الدفعة الأولى من مقاتلي وكوادر منظمة التحرير الفلسطينية توجهت الى اليمن الجنوبي صبيحة 21 من شهر آب من العام 1982 كان هذا ايذانا بطي صفحة الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان.

لبنان ذلك البلد الذي أودعنا في ترابه آلاف الشهداء وامتزجت فيه دماؤنا بدماء الكثيرين من أبنائه الوطنيين الشرفاء.

يوم واحد فقط هو كل ما اتيح لي كي أودع بعض الأصدقاء وأجهز نفسي لأكون ضمن الدفعة الثانية المتوجهة الى تونس؛ لم يكن لدي وقت لفعل أي شيء. ارتديت فقط البدلة العسكرية ولم أحمل معي أي متاع مع قناعتي أن اقفال باب بيتي لن يحول دون دخول اللصوص اليه . جل ما خشيته هو سرقة مكتبتي التي كانت تضم مئات الكتب؛ بينها مخطوطات كنت قد اشتريتها من اليمن ومن المغرب ودول أخرى في رحلات سابقة وكنت أنوي بعد عمر طويل التفرغ لتحقيقها. أما سيارتي فقد أهديتها لشاب من مخيم شاتيلا لكن وللأسف لم يفرح بها طويلا فقد علمت أنه كان من بين ضحايا المجزرة التي وقعت بعد رحيلنا.

المشهد في مكان التجمع في الملعب البلدي قبل الصعود الى الشاحنات التي أقلتنا الى الميناء كان مؤثرا جدا وأشبه بيوم الحشر.  مقاتلون يودعون زوجاتهم وأبنائهم وأقاربهم وأصحابهم؛ عناق ودموع كثيرة انهمرت؛ ووجوم على الوجوه وسط رشقات من الأرز والملح وزغاريد وأغان وطنية.

وقفت يومها وحيدا دون مودع كنت كمن على رأسه الطير أفكر فيما يخبئه لي القدر في قادم الأيام. زوجتي وأبنائي كانوا ما زالوا في ضيافة والدتي في حلب بقرار قيادي ولم أكن أعرف أين ومتى سنلتقي؟

السيدة الفنانة نادية لطفي والسفير اليوناني أصرا على وداعي في الميناء . كانت لفتة وفاء منهما أعتز بها كثيرا.

السفير صعد معي الى الباخرة “صول فريني” وأبلغ القبطان أن لا احتكاك بين طاقم السفينة وكوادر المنظمة الا من خلالي وتم ابلاغ ذلك للعقيد فخري شقورة بصفته القائد المسؤول؛ بذا أصبحت الوسيط والمتحدث الرسمي باسم هذه الدفعة وبموجب ذلك حصلت على كابينة جمعت فيها بعض المقربين بينهم شقيقي الأكبر وهو من الكوادر الأولى في حركة فتح؛ والكاتب الصحفي مستشار الرئيس عرفات للشؤون الاسرائيلية الأخ والصديق عماد الشقور وشقيقه الراحل نمر والراحل مصطفى بامية وولديه اللذان لم يكملا العاشرة من العمر.

الكابينات الأخرى وعلى قلتها منحت للجرحى كأولوية؛ أما ما تبقى من الأخوة فكل واحد أو مجموعة وجدوا لأنفسهم زاوية لتكون مستراحهم بما في ذلك قوارب النجاة. 

بدأت الباخرة تمخر عباب المتوسط وعلى متنها 970 راكبا من مختلف أجهزة منظمة التحرير وفصائلها.  بيروت راحت تختفي شيئا فشيئا وراء الأفق الى أن تلاشت الصورة تماما؛ وبذا بدأت الرحلة نحو المجهول الذي تبع وصولنا الى تونس.

بعد مرور عدة ساعات كنا قد قاربنا على تجاوز المياه الاقليمية القبرصية لكن القبطان أبلغني أن الأوامر قد صدرت بضرورة العودة الى ميناء ليماسول بطلب من الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت ترى أن الجانب الفلسطيني قد خالف الاتفاق المبرم مع المبعوث الأمريكي فيليب حبيب في بعض ما تم حمله على الباخرة.

على أرض ميناء ليماسول كان هناك سفير فلسطين الراحل الصديق فؤاد البيطار الذي لعب دورا هاما من موقعه في العاصمة القبرصية حيث كانت كل الاتصالات مع العالم الخارجي تتم من خلاله أثناء الغزو الاسرائيلي للبنان. وكذا كانت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية التي أبلغتني أن هناك عدد من المركبات العسكرية المحظور اصطحابها ولا بد من انزالها قبل متابعة الرحلة. طبعا انصعنا للأمر وتم انزال تلك العربات ثم سمح لنا باكمال مسيرنا.

مخزون الماء والخبز والسجائر كان قد نفذ ما اضطرنا الى التوقف في ميناء جزيرة كريت اليونانية. سفير فلسطين لدى اليونان شوقي أرملي ومعه عضو برلمان عن تلك المنطقة صعدا على ظهر الباخرة وكان البرلماني اليوناني متأثرا جدا الى حد البكاء على ما وصل اليه حال الفلسطينيين. للأسف لم أعد أذكر اسمه لكن موقفه كان غاية في النبل فقد تبرع بتزويدنا بكل ما نحتاج من حسابه الخاص.

كان مخططا أن تكون العاصمة التونسية هي محطتنا النهائية لكن السلطات هناك خشيت من خروج الحشود التونسية عن السيطرة أثناء استقبالنا؛ لذا حول المسار نحو ميناء مدينة بنزرت الذي وصلناه ليلة 27 آب وبقينا في عرض البحر حتى صباح اليوم التالي لأن الرئيس بورقيبة أراد أن يكون على رأس مستقبلينا.

مجموعة كبيرة من رجال الأمن صعدوا على ظهر الباخرة وكان معهم قائمة تضم 30 اسما قيل أنهم سيخرجون بأسلحتهم الفردية بطريقة استعراضية أمام الجماهير (تلك الأسلحة بقيت في حوزة رجال الأمن وتم سحب ابر الاطلاق منها لحين موعد التوجه لمصافحة الرئيس عند وصوله).

اسمي كان مدرجا في القائمة مرفوقا برتبة مقدم مع أني لم أكن في يوم من الأيام عسكريا وقطع السلاح التي امتلكتها طوال فترة وجودي في لبنان استعملت فقط على درايء من الزجاج أو العلب الفارغة ، لكن المتبع أن المراتب المدنية في منظمة التحرير الفلسطينية تقاس بالرتب العسكرية.

ميناء مدينة بنزرت كان يغص بحشود شعبية كبيرة من المواطنين وبعضهم كان يجهش بالبكاء من شدة التأثر ويلوحون بالعلم الفلسطيني في سرادق الاستقبال الذي أعد على عجل. أول من وصل لاستقبالنا كانت حرم الرئيس السيدة الماجدة وسيلة وابنتها والأخ فاروق القدومي (أبو اللطف) رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير؛ والأخ محمود عباس (أبو مازن) عضوا مركزية فتح ورئيس السلطة الوطنية الحالي؛ وياسر عبد ربه وحكم بلعاوي ورفيق النتشة وعدد آخر من الشخصيات الفلسطينية والتونسية. الجرحى تم انزالهم أولا ونقلوا جميعا الى المستشفيات لمتابعة علاجهم.

موكب الرئيس بورقيبة وصل الى الميناء محاطا ببعض الوزراء؛ نزل من السيارة وراح يلوح بيديه محييا الوافدين ثم أدخل الى قاعة استقبال أعدت خصيصا على أرض الميناء؛ بعدها جاء دورنا فنزلنا تباعا بأسلحتنا الفردية وسط هتافات الجماهير المحتشدة للسلام على الرئيس فردا فردا وشكره على حسن الاستقبال.

بعد تلك المراسم توجهنا نحو قبر الجندي المجهول ومن ثم قمنا بجولة في المدينة سيرا على الأقدام رفقة والي المدينة وفي مقره كان لنا مؤتمر صحفي قصير. بصراحة لا أستطيع وضع لقائنا بالجماهير التونسية بكلمات فقد كانت مشاعرهم نحونا حقيقية وصادقة وجياشة.

عند عودتنا للميناء أبلغنا أن من وردت أسماؤهم بالقائمة سيتوجهون الى فندق سلوى على شاطئ البحر في برج السدرية منطقة عين عروس القريبة من العاصمة وهي منطقة سياحية راقية وأغلب روادها من الناطقين بالفرنسية؛ في حين سيتم نقل الباقين الى معسكر في منطقة وادي الزرقا القريب من مدينة باجه.

نحن اتخذنا قرارا أن نكون جميعا في نفس المكان لحين وصول الأخ أبو عمار وبقية القيادة الى تونس وبناء عليه فقد توجهنا جميعا الى وداي الزرقة. الحقيقة أن صدمتنا كانت كبيرة عند رؤية المعسكر فقد كان أشبه بالسجن الكبير وحوله سياج عال جدا وعليه حراسة عسكرية مشددة.

في المعسكر كنت المحظوظ الوحيد بين الجميع فقد تعرفت عند وصولنا الى ميناء بنزرت الى السيد توفيق بسباس مدير عام التلفزة التونسية وقد وعدني وقتها بإعداد فيلم يوثق لحظات وصولنا الى تونس (سأنشره تباعا لتعميم الفائدة ولمن يريد نسخه شريطة ذكر المصدر)؛ بذا كنت صبيحة كل يوم أغادر المعسكر برفقة اثنين من رجال الأمن والتوجه الى العاصمة تونس بحجة جلب شريط الفيديو وبقيت على هذا الحال يوميا الى حين وصول الأخ أبو عمار بعد عدة أيام. (احتفظت بهذا الشريط 30 عاما قبل أن أقوم بنسخه وتقديمه هدية للأخ أبو مازن ولتلفزيون فلسطين ليحفظ في الأرشيف كوثيقة).

بعد مرور 19 يوما على وجودي في فندق سلوى طلبت من الأخ أبو عمار مغادرة تونس؛ وقد وافق على الحاقي ببقية الاعلاميين الذين توجهوا الى العاصمة القبرصية.

في الطريق الى قبرص توقفت في العاصمة اليونانية أثينا وبها التقيت بصديقي السفير ستوفروبولس وتبين لي أنه من أثرياء اليونان والذي فاجأني بتقديمه شيك موقع على بياض ليعينني في المرحلة القادمة على بدء حياة جديدة على حد قوله. رفضت هديته وشكرته على سخائه وعلى اهتمامه الشخصي بي وبقية أسرتي خصوصا عندما تجاوز كل الأعراف ومنحني أوراق مواطنة يونانية لحمايتي فيما لو حصل أي مكروه أثناء الابحار من بيروت الى تونس.

قبرص كانت محطة ترحالنا التالية ولنا فيها تجربة غنية وفيها كان لي بداية فصل جديد من تغريبتنا الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *