتعود إلى عام 2017، حيث وثقت هذه الممارسات الإقصائية لأول مرة بشكل منهجي.[13]

وفي هذا الإطار، كشف تقرير صادر عن مركز “حملة” عن مستوى صادم من القمع وتكميم الأفواه الذي يتعرض له العاملون والعاملات الداعمون لفلسطين داخل شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل غوغل (يوتيوب) وميتا (فيسبوك وإنستغرام) ومايكروسوفت (لينكدإن) وباي بال وآبل. وأوضح التقرير أن هذه الشركات اتخذت إجراءات عقابية وتمييزية بحق موظفين عبّروا عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، من بينها حذف رسائل داخل مجموعات العمل تعبر عن دعم للفلسطينيين، وتوجيه إنذارات أو توبيخات بسبب منشورات ذات صلة بفلسطين، فضلاً عن تجاهل شكاوى الموظفين المتضررين.

كما شملت الإجراءات مراقبة الخطاب الداخلي للعاملين وتقييد النقاشات في المنتديات الداخلية المتعلقة بفلسطين، إلى جانب التمييز في تطبيق سياسات الشركات بحيث تشدد الرقابة على الأصوات الداعمة لفلسطين، بينما يتسامح مع المواقف المؤيدة لإسرائيل. وأشار التقرير أيضاً إلى حالات تهميش واستبعاد مهني وخلق مناخ من الخوف والرقابة الذاتية داخل بيئات العمل.

وفي المقابل، تظهر الشهادات أن العاملين الذين يعبّرون عن دعمهم لإسرائيل أو لجيش الاحتلال يتمتعون بحرية كاملة في نشر مواقفهم من دون التعرض لأي شكل من أشكال الرقابة أو العقاب، ما يعكس انحيازاً مؤسساتياً واضحاً داخل هذه الشركات.

ومباشرة بعد أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2023، أعلنت منصات مثل فيسبوك وتيك توك وإكس (تويتر سابقاً) عن إزالة ملايين المنشورات الداعمة لفلسطين بذريعة دعمها لـ “الإرهاب”، وذلك استجابة لرسالة وجهتها المفوضية الأوروبية تحث المنصات على التدخل لإزالة المحتوى “غير القانوني” المخالف لقوانين الاتحاد الأوروبي والمنشور على منصات التواصل المختلفة في أعقاب هجمات السابع من أكتوبر. وقد استجابت تلك المنصات بسرعة، وأزالت كميات هائلة من المحتوى من دون توفير الحد الأدنى من الشفافية بشأن نوع المواد التي حُذفت، أو أسباب الإزالة، وغيرها من المعلومات.[14]

وتمظهرت أيضاً أشكال مختلفة من التمييز ضد الفلسطينيين. فعلى سبيل المثال، أظهرت محاولات المستخدمين لإنشاء ملصقات (Stickers) رقمية على تطبيق واتساب باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي نتائج منحازة، إذ كانت الخوارزميات تنتج ملصقات لأطفال يحملون أسلحة في الحالات التي أدرجت فيها كلمة “فلسطيني” ضمن تعليمات إنشاء الملصق. كما ترجمت منصة إنستغرام في عدة حالات أي تعريف يتضمن الجملة التالية: “فلسطيني، الحمد لله” إلى “إرهابي فلسطيني”.[15] غير أن أحد الأسباب الرئيسة وراء المبالغة في فرض الرقابة على المحتوى الفلسطيني بعد ذلك، هو أن الشركة خفضت الحد الأدنى لنسبة الثقة التي تتطلبها أنظمتها الآلية قبل التعامل مع المحتوى العربي/الفلسطيني على وجه الخصوص، من 80% إلى 25%، أي أن حذف المحتوى بات يتطلب من النظام الآلي أن يكون واثقاً بمخالفة المحتوى بنسبة 25% فقط، بدلاً من 80% كما كان في السابق.[16]

وفي تحقيق أجرته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، تمت مقارنة حجم الوصول والتفاعل مع صفحات إخبارية فلسطينية وإسرائيلية وإقليمية قبل وبعد تشرين الأول/أكتوبر 2023، فتبين انخفاض نسبة التفاعل مع الصفحات الإخبارية الفلسطينية بنسبة 77% خلال فترة الإبادة، في حين ارتفعت نسبة التفاعل مع محتوى وسائل الإعلام الإسرائيلية بنسبة 37%. وقد أكدت تسريبات حصلت عليها الهيئة أن منصات مثل إنستغرام شددت من سياساتها في إدارة المحتوى الفلسطيني، ولا سيما ما يتعلق بالتعليقات، منذ انطلاق الحرب على قطاع غزة.[17] إجمالاً، أدت سياسات المنصات المختلفة إلى تقليص كبير في حضور المحتوى الفلسطيني على شبكات التواصل الاجتماعي؛ إذ وثق مركز “حملة”، خلال الفترة الممتدة من تشرين الأول/أكتوبر 2023 حتى أيلول/سبتمبر 2025، إزالة أو تقييداً لما مجموعه 2138 حساباً أو محتوى على مختلف المنصات.[18] في المقابل، كشفت تسريبات نشرها موقع دروب سايت نيوز (Drop Site News) عن إزالة نحو 90 ألف محتوى من منصات شركة ميتا بطلب مباشر من حكومة الاحتلال منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، مشيرة إلى أن الاستجابة لكل طلب لم تتجاوز 30 ثانية. ومن اللافت أيضاً أن الشركة استجابت لتلك الطلبات الإسرائيلية على الرغم من أن الجزء الأكبر من المحتوى المحذوف كان يتناول القضية الفلسطينية، لكنه نشر من دول عربية وإسلامية مختلفة. وتشير التسريبات إلى أن إجمالي ما أزيل في تلك الفترة بلغ نحو 38.8 مليون محتوى يتعلق بفلسطين.[19]

ولم يستهدف المحتوى السياسي فحسب، بل طالت الإجراءات أيضاً صفحات وحسابات وسائل الإعلام الفلسطينية، على الرغم من أن سياسات منصات التواصل الاجتماعي تنص على حماية المحتوى ذي القيمة الإخبارية. فقد وثق مركز حملة نحو 281 حالة استهداف لوسائل إعلام فلسطينية على مختلف المنصات، و207 حالة استهداف لحسابات صحافيين وصحفيات منذ انطلاق الحرب على قطاع غزة.[20] وعلى المستوى السياساتي، عدّلت شركة ميتا سياسة خطابات الكراهية بطريقة تؤدي إلى الخلط بين نقد الحركة الصهيونية كحركة سياسية وبين اليهودية كديانة، بحيث بات أي ذكر لكلمات مثل “صهيوني” أو “الصهيونية” في سياق سلبي عرضة للحذف أو التقييد.[21]

ولم يقتصر الأمر على منصات شركة ميتا، وإن كانت الأهم من حيث عدد المستخدمين الفلسطينيين وحجم الانتشار العالمي، إذ اتبعت منصات أُخرى النهج نفسه. فمثلاً، حظرت منصة إكس (تويتر سابقاً) استخدام عبارة “من البحر إلى النهر” وصنفتها على أنها عبارة عنيفة. كما جرت مداولات داخل شركتي تيك توك وميتا لحظر العبارة ذاتها، غير أن القرار لم ينفذ في نهاية المطاف. وقد تعرضت منصة تيك توك لضغوط كبيرة من مشرعين أميركيين، ما أدى إلى زيادة وتيرة تقييد المحتوى الفلسطيني وإزالته. كذلك حذفت منصات أُخرى مثل لينكدإن وتيك توك ويوتيوب وتليغرام محتوى متعلقاً بفلسطين.[22]

وفي الوقت نفسه، سمحت مختلف منصات التواصل الاجتماعي، ولا سيما إكس وتليغرام وتيك توك وفيسبوك، بانتشار الرواية والمحتوى الإسرائيلي التحريضي والعنيف ضد الفلسطينيين. فإلى جانب سياسات التقييد والإزالة، يؤدي المحتوى التشهيري والتحريضي والعنيف ضد الفلسطينيين، ولا سيما النشطاء منهم على هذه المنصات، إلى الأثر نفسه: إسكات الأصوات الفلسطينية وترهيبها وإقصاؤها.

وقد وثق مركز “حملة” حتى الآن نحو 7000 محتوى عنيف باللغة العبرية يستهدف الفلسطينيين.[23] كما أظهر مسح أجراه المركز أن 60% من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967 يمارسون رقابة ذاتية على محتواهم الرقمي، في حين ترتفع النسبة إلى 70% بين الشباب الفلسطيني في أراضي عام 1948.[24] ويعزى ذلك إلى حملات التأثير الإسرائيلية المنظمة، سواء السياسية منها أو المعرفية، التي تقوم على إغراق الفضاء الرقمي بمحتوى يعبر عن الرواية الإسرائيلية ويدعمها، بهدف الهيمنة على الخطابات الرقمية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.

ومن أبرز الأمثلة الحديثة على الطريقة التي تتحكم بها دولة الاحتلال في تشكيل الروايات الرقمية على منصات التواصل الاجتماعي، الكشف عن توظيف الحكومة الإسرائيلية لشركة أميركية تعنى بإنتاج محتوى يهدف ليس فقط إلى ترسيخ وهيمنة الرواية الإسرائيلية، بل أيضاً إلى التأثير في البنية التحتية الرقمية المعرفية لمنصات التواصل الاجتماعي، وفي مخرجات أدوات الذكاء الاصطناعي مثل تشات جي بي تي (ChatGPT)، وذلك في إطار مساع لإقصاء الروايات الداعمة لفلسطين.[25]

خلاصة

منذ انتشار استخدام منصات التواصل الاجتماعي في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بدأ يتغير شكل العالم، بما في ذلك طرائق التواصل والوصول إلى المعلومة والتعبير عن الرأي والمشاركة السياسية. وقد التفتت دولة الاحتلال إلى توظيف الفلسطينيين لهذه المنصات من أجل التعبير عن الرأي وتعميم الرواية والوصول إلى بقاع العالم المختلفة، وأيضاً لمقاومة أشكال الإقصاء الفعلي والرقمي، فبدأت محاولات الضغط على المنصات من أجل حذف وتقييد المحتوى الفلسطيني. وتعود آثار ذلك إلى ما قبل عشرة أعوام، حيث تبرز شهادات عن الحذف والتقييد في عام 2015 وما قبل ذلك بقليل. وعلى مدار الأعوام التالية، تطورت سياسات المنصات وطرائق إدارة المحتوى بطريقة تزيد من تقييد المحتوى الفلسطيني، وبرز ذلك بوضوح خلال هبّة أيار/مايو 2021، إذ ظهر بوضوح حجم ضبط منصات التواصل الاجتماعي للرواية الفلسطينية رقمياً. ومنذ ذلك الحين، ازدادت الإجراءات بحق المحتوى الفلسطيني، لكن هذه الممارسات قفزت قفزة نوعية منذ انطلاق حرب الإبادة على قطاع غزة أواخر عام 2023، وتضاعفت الضغوط والإجراءات والممارسات التمييزية التي استهدفت المحتوى المتعلق بفلسطين.

لقد أظهرت التجربة الفلسطينية على منصات التواصل الاجتماعي أن الفضاء الرقمي ليس مجرد وسيلة لنقل المعلومات والتواصل، بل أصبح ساحة للصراع على الروايات والتمثيلات السياسية والثقافية. فقد استخدمت دولة الاحتلال أدوات الضغط على المنصات الرقمية للتحكم في الوصول إلى المحتوى الفلسطيني، بما يعكس تحولات أوسع في إدارة المعرفة والسلطة في العصر الرقمي. وتكشف المتابعة التاريخية للتقييدات منذ عام 2015 وحتى حرب غزة 2023 عن تصاعد متواصل في سياسات الرقابة والإقصاء، ما يعكس طبيعة مركبة للتحديات التي تواجه الرواية الفلسطينية في الفضاء الرقمي. ومن هذا المنطلق، فإن فهم ديناميكيات هذه السياسات وتوثيق آثارها، إلى جانب تطوير آليات مقاومة رقمية تشاركية واستراتيجيات مناصرة قائمة على الأدلة، يشكل ضرورة أكاديمية وحقوقية لضمان حماية حرية التعبير وتكريس العدالة الرقمية للفئات المهمشة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.

توصيات مع تقييم

يمكن للمؤسسات الفاعلة على صعيد الحقوق الرقمية وحقوق الإنسان والجهات الرسمية القيام بما يلي:

  1. مواصلة جهود توثيق انتهاكات الحقوق الرقمية التي ترتكبها المنصات الرقمية بحق الفلسطينيين والداعمين للقضية الفلسطينية. إذ لتوثيق الانتهاكات مثل حذف وتقييد المحتوى/الحسابات التي تنشر عن أو من فلسطين أهمية كبرى من أجل تشخيص المشكلة، وفهمها، وتحليل أنماط استهداف المحتوى والممارسات التمييزية بناء على أدلة مثبتة، وتحديد السياسات الأكثر أثراً من ناحية سلبية على المحتوى الفلسطيني، ونهاية تنظيم حملات مناصرة وضغط قائمة على الأدلة من أجل تغيير السياسات. تعدُّ البيانات رافعة أساسية في العمل الحقوقي ومن أجل التأثير، إلاّ إن البيانات وحدها من دون استخدام أمثل قد تشكل عبئاً على المؤسسات من دون تحقيق الفائدة المرجوة.
  2. مواصلة حملات المناصرة والضغط العلني وغير العلني، فرادى وضمن ائتلافات وشبكات إقليمية ودولية، والعمل مع صناع القرار في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المؤيدين للحقوق الفلسطينية من أجل وضع حد للتمييز ضد المحتوى الفلسطيني وتغيير السياسات الأكثر إضراراً بالرواية الفلسطينية على منصات التواصل الاجتماعي. وتعدُّ جهود المناصرة من النشاطات المهمة للضغط على الشركات، ولا غنى عنها في ظل عدم توازن القوى، إلاّ إنها تتطلب صبراً طويلاً وموارد هائلة ونشاطات تمتد لسنوات، لكنها في نهاية المطاف تحقق نجاحات صغيرة تبنى على بعضها البعض على المدى البعيد.
  3. مواصلة تنظيم حملات توعية حول العالم بشأن ممارسات منصات التواصل الاجتماعي التمييزية تجاه المحتوى الفلسطيني، وحشد النشطاء/ات والصحافيين/ات من أجل الضغط والنشر وفضح سياسات وممارسات المنصات التمييزية تجاه الرواية والمستخدمين الفلسطينيين. هذا النوع من العمل مهم على المدى البعيد، ويساهم في تغير تدريجي في المزاج العام، وقد ينعكس لاحقاً على السياسات والممارسات الفعلية.
  4. يمكن للسلطة الفلسطينية أن تلعب دوراً في الضغط على منصات التواصل الاجتماعي لتخفيف حدة إجراءاتها تجاه الفلسطينيين. وإن كانت قدرة التأثير محدودة، إلاّ إن هامش التأثير والحشد الرسمي وتوظيف السفارات والطواقم الدبلوماسية لم يستثمر بالشكل المطلوب بعد لأسباب مختلفة. ويمكن للسلطة الفلسطينية، من خلال وزارة الاتصالات، أن تؤدي دوراً مهماً في هذا الإطار إن توفرت الإرادة السياسية لذلك.

[1] United Nations Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA), “Reported Impact Snapshot: Gaza Strip (17 September 2025),” 17/9/2025.

[2] مركز حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، “حرب غزة: كيف شكلت وسائل التواصل الاجتماعي السردية والتضامن بين الغزيين“، 7/7/2025.

[3] Dina Tawfic, “Tweeting Solidarity Across Borders: A Social Network Analysis of Pro-Palestinian Activism,” Arab Media & Society, no. 38 (Summer/Fall 2024).

[4] Kyungdong Kim, Min Han Kim, and Youngmin Cho, “The Mobilization Effect of Social Media Use: An Instrumental Variable Approach,” Journal of Policy Studiesm vol. 40, no. 1 (2025), pp. 65–87;

Jason Riddle, “All Too Easy: Spreading Information Through Social Media,” The Arkansas Journal of Social Change and Public Service, March 1, 2017;

Ian O’Byrne, “Educate, Empower, Advocate: Amplifying Marginalized Voices in a Digital Society,” Contemporary Issues in Technology and Teacher Education, vol. 19, no. 4 (2019).

[5] Michael Kwet, “Digital Colonialism: US Empire and the New Imperialism in the Global South,” Race & Class, vol. 60, no. 4 (April 2019), pp. 3–26.

[6] أحمد قاضي، “ميتا… إلى اليمين در!“، “ألترا فلسطين”، شباط/فبراير 2025.

[7] “Instagram Removes Posts by Palestinian Activists and Pro-Palestinian Groups Amid Israel-Hamas Conflict,” The Intercept, October 21, 2024.

[8] Waqas Ahmed, Nicholas Rodelo, Ryan Grim, and Murtaza Hussain, “Leaked Data Reveals Massive Israeli Campaign to Remove Pro-Palestine Posts on Facebook and Instagram,” Drop Site News, April 11, 2025.

[9] “Not Just Dances: TikTok and Israel’s National Security,” Institute for National Security Studies (INSS).

[10] Sasha Costanza-Chock, Design Justice: Community-Led Practices to Build the Worlds We Need (Cambridge, MA: MIT Press, 2020).

[11] Rania Abu Shamala, “Netanyahu Admits Using Social Media as Weapon to Influence US Opinion Amid Gaza Genocide,” Anadolu Agency / AA News, September 27, 2025.

[12] Costanza-Chock, op.cit.

[13] مركز “حملة” – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، “مركز ‘حملة’ يصدر تقريراً بعنوان ‘حريات الإنترنت في فلسطين: مسح لانتهاكات وتهديدات الحقوق الرقمية’“، 22 كانون الثاني/يناير 2018.

[14] Max Zahn, “Israel-Hamas War: Tech Platforms Under Scrutiny Over Spread of False, Graphic Posts,” ABC News, October 16, 2023;

Karissa Bell, “TikTok Says It’s Removed Millions of Fake Accounts Since Start of Israel-Hamas War,” Engadget, November 2, 2023.

[15]“Instagram Removes….”, op.cit.

[16] “الائتلاف الفلسطيني للحقوق الرقمية يدعو شركة ميتا إلى التوقف عن تجريد إنسانية الفلسطينيين وإسكات أصواتهم“، مركز حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، 7 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

[17] “إسرائيل-حماس: منصات التكنولوجيا تحت التدقيق بسبب انتشار منشورات كاذبة ورسومية“، “بي بي سي نيوز”، 16/10/2023.

[18] “منصة حر: مؤشرات الانتهاكات الرقمية في فلسطين (10 يوليو 2023 – 25 سبتمبر 2025)“، حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي.

[19] Waqas Ahmed, Nicholas Rodelo, Ryan Grim, and Murtaza Hussain, “op.cit.

[20] “حملة، منصة حر: مؤشرات الانتهاكات الرقمية في فلسطين”، مصدر سبق ذكره.

[21] “مخاوف بشأن تحديث سياسة ميتا لمكافحة خطاب الكراهية“، مركز حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، 11 تموز/يوليو 2024.

[22] “إحاطة بشأن واقع الحقوق الرقمية الفلسطينية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023“، مركز حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، 1 تشرين الثاني/نوفمبر 2023.

[23] “منصة حر: مؤشرات الانتهاكات الرقمية في فلسطين (10 يوليو 2023 – 27 سبتمبر 2025)“، حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي.

[24] “مركز حملة: 70% من الشباب الفلسطيني في الداخل يمارسون الرقابة الذاتية على شبكة الإنترنت“، مركز حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، 28 آب/أغسطس 2024؛

 “مركز حملة يصدر دراسة حول الأمان الرقمي بين الشباب الفلسطيني في ظل الحرب على غزة“، مركز حملة – المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي، 19 آب/أغسطس 2024.

[25] Responsible Statecraft, “Israel Uses ChatGPT and Social Media to Influence Gen Z,” Responsible Statecraft, September 29, 2025.

1

 أحمد قاضي: مدير الرصد والتوثيق في مركز حملة، وباحث وطالب دكتوراه يُعنى بدراسة تأثير منصات التواصل الاجتماعي على الواقع الفلسطيني.

عن ورقة سياسات / مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *