احتضنت رفاته بغداد في مثل هذا اليوم 11-12-1994
فيصل دراج: مثقف فلسطيني نوعي ساوى بين الثقافة والحقيقة
نوزاد حسن : لا بيت ولا قبر .. أيها المَقدِسي البغدادي الجميل..
وُلد جبرا إبراهيم جبرا مسعود في بيت لحم يوم 28-8-1920، والتحق بمدرسة طائفة السريان خلال المرحلة الابتدائية، ثم بمدرسة بيت لحم الوطنية، والمدرسة الرشيدية في القدس التي أتاحت له التعرف على الأستاذة الكبار، أمثال إبراهيم طوقان واسحق موسى الحسيني وأبي سلمى (عبد الكريم الكرمي) ومحمد خورشيد (العدناني)، ثم التحق بالكلية العربية في القدس. وخلال هذه الفترة تمكن من اللغتين العربية والإنجليزية بشكل ممتاز، إضافة إلى لغة السريان التي هي طائفة أسرته.
سافر جبرا الى مصر ومن ثم إلى بريطانيا حيث التحق بجامعة كامبردج، وحصل منها على الماجستير في النقد الأدبي عام 1948. إلا أننا نستطيع القول إنه وصل إلى هذه الجامعة أديباً، فقد بدأ كتابة القصة القصيرة في فلسطين، ونشر بعض نتاجه المبكر في مجلات نوعية مثل الرسالة والهلال المصريتين، والأمالي اللبنانية. ولكن أهم ما أنجزه في تلك المرحلة المبكرة، هي الرواية التي كتبها باللغة الإنجليزية عام 1946 بعنوان:
“passage in the Silent Night”
ومن ثم صدرت بالعربية عام 1955، بعنوان “صراخ في ليل طويل”.
الفلسطيني العراقي
بعد دراسته في كامبريدج وهارفارد توجه إلى العراق لتدريس الأدب الإنجليزي. وهناك تعرف على الآنسة لميعة برقي العسكري التي شكلت انعطافاً في مسار حياته. فقد تزوجا وانجبا ولدين، هما سدير وياسر، وحمل جبرا الجنسية العراقية التي ما كان لها أن تفصله عن جنسيته الفلسطينية التي حافظ على لهجتها، حتى آخر لحظة في حياته.
وكان لجبرا شأن كبير في الحياة الثقافية العراقية، حيث أنشأ مع الفنان الكبير جواد سليم “جماعة بغداد للفن الحديث” عام 1951. وكتب مقدمة المجموعة المبكرة “أغاني المدينة الميتة” للشاعر بلند الحيدري. وأثرت صداقته في بدر شاكر السياب الذي أطلع من جبرا على فصول من كتاب “الغصن الذهبي” للسير جيمس فريزر، وهو مما أسهم في اقتناع السياب بالمدرسة التموزية في الشعر. وإلى ذلك كان لنتاج جبرا نفسه من رواية وقصة قصيرة ورسوم ونقد وترجمة أثر كبير في الأجيال العربية.
وكان أبو سدير يشكو، في أيامه الأخيرة، من طنين حاد في الأذنين. وقد أصيب بدوار ووقع أرضاً. ثم دخل العناية المركزة. ويوم الأحد 11-12-1994 أغمض عينيه إلى الأبد. تاركاً زهاء سبعين كتاباً بين مؤلف ومترجم.
في مراياه المتعددة
يسلط الدكتور فيصل دراج في كتابه «جبرا إبراهيم جبرا» الضوء على محطات استثنائية في إبداعه، فيغدو الكتاب عن جبرا قبل أن يكون عن رواياته، وعن جبرا الفلسطيني قبل أن يكون عن الاديب، وجبرا الانسان المقدسي وجبرا الرسّام والشاعر الرومانسي الذي زامله الكاتب، من الشباب الأول إلى يوم الرحيل الأخير.
وتحت عنوان ((جبرا في مراياه المتعددة )) يقول الدكتور دراج : في كتابات جبرا الروائية ما يشير إلى أديب متعدد في مراجعه الثقافية، احتضنت الشعر والفلسفة والرؤى الدينية. ففي روايته الأولى: «صراخ في ليل طويل» أدرج الأسطورة وعالم الإشارات والرموز، مستفيداً من كتاب جيمس فريزر «الغصن الذهبي» وكتاب «ما قبل الفلسفة» لهنري فرانكفورت اللذين ترجمهما لاحقاً. وحاول المزاوجة بين العقل، الذي يفسر شروط الإبداع الفني، وقوة الخيال، التي ترد إلى الروح والبصيرة، قبل أن تستشير الواقع المعيش.
أعلن في روايته اللاحقة «صيادون في شارع ضيق، عن انتسابه الصريح إلى الرومانسية، والإنجليزية منها بشكل خاص مشيرا، بإعجاب غير منقوص إلى شلي واللورد بـايرون، إذ الأول حر ونصير للحرية المثمرة، والثاني فردي وموغل في فرديته. اعتنق الفردية الحرة، وأوكل إلى المبدع الحر، الذي تسبق بصيرته غيره من الناس، وظيفة تغيير العقول والأرواح، التي تقيم بين المبدع والنبوة علاقة واضحة.
الفن والدين
ولعل العلاقة بين الفن والدين هي التي دعته إلى وضع مقالة عن الشاعر ـ الفنان وليم بليك، الذي
كان يرسم أشعاره ويصوغ الرسم شعراً، والذي آمن بأن للأديان الإنسانية جميعها جوهراً واحداً، قوامه المحبة.
أنجز جبرا في «صيادون في شارع ضيق» عملاً روائياً محملاً بمنظور رومانسي، وأخبر عن مراجعه الثقافية، التي انطوت على معرفة بالرسم والموسيقا مدهشة. وعاد في روايته “السفينة ” لبرهن على سعة منظوره الثقافى، فساءل ديستويفسكي وقرأ دلالة الخير والشر في روايته «الشياطين» ومر على أفكار تومان الأكويني، رجل الدين الذي قارب قضايا
فلسفية، وسورين كيركغور الفيلسوف الذي قرأ معنى المأساة.. لم يكن الروائي الفلسطيني مشغولاً بأسئلة الفلسفة من حيث هي، بقدر ما كان مهجوساً بالتصور الفلسفي لقضايا الروح والبصيرة، ذلك لأنه آمن بأن روايته قادرة على “الرؤيا ” ترى الحاضر والمستقبل، وبأن ما تراه حقيقة لايخالطها
الخطأ.
كان جبرا يهجس بمعرفة يحتاجها، تبدأ بالأنا الواسعة الواثقة بما ترى وتقول، وتبدأ بالقدس قبل أي شيء آخر، تلك المدينة المقدسة العتيقة، التي عاش فيها شبابه إلى قبل يوم النكبة ١٩٤٨، وأعتقد بعد الخروج، أنها تتجسد فيه، تلازم قلبه وتحميه وتسدد خطاه وتعصمه عن الخطأ. لذا كانت القدس حاضرة في جميع روايات جبرا، بل في جميع ما كتب، بشكل مباشر أو غير مباشر. لذا تقرأ القدس في أعماله مكاناً فلسطينياً عاش فيه طوراً من حياته، وتقرأ كاشارة تتضمن المقدس والعناية الإلهية وتعاليم السيد المسيح وأضواء الإسلام، وذلك “الجوهر الدافئ، الذي أشار اليه وليم بليك، حين ألغى الفروق بين الأديان السماوية” .
وبقدر ما كان جبرا يفاجئ القارئ بإيمانية راسخة،
الى تخوم التصوف، يخبره بأن القدس عائدة الى أهلها في النهاية، فقد كان حداثياً في منظوره للقومية والمجتمع والثقافة العالمية، وحداثياً أكثر في رصده للقيم الإبداعية، التي تستوعب شكسبير، الذي ترجم عنه كتاباً، وتصل إلى صموئيل بيكيت وألبير كامو. لذا ترجم بعض أعمال شكسبير وأناره في أكثر من دراسة وتوقف، مترجماً، أمام الشاعر
الأمريكي ديلان توماس، الذي مات في التاسعة والثلاثين وكان له، كما يقول جبرا، «وجه يمتزج فيه الملاك والشيطان امتزاجاً فذاً».
الثقافة والحقيقة
إن هذا المثقف الفلسطيني النوعي قد ساوى بين الثقافة والحقيقة، وأدرك أن الاعلان عن الحقيقة له دروب متعددة، تحتمل القصة القصيرة، حال مجموعته «عرق وقصص أخرى»، التي نشرها في بيروت عام ١٩٥٦، وتحتاج الشعر، كما هو واضح في
ديوانيه «تموز في المدينة» – ١٩٥٩، و «لوعة الشمس» – ١٩٧٩، وتستدعي الفن التشكيلي «جواد سليم ونصب الحرية». وهناك الدراسة النقدية التي قادته الى دراسة أكثر شمولاً عن الفن
العراقي، وانفتحت دراسات ثقافية متعددة عن الفن والحرية والرومانسية والوجودية ومسار الرواية العربية والاتجاهات النقدية العربية في التقويم الروائي، التي تنوس بين رهافة عالية، ترى المبدع لا «وظيفته الاجتماعية»، ومنظور متكلس يقرأ المبدع قبل أن يقرأه، ذلك أن يختصره في موقف سياسي ـ فكري ، لا يعبأ بالمعايير الفنية.
ومع أن في إيمانية جبرا الراسخة ما يستدعي أحادية الصوت، اذ «الصوت المقدسي» مهيمن مسيطر، ويصوغ الأصوات الأخرى «الأقل مرتبة»، فقد سعى، باجتهاد كبير، الى الأخذ بصيغة تعددية الأصوات، كما هو الحال في روايته «السفينة»، التي تأثر فيها برواية الأمريكي وليم فوكنر «الصخب والعنف»، وحاول تعددية التقنية الفنية في «البحث عن وليد مسعود»، التي بقي فيها «ابن القدس» مهيمنا إلى حدود «النبوة»، تتكشف أسراره في أشكال من الكتابة متنوعة، يتداخل فيها النثر والشعر واللغة العامية والوعي واللاوعي
وحزمة من الإشارات والرموز، ذلك أن أحوال «ابن القدس» عصية على الوضوح الكامل، تظهر منه وجوه وتحتجب وجوه أخرى.
تجربة اللجوء
وعلى الرغم من أن عالم جبرا، متعدد الوجوه، يقرأ في مراجعه الثقافية، فان تلك المراجع تستمد دلالتها من مفهوم أساسي هو: التجربة المعيشة، التي تحكي فقدان الوطن وتجربة اللاجئ. وقد تسرب هذان البعدان عميقاً في شخصية جبرا وانتاجه الفكري، وقسما الزمن الى قسمين متلازمين: القدس وما قبل اللجوء، إذ جبرا في مدينته الأثيرة يعلم ويرسم وينشئ النوادي
الفنية، وحصار القدس وما بعد اللجوء. والقسم الأول يحرض الذاكرة ويرسل بها بعيداً إلى أيام الطفولة والصبا، التي تحتل فيها مدينة «بيت لحم» موقعاً واسعاً، رسمه جبرا بحنين دافئ
في «البئر الأولى»، أما القسم الثاني فينتشر في «رواية الأمل»، التي تحلم بفلسطيني نظيف كريم الخلق يعشق المعرفة، يليق بالمهمة الموكلة اليه، التي تعني استعادة ما فقده والعودة من جديد إلى الوطن.
بين زمانين
ويرى الدكتور فيصل أن جبر قد دار طويلا في زمنين، بدا ما خارجهما عارضاً، زمن أول يحفظ القدس في الذاكرة، بمدارسها وكنائسها ومساجدها وشوارعها العتيقة، مضيئة كانت أم تكسوها الظلمة، وزمن ثان تبشيري، تبدو فيه القدس راجعة الى أهلها، ونرى فيه فلسطينياً مجتهداً، يرسم وينحت ويلقي المحاضرات ويتقن
العربية ولغة شكسبير وينظر طويلاً الى السماء، موحداً بين المعرفة والإيمان.
ولعل التوزع على زمنين، لا يمكن الفصل بينهما،هو الذي جعل الفلسطيني مهيمناً في رواية جبرا، ودفع بالروائي إلى معالجة «فلسطينيّة الكامل» بصيغة مختلفة، كأن يبدو صابراً متفوقا في «صيادون في شارع ضيق»، ورجل أعمال مطمئن واسع البصيرة في «السفينة»، ومتعدد الوجوه الى حدود الإعجاز في «البحث عن وليد مسعود»، وعاشقاً رومانسياً في «سراب عفان»،… وبهذا المعنى كتب جبرا رواية واحدة عنوانها:
«الفلسطيني المقدسي الجدير بالمدينة المقدسة التي لا تفارقه».
فلسطيني حالم ينتمي إلى مدينة أقرب إلى الحلم، بدايتها جمال لا يحاكى، ونهايتها ضوء يفيض على العالم كله.
وعاش جبرا في بغداد وبقي مقدسياً، وصلها عام ١٩٤٨ مع أحزان فلسطينية، ورحل عنها عام ١٩٩٤ وظل مقدسياً كما كان. وإذا كانت القدس جميلة في ذاتها، فمن المحقق أن المنفى أضاف إليها جمالاً آخر.
يقال: ان الأشياء تبدو أكثر وضوحاً حين تغيب عن ساحة الرؤية، ويقال أيضا: ان الأشياء العزيزة، اذا ابتعدت عن ساحة الرؤية، التبست بجمال لا نظير
له. لذا قال جبرا في أكثر من مكان: القدس أجمل مدينة في الدنيا.
البرجوازي الحداثي
وفي شهادة من العراق يقول القاص والروائي سعد محمد رحيم : في منظورنا الحماسي المشوب بانفعالات مراهقتنا السياسية صنّفنا جبرا إبراهيم جبرا في ضمن خانة البرجوازية. وشخصياً، لحسن الحظ، فطنت مبكراً إلى أنه بحضوره الأدبي والمعرفي الكاريزمي كان يشكّل ضرورة لا غنى عنها في مرحلة من تاريخنا الثقافي الحديث. كان واحداً من أعلام الطبقة الوسطى المدينية المتنورة. من تلك النخبة العظيمة التي أرست دعائم ثقافة عراقية حديثة منذ مطالع الخمسينيات. وكان جبرا أحد أولئك الذين رسخوا في ثقافتنا المعاصرة قيم الحداثة والتنوير، لاسيما بعد أن مارس دوراً طليعياً (ريادياً) في تجديد أساليب ورؤى فنون عديدة، في مقدمتها الكتابة الأدبية والفن التشكيلي، وترجمة عيون من التراث الأدبي والفني والنقدي إلى اللغة العربية. وما زلت مع غيري من أبناء جيلي أنظر إلى جبرا بوصفه شخصية مبدعة تنتمي إلى تلك الكوكبة الارستقراطية (ليس بدلالتها الاقتصادية والاجتماعية الطبقية، وإنما عبر وظيفتها الثقافية)، وبحسب جوليان بندا، إلى تلك (الفئة من الفلاسفة الملوك) التي وازعها خلق مجتمع راقٍ، متحضر ثقافة وسلوكاً ومنجزاً وذائقة.
البئر الأولى
وسيعلمنا جبرا في كتابه (البئر الأولى) الذي يحكي عن السنوات الثلاث عشرة الأولى من حياته إنه لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب. بل عاش طفولته وهو يعاني مع عائلته غائلة الفقر والحرمان. وكان عصامياً فذّاَ وهو يشق طريقه في دروب الحياة، وفي دنيا العلم والمعرفة والأدب والفن.
كان حديثاً.. كان قطباً من أقطاب الحداثة، وأحد سفرائها الكبار النادرين في وسطنا الثقافي.. هنا نتكلم عن الحداثة الحقيقية التي يمكن غرس بذورها في البقعة الصحيحة من التربة الصالحة للإنبات، مع افتراض توفر شروط موضوعية (لم تتوفر دائماً). كان يبغي الحداثة المستمرة، الشاملة، واعياً تماماً أن الحداثة ليست محض أشكال غريبة، وموضات براقة، وتزويقات سطحية، ومعمّيات كما توهم بعض الأدعياء. وإنما هي قيم ورؤى متقدمة، ونزوع إلى الجدة والابتكار، ومشروع ثقافي له صلة بالتنمية الاجتماعية، والتأسيس المديني، وبناء المجتمع والدولة الحديثين.
مكانة لائقة
لا أظن أن جبرا أخذ المكانة اللائقة التي يستحقها في الفضاء الثقافي العربي. والعلّة في ذلك، مثلما يبدو لي، هو نزعة التصنيف البائسة التي طبعت رؤى ومواقف القائمين على الإعلام والثقافة العربيين. وكان مستقلاً أبداً، حاضراً في منتصف المسافة، وأحياناً خارج تحديدات المؤسسات الثقافية العربية الرسمية، وتلك المتخمة حد المرض بالأدلجة.. يقول صديق عمره الروائي الراحل عبد الرحمن منيف في تقديمه لكتاب جبرا (شارع الأميرات)؛ «جبرا أحد الذين خرجوا عن السرب، وأكثر الذين رفضوا الدخالة، بالمفهوم القبلي، فقد كان، ومنذ وطأت قدماه أرض العراق عام 1948، جديداً ومختلفاً. إذ بمقدار ما كان نزيهاً ومخلصاً في خدمة الثقافة التي عاش في ظلها، فإنه لم ينكر ولم يتنكر، سواء للثقافة الأوسع، أو لجذوره وبداياته الأولى».
جبرا قامة ثقافية رفيعة وعالية كما تبين في تقويم المثقفين الحقيقيين له، وهذه ميزة اكتسبها من خلال تقديم نتاج إبداعي ثر في حقول إبداعية مختلفة، وليس بمعونة واجهات سياسية وإعلامية بارعة في صناعة النجوم الخلّب. هو الذي ترك إرثاً واسعاً يعدّ اليوم جزءاً من أهم منجزات الثقافة العربية المعاصرة.
تتجلى شخصية جبرا الإبداعية في كتاباته السردية أكثر من أي حقل أدبي وفني ومعرفي آخر. وهذا لا يعني الانتقاص من قيمة مساهماته في تلك الحقول، وأهمها الترجمة. تراه حاضراً في كل جملة يدوِّنها على الورق ويرسلها في عالم الأدب والفكر والثقافة. إن أناقة أسلوبه، وذلك الفيض من الجمال الأخّاذ الذي يغمر به القارئ. والفخامة التي يستشعرها (القارئ) في بنى نصوصه. ناهيك عمّا في تلك النصوص من فرادة في التكنيك، وحذاقة في صياغة الجمل، واستثمار لممكنات البلاغة العربية بمرونة وطراوة ومن غير تكلّف.. أقول؛ إن هذا كله قد ينسيك لوهلة ما يريد أن يوصله إليك من معانيَ وأفكار ورؤى، فتجدك في حالة انبهار وإعجاب بما يكتب حتى وإن اكتشفت، أحياناً، وبعد
لأي، أنك تختلف معه في الفكرة والمغزى فيها.
نصب الحرية
بدأت علاقته جبرا بالرسم منذ طفولته، فقد فتح عينيه في بيت لحم والقدس على بعض الأديرة التي كانت تشجع استنساخ الصور وتكبيرها لأسباب دينية. وقد كتب جبرا رسالة في هذا المعنى للفنان إسماعيل شموط مشيراً إلى جرف حجري ظل محتفظاً به منذ الطفولة. وفيها رسم منحوت لفنان من حيفا اسمه عبد الله عجينة، وقد بدأ جبرا الرسم، كما يقول في تلك الرسالة، قبل 1948، وبالزيت. وظلت تلك الرسوم في بيت لحم مع أنه لم يقدمها في معرض فردي أو جمعي. ويعيد جبرا الفضل في تعلمه الرسم إلى الفنان الحيفاوي الكبير جمال بدران، الذي لفت اهتمامه إلى الزخرفة وتشكيل الألوان. إلا أن وعيه التشكيلي حقق نقلة نوعية حين تعرف،كما يقول، على إسماعيل شموط واطلع عن كثب على فن التصوير والرسم.
وفي بغداد، لم تكن الحيوية الثقافية التي أشاعها جبرا مقصورة على العمل الكتابي. بل ان إسهامه في تأسيس “جماعة بغداد للفن الحديث” كان ذا أثر ملموس في تطوير هذا الفن على مستوى العراق. والواقع أن جبرا في السنوات الثلاثين الأخيرة من حياته قد أولى الرسم والتصوير اهتماماً كبيراً على المستوى النظري بصورة خاصة. فبعد كتابه الذي أصدره عام 1961 بالإنجليزية “الفن في العراق اليوم”، عاد فأصدر بالعربية كتاباً حقق شهرة كبيرة بعنوان “جواد سليم ونصب الحرية” وذلك عام 1974. ثم أصدر عام 1983 بالإنجليزية كتابه “جذور الفن العراقي” وعاد فنشره بالعربية بعد عامين، ليصدر عام 1985 كتاب “الفن والحلم والفعل”. حتى ليمكن القول إن حضور جبرا لمعرض فنان عراقي كان يعني تزكية لهذا المعرض. بمعنى أنه كان فناناً ومنظراً محكماً. وإذا كانت رسومه الشخصية تدور في الفلك الواقعي التعبيري، فإن دعوته النظرية كانت تشمل مختلف المدارس وكان انحيازه إلى الجديد لا حدود له. وان كان ـ وهذا شأنه في النقد الأدبي أيضاً ـ يعطي الأولوية للإبداع بما هو إبداع. ومن الطريف أن رسوم جبرا الشخصية ذات لهجة بصرية فلسطينية، لكن تأثيره الأساس كان في الفن العراقي. ومع أن الفن، بما هو موهبة ومهارة، لا جنسية له، إلا أن الرسالة الفنية ذات جنسية بالضرورة. ولقد فتنت بغداد، والعراق عموماً، بحس جبرا الباحث الفنان، فكان ما كتبه في هذا المجال بمثابة بعض الوفاء لوطنه الثاني.
لا قبر ولا بيت..
هذه بمثابة دعوة “لمن استطاع إليه سبيلا” لزيارة قبر الكائن الثقافي جبرا ابراهيم جبرا..فثمة مقالة للدكتور عبد اللطيف سالم، نشرها في الحوار المتمدن 19-2-2017، يشير فيها إلى زيارة الكاتب نوزاد حسن لمقبرة محمد السكران.. وهناك كانت المفاجأة : (( شاهِدَتا قبرٍ كُتِبَ على احدهما اسمُ جبرا، وكُتِبَ على الأخرى أسم لميعة . سألتُ : أين القبران ؟ فقال الدفّانُ : انمحى القبران كما ترى، وطلب منّي أن اتصّلَ بأحدٍ من عائلة جبرا لترتيب وضع القبرين من جديد .. وحين ذهب الرجل، نظرتُ الى اسم جبرا المحفور على مرمرٍ أصفر اللونِ، مُشبعٍ بترابٍ ناعم ؟!
لعبةٌ ساخرةٌ محزنةٌ جدّاً ان التقي جبرا المقدسي هنا، ولم يبق من قبرهِ إلاّ شاهدة من رخامٍ مُغطّاةٍ بترابٍ ناعم، تنتظِرُ من يعيدها الى قبره)).
هذا هو حال قبر جبرا ابراهيم جبرا ، الآن ، كما وصفه نوزاد حسن في مُلحَق بين النهرين . جريدة الصباح. الأربعاء 11 كانون الثاني 2017 . بالاضافة إلى صورة بيتهِ المُهمَلِ في شارع الأميرات بحيّ المنصور البغداديّ، بعد تدميره بتفجيرٍ ارهابي .
لا بيتَ .. ولا قبر .. أيّها المَقدِسيُّ البغداديّ الجميل . سلاما يا جبرا ..