الذات، والإخضاع، والذاتية والخضوع…
تناقش الدراسة حالة مجموعتين فلسطينيتين أساسيتين: الفلسطينيون الذين ظلوا في دولة إسرائيل وأصبحوا مواطنين إسرائيليين، واللاجئون الفلسطينيون الذين سيؤسسون فيما بعد منظمة التحرير الفلسطينية ويقودون نضالاً مسلحاً ضد إسرائيل. كما تتعقب الدراسة طريقتين اتبعهما الفلسطينيون لمواجهة إسرائيل: عاش الفلسطينيون في بداية الأمر داخل جدران المواطَنة، لكنهم مضوا نحو تصعيد مطالبهم وتكثيف مقاومتهم؛ في حين، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرير مستعدة للنضال ضد إسرائيل حتى الموت، وانتهت بتوقيع اتفاق أوسلو، وإنشاء السلطة الفلسطينية كجسم إداري متواطىء في إدامة الاحتلال، وإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني. ومن خلال هاتين المجموعتبن نرى كيف جلب التواطؤ المقاومة، وكيف انتهت المقاومة إلى تواطؤ.
تذهب الدراسة، من خلال قراءة حالة فلسطين والفلسطينيين، إلى القول إن الأمور يمكن أن تكون مختلفة عمّا هي عليه: تنتهي المقاومة بالتواطؤ، ويمكن أن يتحول التواطؤ إلى مقاومة، بغضّ النظر عن النيات، أو الأفكار، أو المثل العليا. والدراسة ليست عن موت الذات (التاريخية – السياسية) أو ولادتها من جديد، وإنما عن التفاعل بين الذاتية والإخضاع، والذي يبدو جلياً عند دراسة الحالة الفلسطينية. وتستلهم الدراسة أعمال هيغل وألتوسير وفوكو وبتلر، وكتاباتهم عن الذات، والعلاقة ما بين الذات والإخضاع، والتواطؤ والمقاومة، والسلطة والسلطة المضادة. لكن، عوضاً عن البدء بالدراسة النظرية، فإنني سأبدأها بقصة أنتقل بعدها إلى وضع إطار نظري للقضية التي في متناول يدنا.
I – ولادة الذات (الجديدة؟)
الزمان سنة 1948، والمكان ما كان يسمى فلسطين، وهو اليوم ذو هوية سياسية جديدة: إسرائيل. انتهت الحرب – الحرب التي يسميها الصهيونيون حرب الاستقلال – وتأسست دولة إسرائيل، أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، فكانت النكبة، وقد بلغ عدد مَن طُردوا أو هربوا نحو 700,000 فلسطيني (Masalha 1997; Morris 2004; Pappé 2006). وكيفما ننظر إلى الأمر، نجد على أرض الواقع أنه لم يُسمح لأولئك اللاجئين بالعودة إلى الكيان المعروف الآن باسم إسرائيل، وظل داخله 150,000 فلسطيني تقريباً، حصلوا على المواطَنة الإسرائيلية.
وخلال أقل من عام أصبح الفلسطينيون الذين بقوا في إسرائيل، وكانوا جزءاً عضوياً من الشعب الفلسطيني، والذين شكلوا أغلبية في بلدهم، أقلية صغيرة داخل دولة إسرائيل اليهودية المولودة الجديدة، بعد أن خسروا مدنهم وقيادتهم ومؤسساتهم الوطنية، وقد تم منحهم المواطَنة من الدولة ذاتها التي أقيمت على أنقاض وطنهم. وفي الوقت نفسه، صار شعبهم لاجئين غير مسموح لهم بأن يعودوا؛ أمّا الذي تجرّأ منهم على محاولة العودة، فواجه خطر الموت على يد الجيش الإسرائيلي (منّاع 2016؛ Korn 2000, p. 163). كان ذلك بداية نشوء هذه الذات؛ الذات التي نشأت بصفتها مواطناً يعيش في إسرائيل، والتي سأبدأ في بداية الأمر بالحديث عنها. إنها المواطن الفلسطيني في إسرائيل، الذي قام من تحت الأنقاض، فتم إخضاعه، وأُعيدت ولادته من هذا الإخضاع كذات – مواطن (Zreik 2012, p. 180). بهذا المعنى، فإن المواطنة كمنزلة سياسية منحتها إسرائيل للفلسطينيين تشكل نقطة الوصل والتحول والمصالحة المفهومية بين لحظة الهزيمة القائمة على الإخضاع، ولحظة ولادة الذات السياسية الفاعلة.
ستتطور حكاية ولادة هذه الذات – المواطن ضمن نسقين: الأول يروي كيف سهّلت الدولة الجديدة ظهور الذات الفلسطينية الجديدة، والثاني يحكي كيف تعامل الفلسطينيون في إسرائيل مع الدولة الناشئة، فاهتموا بذاتيتهم، وقبلوا ذواتهم خاضعين وفاعلين، فاعلين وخاضعين، كأن الخضوع والفعل ليسا ضدين، وإنما توأمان.
1 – إنتاج الذوات الفلسطينية:
الفلسطيني كمؤلف لحياته الخاصة
تمكنت إسرائيل في سنة 1948 من سحق الجيوش العربية، وليس هذا فحسب، بل تمكنت أيضاً من تدمير نسيج المجتمع الفلسطيني نفسه، وكادت سيطرتها تكون مطلَقة. خضع الفلسطينيون لحكم عسكري، وفُرض عليهم نظام تصاريح يسيطر على تحركاتهم ويقيّدها، كما أن النظام العسكري اخترق معظم جوانب حياتهم: التعليم، والصحة، والثقافة، والشؤون الاقتصادية (Jiryis 1976, pp. 9-74; Lustik 1980; Sa’di 2014). لكن من الواضح أن السيطرة لم تكن مطلقة بالكامل، فمن خلال ثغراتها، وجيوبها، ستبزغ الذات الفلسطينية مع تطور أحداث الحكاية.
غير أن هذا الإخضاع ليس هو ما يهمني في هذه المرحلة، وإنما محاولة تجاهل العنف التأسيسي الذي صاحب إقامة الدولة وما أعقبها. ولهذا سأركز على الطريقة التي ساهمت بها الدولة، عن قصد، في بروز الذوات الفلسطينية، من خلال جملة أمور، بينها منح المواطنين الفلسطينيين حق التصويت. فقد شارك الفلسطينيون الذين سُمح لهم بالتصويت، ونجَوا من التعداد السكاني الأول (Leibler and Breslau 2005)، في أول انتخابات عامة في إسرائيل في سنة 1949، وتم انتخاب عدد من الفلسطينيين كأعضاء في أول كنيست (منّاع 2016، ص 348 – 357؛ Gelber 2004, p. 219). علاوة على هذا، سأدرس خطاب المحكمة العليا في أوائل الخمسينيات، ودورها في تصنيع الذوات – المواطنين، والقضية النموذجية التي سأناقشها هي قضية الغابسية (القضية رقم: HC 220/51 PD (5) 1480). فهذه القضية لم تكن فريدة من نوعها، وإنما هي مثال يفضح بنية الخطاب الثانوي والسياسي (Zreik 2010)، مثلما سأبيّن فيما يلي.
وقائع القضية هي كالتالي: مقدّمو الالتماس هم سكان قرية الغابسية في الجليل، وكانوا قد طُردوا من قريتهم خلال العمليات العسكرية في تشرين الأول / أكتوبر 1949، وأصبح معظمهم لاجئين في لبنان. لكن عدداً قليلاً منهم استطاع تجنّب هذا المصير، فعاد إلى القرية لفترة قصيرة، قبل أن يتم طرده مرة ثانية في سنة 1950. وبعد الطرد الثاني، عاش هؤلاء المطرودون في قرية مجاورة، ثم قاموا بعدة محاولات أُخرى للعودة إلى قريتهم، لكن كان يتم طردهم في كل مرة. وبعد نحو عام، أعلن القائد العسكري المنطقة منطقة عسكرية مغلقة، فرفع مقدّمو الالتماس دعوى أمام المحكمة الإسرائيلية العليا، قالوا فيها إن الأمر الذي أصدره القائد العسكري باطل، نظراً إلى كونه لم يُنشر في الجريدة الرسمية للدولة، وهذا شرط أساسي للصلاحية القانونية. فدارت أغلبية نقاشات المحكمة حول مسألة وجود، أو عدم وجود، إلزام قانوني للقائد العسكري / الدولة بنشر الأمر العسكري. وكان رد المحكمة بالإيجاب، وبالتالي أعلنت أن الأمر العسكري باطل في قرار صدر في 30 تشرين الثاني / نوفمبر 1951 (يشار إليه فيما بعد بالقرار الأول).
يمكن القول إنه سُمح للملتمسين وغيرهم من سكان القرية بالعودة إليها، لكن الأمور ازدادت تعقيداً. فبعد أسبوع من صدور القرار الأول، أصدر القائد العسكري أمراً عسكرياً جديداً، ونشره رسمياً، في 6 كانون الأول / ديسمبر. وقد أعلن الأمر الجديد أن القرية منطقة عسكرية مغلقة، ومنع أي شخص من الدخول إليها، أو الخروج منها (لكنه لم ينص على ترحيل أي من الموجودين فيها). وخلال ذلك الأسبوع كانت عودة القرويين إلى قريتهم، والسكن فيها، قانونية ومشروعة (أُشير إلى هذا الأسبوع باسم “أسبوع العدالة”). وفعلاً، عاد عدد من الأشخاص خلال “أسبوع العدالة” واستقروا في القرية. وبعد ذلك، أصبحت العودة إلى القرية أمراً غير قانوني مرة أُخرى.
قدّمت مجموعتان من السكان التماساً جديداً إلى المحكمة العليا (يشار إليه فيما بعد بالغابسية 2)، وتحمل القضية الرقم (HC 288/51 and 33/52, PD (9) 689). طالبت المجموعة الأولى بالبقاء في القرية، نظراً إلى أن عودتهم إليها تمت خلال أسبوع العدالة. وكانت المجموعة الثانية مكونة من الأشخاص الذين لم يتمكنوا من العودة إلى القرية خلال أسبوع العدالة، وقد قال هؤلاء أنهم كانوا يحاولون العودة منذ عامَين، إلاّ إن الجيش منعهم. إلى جانب ذلك، وبما أن الأمر العسكري الأول كان باطلاً، ونظراً إلى أن محاولاتهم للعودة جرى إحباطها بشكل غير قانوني، فبالتالي يجب التعامل معهم كما لو أنهم عادوا إلى القرية؛ ويجب عدم السماح للقائد العسكري بالاستفادة من أفعاله غير القانونية. لكن المحكمة رفضت حججهم هذه، وخلصت إلى ما يلي:
لا سبيل في رأينا إلى أن يبني الملتمسون حقهم في الاستقرار في قريتهم على الأحداث التي وقعت قبل صدور قرار المحكمة في القضية رقم 220 / 51: فقد مر أسبوع بعد صدور هذا القرار، قبل أن يتم نشره في الجريدة الرسمية، وخلال هذا الأسبوع (من 30 تشرين الثاني / نوفمبر إلى 6 كانون الأول / ديسمبر)، كان القرويون أحراراً في العودة إلى قريتهم، وقد استفاد بعضهم من هذه الحقيقة، لكن البعض الآخر لم يستفد منها. وبما أنه خلال تلك الأيام كان لديهم حرية التنقل والتصرف، فلا يوجد سبب للعودة إلى الأحداث السابقة، كما لو أنهم أُجبروا على البقاء خارج القرية. وحتى لو كان الملتمسون على حق في أن وقائع قصتهم أجازت لهم منذ البداية العودة إلى قريتهم، إلاّ إنهم لم يتمكنوا من تحقيق هذا خلال ذلك الأسبوع، ومَن لم يفعل ذلك منهم، يفقد حقه في العودة (الغابسية 2: ص 693).
أجرت المحكمة تحقيقات فردية ضمن المجموعة الأولى، لتحدد بدقة مَن الذي عاد ومتى، وكتبت قرارها متعمقة ومتفحصة لتحركات كل فرد كأنه سيد نفسه ومسؤول عن قراراته وتحركاته وخياراته، أي كأنه ذات مستقلة تملك إرادتها، مسؤولة عن أفعالها لأنها تنبع من حرية العمل والحركة. وتعاملت المحكمة مع هذه المعلومات كما لو كانت أدلة قانونية، وتوصلت إلى استنتاج فحواه أنه بين 35 شخصاً ادعوا أنهم عادوا، لم يُثبِت ذلك سوى ثلاثة، فتم السماح لهم بالعودة.
الأمر المشترك بين كلا القرارين هو محو المحكمة لآثار العنف التأسيسي، واستخدامها لغة الشرعية والمعيارية لتناقش سيادة القانون والحقوق القانونية لمقدّمي الالتماسات. وبالتالي، إذا كان القرويون قد خسروا، فإن ذلك يرجع إلى أنهم اختاروا التصرف كما لو أنهم يتنازلون عن حقوقهم. لقد وقعوا في هذا المأزق نتيجة اختيارهم الحر، فهم مَن ألّفوا حياتهم الخاصة، وخطّوا أقدارهم بأيديهم. لم يكونوا مقهورين، وإنما كانوا ذواتاً فاعلة تقرر ما تشاء، وعليها بالتالي تحمّل نتائج خياراتها وأفعالها.
بعد الهزيمة في الحرب، والتشتت الذي أعقبها، وجد كثيرون من الفلسطينيين أنفسهم على الجانب الآخر من الحدود، بعيداً عن عائلاتهم ومنازلهم. وجرّاء ذلك، عُرضت مئات القضايا على المحكمة العليا، بشأن لمّ شمل العائلات، وطلب المواطَنة والإقامة، وغيرها من القضايا التي طالب فيها الفلسطينيون بحق البقاء داخل حدود دولة إسرائيل. ولم يكن في وسع المحكمة رفض تلك الالتماسات أو قبولها بالجملة، لهذا حاولت إيجاد نظام معياري، لا يقوم فقط على القوة، من أجل معالجتها. ولتحقيق ذلك كان يلزمها أمران: وضع تصنيفات معيارية، وتشكيل ذات فلسطينية قادرة على الاختيار. وبناء على هذين الأساسين أصبح لدى المحكمة القدرة على أن تقرر وتبرر قرارها ليس بصفته تعسفياً، وإنما باعتباره النتيجة الحتمية للمنطق القانوني والمعياري الذي أسسته.
والتمييز الرئيسي الذي اعتمدته المحكمة، خلال تلك الأعوام، هو التمييز بين الفلسطينيين الذين غادروا البلد “طواعية”، وأولئك الذين “أُجبروا على المغادرة”. وفي هذا الإطار، يكون أولئك الذين “اختاروا” المغادرة قد اتخذوا، ببساطة، قرارهم بألاّ يكونوا جزءاً من دولة إسرائيل. وهكذا، وجد الفلسطينيون أنفسهم فجأة، وفق هذا المنطق، مؤلِّفي أقدارهم، والمحكمة ليست سوى أداة لتنفيذ إرادتهم.
وفي جميع الحالات، سواء قبلت المحكمة الالتماس أو رفضته، فإنها اعتمدت التمييز بين الذين غادروا طوعاً، وأولئك الذين غادروا مجبرين، وقلّلت من شأن الطابع التعسفي للعنف الذي صاحب إنشاء دولة إسرائيل، لكنها في المقابل أعطت الصدارة للغة القانون / تحديد المعايير. وفي الوقت الذي قلّلت من دور إسرائيل وجيشها، نجدها بالغت إلى أقصى حد في تقدير ذاتية الفلسطيني. وهكذا، بعد تدمير المجتمع الفلسطيني، أوجدت إسرائيل عامة، والنظام القانوني خاصة، نظاماً قضائياً وخطاباً قادرَين على استيعاب الذات الفلسطينية المبتورة عن شعبها، ومحو قصة تشريد الفلسطينيين المعقدة. لقد تحدثت إسرائيل بأكثر من صوت واحد: صوت القائد العسكري، وصوت المحكمة العليا، على الرغم من كونهما جزءاً من مشروع الاستيطان نفسه. القائد العسكري ضرب بسيف القوة، والمحكمة بسيف القانون والعدالة.
2 – إيمان الفلسطيني بنفسه كذات
لقد حاول الفلسطينيون تحييد هذا العنف التأسيسي بشتى الطرق، وذلك من أجل البقاء في قيد الحياة، كما حاولوا تكييف أنفسهم مع النظام السياسي والقانوني الإسرائيلي. وبالكاد يستطيع المرء أن يجد أثراً لمناقشات علنية جادة بين الفلسطينيين في إسرائيل بشأن مشاركتهم، أو عدم مشاركتهم، في انتخابات الكنيست الأولى، وتحوّلهم إلى جزء من الدولة التي أقيمت للتو على أنقاض قراهم ومدنهم. بدا الأمر كما لو أن الطرفين كليهما – دولة إسرائيل، والمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل – توصلا إلى اتفاق لترك أحداث النكبة جانباً. أرادت إسرائيل فعل ذلك بشكل نهائي، من أجل تنظيف مسرح الجريمة، ونسيانها، والتصالح مع وجودها، كما كانت راضية نسبياً عن تمكّنها من طرد الأغلبية العظمى من الفلسطينيين، بحيث لم يبقَ سوى عدد قليل منهم، مع أن محاولات الترحيل استمرت طوال الخمسينيات، وبقي شبح الترحيل مخيماً على الأجواء والنفسيات. وبالنسبة إلى الفلسطينيين الذين بقوا، فإن بقاءهم بحد ذاته كان شبه معجزة. نقول “شبه” لسبب بسيط هو أن بقاءهم على أرضهم في تلك المرحلة كان واقعاً هشاً، وليس أمراً منتهياً. وكان على هؤلاء الفلسطينيين “تعليق” هزيمتهم، كي تستمر حياتهم بديناميات تم التعبير عنها في العديد من الأعمال الأدبية (حبيبي 1974؛ خوري 2016).
لا عجب إذاً إن رأينا أن بعض القادة الفلسطينيين تبنّى لغة المواطَنة، في الأعوام الأولى للدولة، واستخدمها للمطالبة بالمساواة في الحقوق في دولة إسرائيل الجديدة، كما لو أنها دولته. لقد مكّنتهم لغة المواطنة من أن يزاوجوا بين الهزيمة وبين الفعل السياسي المحدود. فعلى سبيل المثال، ألقى توفيق طوبي، عضو الحزب الشيوعي الإسرائيلي في الكنيست، خطاباً بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لتأسيس دولة إسرائيل (بينما كان تهديد الترحيل لا يزال يحوم فوق رؤوس الفلسطينيين)، قال فيه:
هناك سبب وجيه للافتراض… أن القوى الإمبريالية ستشجّع الدول العربية على خوض حرب جديدة [ضد إسرائيل]، هي الجولة الثانية. ثمة مَن يسأل محقاً، ماذا سيكون موقف الأقلية العربية في دولة إسرائيل، في مثل هذه الحالة؟ البعض سيتهمهم بأنهم طابور خامس يجب القضاء عليه قبل اندلاع هذه الحرب… إن القوى الديمقراطية العربية في دولة إسرائيل، ترى في كل هجوم، من جانب الدول العربية الرجعية، على استقلال إسرائيل تدخلاً إمبريالياً جديداً، وهي مستعدة للقتال والكفاح ضده، جنباً إلى جنب مع الجماهير اليهودية… وعلى غرار جميع المواطنين المستقيمين في هذه الدولة، فإننا سنقاتل من أجل استقلال وسيادة دولة إسرائيل. سنقاتل من دون أي تحفظات.
وفي خطاب آخر في الكنيست، ادعى توفيق طوبي أن دولة إسرائيل تميز ضد مواطنيها العرب، حتى في مسألة التجنيد في الجيش، إذ أغلقت الباب أمام أولئك الشباب العرب الذين كانوا على استعداد للتسجيل للانخراط في الجيش (Knesset Protocol 1950).
لقد اعترف الشيوعيون الفلسطينيون علناً بحق إسرائيل في الوجود، وهي خطوة أعقبت دعمهم خطة التقسيم التابعة للأمم المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أنهم كانوا، أيضاً، أول مَن نشر الخطاب السياسي والقانوني بشأن الحقوق والمساواة، استناداً إلى خطاب المواطَنة، كما كانوا أول مَن استخدم هذا الخطاب ضد دولة إسرائيل من أجل تقديم المطالب إلى الدولة، ونشر لغة وخطاب الحقوق والمساواة. ومع ذلك، لم يتخذ جميع الفلسطينيين – ولا حتى الشيوعيين الفلسطينيين كلهم – هذا النهج، ولم يستخدموا هذه اللغة، بل كانت اللغة والمطالب متنوعة. وقد تم توثيق الدور الذي قام به الشيوعيون، خلال الأعوام الأولى، في تنظيم المجتمع الفلسطيني، ومحاربة النظام العسكري (Cohen 2010, pp. 39-64; Kaufman 1997; Robinson 2013)، وميّز البعض بين الخطاب السياسي الرسمي للشيوعين، والذي ركز بالدرجة الأولى على خطاب المواطَنة، وبين ما ورد في الإنتاج الثقافي (شعر، روايات، أدب) للكتّاب الشيوعيين، والذي اعتمد لغة السكان الأصليين لمواجهة ومعارضة المشروع الاستيطاني الصهيوني (غانم 2009). وعلى سبيل المثال، أمضى أحد القادة الشيوعيين بضعة أشهر في السجن، لعدم احترامه العلم الإسرائيلي (“كول هعام” 1956). وهكذا، لم تكن دولة إسرائيل وحدها مَن تحدث بأكثر من صوت في الوقت نفسه، بل فعل كذلك أيضاً الفلسطينيون والشيوعيون. لقد كان الخطاب الوطني والمدني حاضراً، غير أن خطاب المواطَنة كان هو المهيمن على الساحة، وذلك لأسباب واضحة.
وهكذا، نشأت المواطَنة الإسرائيلية للفلسطينيين الذين قبلوا وجود الدولة، مع اعتراضهم على بعض جوانب طبيعتها ومضمونها، لكن يجدر التساؤل عن معنى المواطَنة في هذا السياق، وماذا تعني المساواة بين المهزوم والمنتصر: بين أهل البلد الأصليين والمهاجرين المستوطنين، بين مَن يخسر وطناً وأهلاً ومَن يصنع وطناً، بين مَن يخسر أهله وشمله ومَن يجمع أهله وشمله. إنها حالة خلاف (differend) وفق تعبير ليوتار (Lyotard 1989, p. xi; Zreik 2012, p. 185)؛ الحالة التي لا يوجد فيها، غالباً، أي شي مشترك ما بين المجموعتين المتنازعتين، ويغيب فيها أي قاسم مشترك من شأنه أن يشكل أساساً للحكم في نزاعاتهما. كما أن المجموعتين في الواقع تنكر إحداهما الأُخرى، والأمر ليس مجرد وجود اختلاف أو عدم مساواة، إذ من غير المجدي، بل إنه مثير للشفقة، أن تطلب المساواة، وتتوقع الحصول عليها من الكيان الذي أسس نفسه على أنقاض وطنك. ومع ذلك، يمكن القول إن هذا هو الخيار الوحيد الذي تُرك متاحاً للفلسطينيين في إسرائيل، ولم تجسد أي جماعة هذا النهج بشكل أكثر وضوحاً من الحزب الشيوعي الذي تشبث بمفهوم مشوّه ومعطل للمواطَنة. وكان هذا المفهوم واهياً ومجوفاً إلى حد كبير، إلاّ إن الشيوعيين لم يهتموا لذلك، وقرروا أن يسكنوا هذا الفضاء المفاهيمي، ويجعلوه حجر الزاوية في نضالهم، ولاحقاً في نضال جميع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل تقريباً. وهكذا، من بين حطام الهزيمة، وُلد مواطن.
ببطء، لكن بثبات، أصبح المواطنون الفلسطينيون أكثر وضوحاً وتنظيماً، وكانت أواخر ستينيات القرن الماضي حاسمة في هذا الصدد: أولاً، بدأ التخفيف البطيء للنظام العسكري المفروض على الفلسطينيين في إسرائيل (الذي لم ينتهِ ببساطة في يوم واحد، وإنما كان مساراً طويلاً امتد حتى آخر السبعينيات)، الأمر الذي سمح للفلسطينيين بأن يصبحوا أكثر اندماجاً في المجتمع الإسرائيلي بصورة عامة، وإن كان على الهامش، وأعطى معنى ما لمفهوم المواطَنة الإسرائيلية (Degani 2015, p. 98). ثانياً، احتلت إسرائيل ما تبقّى من فلسطين خلال حرب سنة 1967، وصار من الواضح للجميع أن إسرائيل وُجدت لتبقى، وما كان يُنظر إليه على أنه حدود الهدنة، أصبح يُعرف باسم الخط الأخضر، وتم الاعتراف به كحدود سياسية. حقاً، وُلدت إسرائيل ككيان سياسي في سنة 1967، ولم يكن قرار الأمم المتحدة رقم 242، وكذلك القرار رقم 338، إلاّ دليلاً على المنطق الجديد من خلال حظر الاستيلاء على الأراضي بالقوة، فقط في المناطق المحتلة سنة 1967، اعتُرف بإسرائيل داخل حدود سنة 1949 كحقيقة. علاوة على ذلك، أصبح لحقوق المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل معنى أكبر نسبياً، على عكس المجموعة الجديدة من الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، والذين حُرموا من الحقوق الأساسية، بما في ذلك الحق في التصويت بدءاً من سنة 1967. وأخيراً، ساعد تجدد التفاعل بين الفلسطينيين في إسرائيل، وإخوتهم في الضفة الغربية، على توحيد أجزاء كبيرة من الأمة مرة أُخرى، وتعزيز الهوية الفلسطينية والعربية، وساهم في صعود منظمة التحرير الفلسطينية خلال الستينيات.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى صعود الخطاب المدني، والخطاب الوطني للهوية، في الوقت نفسه، ومن جانب الشعب نفسه. وشهدت السبعينيات خطاباً وطنياً أكثر ثقة، قاده الشيوعيون أنفسهم، وبلغ ذروته في احتجاجات يوم الأرض في سنة 1976. بل بدأت اللغة بالتحول، وصار التركيز على الهوية الوطنية أكثر زخَماً. وفي هذا الصدد، يُعدّ المؤتمر الذي كان مزمَعاً عقده للعرب في إسرائيل، والذي تم حظره في سنة 1980، علامة فارقة في تاريخ الأقلية الفلسطينية، وتنظيمها الذاتي على أساس وطني (لجنة الكفاح 1981؛ متسبين 1980). وقد بدأت خلال تلك الفترة مجموعات سياسية أُخرى بالتنافس مع الشيوعيين على تمثيل الفلسطينيين داخل إسرائيل، أولها الحركة التي عُرفت باسم “الأرض”، والتي تعتبر نفسها جزءاً من الحركة القومية العربية الأوسع (قهوجي 1978). وقد حاولت “الأرض” خوض انتخابات الكنيست في سنة 1965، لكن تم استبعادها (Harris 2004).
وفي الثمانينيات، وأوائل التسعينيات، خاضت الحركة التقدمية التي تأثرت بحركة “الأرض”، انتخابات الكنيست، قبل أن تختفي ويتم دمجها في حزب التجمع الوطني الديمقراطي (Ghanem 2001, pp. 158–171).
المجموعة الأُخرى التي تأثرت بحركة “الأرض” هي حركة “أبناء البلد” التي تأسست في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، وقد ظلت تلك الحركة لأعوام ملتزمة بمقاطعة انتخابات الكنيست، حتى منتصف التسعينيات حين انضم بعض أعضائها إلى حزب التجمع، ورشحوا أنفسهم للانتخابات.
أمّا الحركة الإسلامية التي تأسست في سنة 1971 على يد الشيخ عبد الله نمر درويش، فانقسمت في سنة 1996، بعد توقيع إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية اتفاق أوسلو في سنة 1993، وبعد الاعتراف المتبادل، إلى فرعين: شمالي وجنوبي. وقد أعلن الفرع الجنوبي عزمه على المشاركة في انتخابات تلك السنة (Aburaiya 2004; Ghanem and Mustafa 2014)، في حين بقي الفرع الشمالي خارج الكنيست، قبل أن يتم حظره في سنة 2015 (Nasasra 2018).
وخلال التسعينيات، رفع حزب التجمع – بقيادة عضو الكنيست عزمي بشارة – شعار “دولة لجميع مواطنيها”، كتحدٍّ لطبيعة دولة إسرائيل كدولة قومية يهودية خالصة. وفي الوقت نفسه، بدأ هذا الحزب بالمطالبة بالاستقلال الثقافي، وبالتالي أخَذ خطاب الهوية إلى أقصى الحدود، كما استثمر مصطلح المساواة بمعنى جديد، عبر بلورة خطاب المواطَنة من داخله، إذ استخدم خطاب المواطَنة، والحقوق الليبرالية، لتحدي هيكل الدولة الإسرائيلية كدولة استيطانية تسعى للسيطرة على المواطنين الفلسطينيين بنيوياً (Jamal 2006; Zreik, Part II, Fall 2003).
بلغت هذه الجهود ذروتها في أعوام الألفين، عندما صدر ما عُرف باسم “وثائق الرؤية المستقبلية” (Ghanem and Mustafa 2009; Ozacky-Lazar and Kabha 2008)، والتي تجمع ما بين جانبَي الوجود الفلسطيني في إسرائيل المنفصلَين، وهما الهوية والمواطَنة، والوطن والدولة. واعتبر واضعو هذه الوثائق أن إسرائيل قامت على مشروع استيطاني استعماري، ومع ذلك اعترفوا بحق الشعب الإسرائيلي – اليهودي في تقرير مصيره في فلسطين، بينما طالبوا بما يمكن أن يعتبره البعض دولة ثنائية القومية (لكن “وثائق الرؤية” لم تطلب ذلك) تقوم على أساس المواطَنة المتساوية (Adalah 2007; Jabareen 2007; Mada al-Carmel 2007; Rinawie-Zoabi 2006).
II – القصة المقابِلة: من منظمة التحرير
الفلسطينية إلى السلطة الفلسطينية
الجانب الثاني لهذه القصة هو صعود منظمة التحرير الفلسطينية وسقوطها، وتحولها من حركة تحررية تأسست من أجل معارضة وجود دولة إسرائيل، وتحرير فلسطين من الدولة الصهيونية، إلى منظمة تسعى لمحاكاة الدولة اليهودية، عن طريق إقامة دولة وطنية فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل، ومنفصلة عنها. إنها قصة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية للسلطة الفلسطينية، بحكم الواقع، ككيان غير منفصل عن إسرائيل، بل إنه “داخل” إسرائيل إلى حد ما، وفي خدمتها وإن كان بشكل غير مباشر. وإذا كان الجانب الأول للقصة يحكي قصة التحول من التواطؤ إلى المقاومة، فإن الجزء الثاني هو التحول من المقاومة إلى التواطؤ. لكن كما ستُظهر القصة، فإن بذور المقاومة كانت موجودة فعلاً، حتى عندما كان التواطؤ على السطح، وكانت بذور التواطؤ موجودة، حتى عندما لم يظهر على السطح سوى المقاومة.
1 – من لاجئين إلى منظمة التحرير الفلسطينية
تأسست حركة “فتح”، وهي الفصيل الرئيسي داخل منظمة التحرير الفلسطينية، خلال الستينيات، وكان الدافع الرئيسي إلى تأسيسها هو الشعور بخيبة الأمل لدى جيل جديد من الفلسطينيين الذين كانوا ناشطين لبعض الوقت في صفوف الإخوان المسلمين في مصر، والأحزاب القومية العربية، سواء في نسختها الناصرية أو البعثية. فقد تبيّن مع مرور الوقت أنه، وعلى الرغم من كثرة الشعارات الملتهبة والملأى بالعواطف، لم يكن لدى مصر، أو سورية، أي خطط جدية لمهاجمة إسرائيل من أجل تحرير فلسطين (Baumgarten 2005, p. 30). والأمر نفسه ينطبق على الإخوان المسلمين: لم تكن فلسطين على رأس جدول أعمالهم، وإنما أعطوا الأولوية لمهمة أسلَمة المجتمع، والثقافة، قبل الشروع في تحرير فلسطين. وفي هذا السياق، اجتمع لدى “فتح” موضوعان أساسيان: الأول هو الوطنية الفلسطينية التي كانت مستقلة إلى حد كبير عن أي حركة عامة، أكانت قومية أم إسلامية أم ماركسية، مع تركيز “فتح” على قضية فلسطين في حد ذاتها. أمّا الموضوع الثاني فكان نضال “فتح” المسلح، وتشديدها على البندقية كرمز لها، وحرصها على صورة الفدائي المناضل من أجل الحرية، والذي يضحّي بحياته من أجل الكفاح ضد الكيان الصهيوني.
تأسست منظمة التحرير الفلسطينية رسمياً في سنة 1964، من طرف الجامعة العربية، كدمية تقريباً، بيد النظام المصري، لكنها سرعان ما أصبحت تحت سيطرة “فتح” التي انضم إليها فيما بعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة جورج حبش، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين برئاسة نايف حواتمة (Hamid 1975). وقد عكست هاتان الأخيرتان القوة المتزايدة للتأثيرات اليسارية والماركسية في حركات التحرير طوال الستينيات.
والأمر الأكثر أهمية بالنسبة إليّ هنا، هو تحول خطاب منظمة التحرير الفلسطينية بين الستينيات والثمانينيات، من خطاب يركز على الرغبة في أن تحل محل إسرائيل، وأن تستوعب اليهود الإسرائيليين داخل دولة فلسطينية تقوم على كامل فلسطين التاريخية، إلى خطاب يركز على هدف إقامة دولة فلسطينية، تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل. وكان ميثاق منظمة التحرير لسنة 1964 بالكاد قد ذكر الإسرائيليين اليهود، لكن تم تعديله أواخر الستينيات، ليدمجهم في الدولة الفلسطينية المحرَّرة والمنشودة، لكن من دون الاعتراف بهم كأمة تستحق حكماً ذاتياً جماعياً، أو تتمتع بحقوق وطنية (Farsakh 2011, p. 57; Ghanim 2016, p. 342; Zreik 2011).
ومثلما لاحظ العديد من المعلقين، فقد حدث تحول كبير في السبعينيات، بعد هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن، وحرب تشرين الأول / أكتوبر 1973، التي انتهت بقمة الرباط في سنة 1974. ومن المفارقات أن هزيمة حرب 1967 أدت إلى اندلاع حرب تشرين الأول / أكتوبر. وبينما ينظر البعض في العالم العربي إلى هذه الحرب كانتصار، فإنها، واقعاً، قادت إلى الاستسلام، وبالتحديد إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد ما بين مصر وإسرائيل في سنة 1978. بيد أن الرياح التي دفعت هذه القوى نحو كامب ديفيد، بدأت تهب فعلاً في الأيام الأولى من سنة 1974، عندما حظيت منظمة التحرير الفلسطينية، في الرباط، بالاعتراف بها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني (المولود كذات سياسية)، وقبلت، في الوقت نفسه، فكرة قيام دولة فلسطينية على أي جزء يمكن تحريره من فلسطين: بعبارة أُخرى، دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب مع إسرائيل (Ajami 1982, p. 8; Taylor 1982, p. 77). كانت تلك أفضل أعوام منظمة التحرير الفلسطينية، فقد اكتسبت اعترافاً عربياً وعالمياً، تتوّج بخطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في سنة 1974.
إن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في سنة 1987، في الأراضي المحتلة، في أعقاب الحرب اللبنانية، وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، يشير إلى حدوث تحول آخر في السياسة الفلسطينية، وفي جغرافيا الصراع. فقد انتقل الصراع من الخارج، من الأراضي الواقعة خارج سيطرة إسرائيل، إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، أي إلى إسرائيل ما بعد سنة 1967، وأصبحت الدولة الفلسطينية المستقبلية – الأراضي المحتلة – الموقع الرئيسي لمقاومة الاحتلال. لقد تغير الصراع من صراع ضد إسرائيل، إلى صراع “داخل” إسرائيل “الكبرى” التي تشمل الضفة الغربية وغزة، وأصبح صراعاً ضد الاحتلال أولاً، وقبل أي شيء.
2 – من منظمة التحرير الفلسطينية إلى السلطة الفلسطينية
دلت عملية أوسلو، وإنشاء السلطة الفلسطينية لاحقاً على حدوث هذا التحول. فقد أصبحت القضية الفلسطينية قضية “داخلية”، واندمجت منظمة التحرير ببطء، لكن باطراد، مع السلطة الفلسطينية، على الرغم من كونهما رسمياً هيئتين منفصلتين، لكن مثلما نعلم، فإن عرفات كان رئيساً لكلتيهما معاً، وكذلك الأمر بالنسبة إلى خلَفه أبو مازن. غير أن الأمر الأكثر أهمية، كان الانتقال من المعارضة إلى التنسيق الذي أصبح، في نظر البعض، بمثابة التعاون. ولم تعد المنظمة سوى هيئة تتمتع بماضٍ ثوري مجيد يمكّنها من السماح لنفسها بتقديم تنازلات كبيرة. هذه التنازلات، والطريقة التي نجحت فيها إسرائيل في تصوير منظمة التحرير كرأس مال رمزي للمقاومة، من أجل أن تصل إلى غاياتها الخاصة، تنقلاني إلى التالي:
أحد التنازلات الرئيسية التي قدمتها منظمة التحرير الفلسطينية يتعلق بالمساومة على الماضي، وقد تم ذلك عبر قيامها بثلاث مبادرات رئيسية: الاعتراف بإسرائيل، ونبذ الإرهاب، وتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني. وتُعدّ هذه المبادرات مجتمِعة بمثابة إعادة كتابة للتاريخ، لا يمكن لأحد أن يسمح لنفسه بالقيام بها إلاّ إذا كان هو الكيان ذاته الذي أدى دوراً أساسياً في صنع هذا التاريخ.
وكانت الرسائل المتبادَلة ما بين منظمة التحرير الفلسطينية، والحكومة الإسرائيلية، الأساس الذي قاد إلى عملية أوسلو. وقد أضفت تلك الرسائل مظهراً مخادعاً من التكافؤ بين الطرفين، مع أنه لم يكن ثمة تكافؤ على نحو قاطع. فقد اعترفت المنظمة بحق إسرائيل في الوجود، من دون التطرق إلى حدودها، في حين أن إسرائيل، في المقابل، بالكاد اعترفت بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني – مع أنه لم يكن الفلسطينيون في إسرائيل متضمَّنين في هذا التمثيل (ECF 1993).
ومن الأهمية بمكان هنا الانتباه إلى طبيعة التمثيل الذي جرى الاعتراف به: فقد اعترفت إسرائيل بالطابع التمثيلي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي اعترفت بإسرائيل، كما حرصت إسرائيل باعترافها بذلك الطابع، على أن يكون هذا التمثيل واسع النطاق، وشاملاً قدر الإمكان، لأنه لا معنى لاعتراف المنظمة بإسرائيل إذا لم تمثل منظمة التحرير الفلسطينية الشعب الفلسطيني فعلاً. فإسرائيل لم تكن مهتمة بالحصول على الاعتراف بها من منظمة هامشية، وإنما من هيئة تمثيلية حقاً، ذات رأس مال ثوري رمزي (Zreik, Part I, Summer 2003, p. 41)، وقد استخدمت إسرائيل رمزية منظمة التحرير من أجل الحصول على اعتراف كامل بوجودها.
المحتوى الرئيسي الآخر في تلك المراسلات هو إقرار منظمة التحرير بالتخلي عن الإرهاب (وليس مجرد إدانته). فقد جنّدت إسرائيل منظمة التحرير الفلسطينية، باسمها المقدس، وسمعتها كحركة ثورية، لتسمّي نضالها “إرهاباً”. وهكذا وسمت منظمة التحرير الفلسطينية مقاومتها وأعمالها وممارساتها الثورية وتاريخها أيضاً، باسم “الإرهاب” (Birzeit University 1993).
وأخيراً، وفي خضم تأطير وإعادة تسمية الماضي، كان على منظمة التحرير الفلسطينية أن تعدّل ميثاقها وفقاً لذلك، من أجل إبطال جميع البنود التي تتعارض مع وجود دولة إسرائيل (Fanack 1996). ومع ذلك، فإن تعديل ميثاق منظمة التحرير – وهو وثيقة تاريخية – لم يقابله أي تعديل من جانب إسرائيل على خرائطها، أو أي اعتراف منها بدولة فلسطينية مستقبلية في الأراضي المحتلة. وهكذا، يكون الفلسطينيون قد حصروا طموحهم في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، وقصروا أدواتهم على المفاوضات، وذلك بعدما أعلنوا أن نضالهم السابق كان “إرهاباً”. وكان ما حصلت عليه منظمة التحرير، في مقابل هذا التنازل، هو المفاوضات. وبينما انسحبت إسرائيل من مراكز المدن الفلسطينية، وأعاد جيشها الانتشار في الضواحي، كان المكسب الرئيسي الذي حققته منظمة التحرير هو تحسين مكانتها على المستوى الدولي، الأمر الذي منحها بدوره القدرة على التفاوض مع إسرائيل والولايات المتحدة. غير أن تحسين هذه المكانة كان مشروطاً بتغيير وظيفتها ودورها.
وهكذا، وجدت السلطة الفلسطينية – الهيئة التي ورثت منظمة التحرير الفلسطينية، وحلّت محلها – نفسها واقعة في الفخ، إذ إنها كانت مضطرة إلى تقديم اعتذار مستمر لإسرائيل، وكان عليها أن تثبت طوال الوقت التزامها بإطار أوسلو، ولهذا الغرض وقّعت العديد من بروتوكولات التنسيق مع الجيش الإسرائيلي، أي مع سلطة الاحتلال. وبالتالي، تم اختيار السلطة الفلسطينية كمقاول فرعي يعمل من أجل أمن الاحتلال، وإسرائيل عامة (Dana and Amrov and Tartir 2017). كما وجدت السلطة نفسها تلاحق الفلسطينيين لقيامهم بأعمال مقاومة ضد الاحتلال، وتضطلع بدور الجنود الإسرائيليين. وبهذا، لم تعد السلطة الفلسطينية – التي علقت في فخ صنعته بنفسها – حركة ثورية، كما أنها لم تنجح في الوصول إلى مرتبة دولة ذات سيادة. فهي لم تستطع العودة إلى منطق الثورة، ولم يكن في قدرتها التحرك نحو بناء الدولة، واقتصر دورها على حفظ السلام؛ بيد أن حفظ السلام في حالة احتلال طويل الأمد ومستمر، يعادل الإبقاء على الوضع الراهن، أي مقاومة المقاومة نفسها. إنها ثورة اختارت الانتحار، واستخدمت رأس مالها الرمزي ضد مشروعها الوطني.
ومن المفارقات التاريخية، فعلاً، أن يكون مصدر كثير من الانتقادات الموجهة إلى اتفاق أوسلو هو الفلسطينيين داخل إسرائيل، فضلاً عن أولئك في مخيمات اللجوء والمنافي. ففي حين يخضع الفلسطينيون في الأراضي المحتلة لقيود العيش على خلفية توازن القوى بين الدول والجيوش (كما لو كانت السلطة الفلسطينية دولة)، من دون خضوعهم لنظام معياري / قانوني (باستثناء قوانين الحرب)، نجد أن علاقات الفلسطينيين في إسرائيل مع الحكومة الإسرائيلية تستند بشكل أساسي – على الرغم من أنه غير حصري طبعاً – إلى خطاب المواطَنة الذي يضع حدوداً لاختلال التوازن في القوة ما بين الطرفين: المواطنين والدولة. ومع أن خطاب المواطنة ظل ضمن النظام المعياري الوهمي نفسه، الذي تم تطبيقه في أوائل الخمسينيات، لكن يبدو أنه منح المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل حداً معيناً من إمكان النقد. وهذه المساحة سمحت لهم بتوجيه النقد إلى أوسلو منذ البداية ليس لأنهم أكثر وطنية أو ذكاء من غيرهم، وإنما لأنهم يخضعون لنوع آخر من موازين القوى مع إسرائيل المحتلة، ومع السلطة الفلسطينية في الوقت نفسه.
III – أفكار بشأن المقاومة، والتواطؤ، والخطاب
يشكل مفهوم الاستجواب عند ألتوسير نقطة في غاية الأهمية في هذا النقاش، إذ يعطي مفهوم الذات معنى مزدوجاً. فهناك ذات تتصرف في هذا العالم – بدلاً من كونها مجرد كائن سلبي – كذات حرة قادرة على الاختيار، وهناك ذات خاضعة، أو مستجوَبة. يقول ألتوسير:
يكمن غموض هذا التأثير بأكمله في اللحظتين الأولى والثانية من النظام الرباعي الذي ناقشتُه للتو، أو، إن كنت تفضّل، في التباس مصطلح الذات. في الاستخدام العادي للمصطلح، الذات تعني: (1) ذاتية حرة، ومركزاً للمبادرة، وكياناً يقوم بعمل وهو مسؤول عن تصرفه؛ (2) كياناً خاضعاً، يخضع لسلطة أعلى، وبالتالي يتم تجريده من كل حرية، باستثناء حرية قبول خضوعه (Althusser 2014, p. 269).
وهكذا، تفكر النفس الخاضعة في نفسها، من خلال الأيديولوجيا، كذات ومسبب، معتبرة نفسها سيدة لذاتها، وتعاني جرّاء هذه الذاتية في لحظة الاستجواب.
ولا بأس هنا من توضيح السياق العام لمقولات ألتوسير والفكرة الكامنة وراءها. فقد حاول ألتوسير إنقاذ الماركسية من جوانبها غير العلمية، ومن ضمن ذلك اعتقد أن على الماركسية والمادية التاريخية أن تتحررا من الفكرة المثالية بشأن وجود “الذات” ودورها في التاريخ، لأن التاريخ يمضي قدماً ويسير بناء على قوانين، لا على رغبة الذوات الفاعلة فيه.
واعتبر ألتوسير أن فكرة الذات هذه (subject) تبرز في إطار ما يسميه الآلة الأيديولوجية للدولة، فتقوم الدولة بتسخير الذات وتستخدمها في إعادة إنتاج علاقات السيطرة والإخضاع والهيمنة. وكي يسيطر النظام الرأسمالي على المجتمع وأفراده، فإن عليه أن يُقنع الذوات الخاضعة له بأنه ليس مفروضاً عليها قسراً، بحيث يقتنع هذا الفرد المواطن الخاضع بأنه سيد نفسه، وأنه يختار المنظومة الفكرية والمادية التي يعيش بموجبها، الأمر الذي يضمن نوعاً من الإيمان بأسس النظام ومبادئه، وهكذا تتوهم الذات الخاضعة بأنها ذات حرة. ويجري التعبير عن الذات الخاضعة والذات الفاعلة بالمصطلح نفسه (subject)، وهذا الغموض في المصطلح ومعناه التناقضي هو الذي يتيح للعبودية والخضوع أن يبدوا كأنهما ذاتية فاعلة ومساهمة وحرة. ومن الواضح هنا أن ألتوسير مدين لغرامشي بأفكاره، كما يبدو واضحاً تأثير ألتوسير في أفكار فوكو لاحقاً.
وتأخذ جوديث بتلر رؤى ألتوسير، فتسيّسها وتعمّمها في الوقت نفسه، وتشكّك في ذاتية واستقلالية هذا الـ “أنا” المجرَّدة، قائلة:
لا يوجد “أنا” كامنة وراء الخطاب تنفّذ إرادتها من خلاله، بل على العكس، تأتي “الأنا” إلى حيز الوجود من خلال استدعائها وتسميتها واستجوابها… وفي الواقع، أستطيع فقط قول “أنا” إلى الحد الذي تمت مخاطبتي به لأول مرة… التمييز لا يُمنح إلى الذات، وإنما هو مَن يشكّلها (Butler 1993, pp. 225-26).
وبدلاً من هذا، يشكك رولان بارت في هذه الذاتية، وذلك عبر ربط الذات بخطاب عام، لا ربطها بجهاز أيديولوجي للدولة، معتبراً أن “الذات لا تسبق اللغة؛ الذات تصبح ذاتاً بقدر ما تتحدث؛ باختصار، ليس هناك ‘ذات’ (وبالتالي لا توجد ‘ذاتية’)، وإنما يوجد متحدثون فقط” (Barthes 1989, p. 166). إن الخطاب والأيديولوجيا واللغة ليست “أشياء” في العالم المنفصل تماماً عن “الذات” التي “تنشرهم”: فنحن لا “نمتلك” اللغة بالطريقة نفسها التي نمتلك فيها السيارات (لأننا بعلاقتنا بسياراتنا نستطيع أن نتأمل ونمارس ذاتنا من دون علاقة الملكية بالسيارة)، بل على العكس، نحن نتاج اللغة والسلطة والخطاب. إنهم “يمتلكوننا” مثلما “نمتلكهم”، والذات لا تملك اللغة بقدر ما تملك اللغة الذات، والذات تستخدم اللغة بقدر ما ستستخدم اللغة الذوات.
يجد المرء مفهوماً مماثلاً لهذا في معالجة فوكو المبكرة لموضوع القوة. فمثلما أنه لا يوجد أحد خارج الأيديولوجيا، لدى ألتوسير، ولا شي خارج الخطاب، لدى بتلر، ولا شيء خارج اللغة، لدى بارت، يبدو أن فوكو يجادل بأنه لا يوجد شيء خارج القوة، الأمر الذي ربما يصل إلى حد القول بأنه لا يوجد إمكان للمقاومة. يقول فوكو إن “المقاومة ليست أبداً في موقع خارجي بالنسبة إلى القوة”، وأنه “لا يوجد مكان واحد للرفض الكبير، روح التمرد، مركز جميع أنواع العصيان” (Foucault 1990, p. 95). وبالنسبة إلى فوكو، فإن الذات لا تتعارض مع القوة: “الفرد ليس في مقابل القوة؛ إنه، في اعتقادي، أحد آثار القوة” (Foucault 1980, p. 98).
ومع ذلك، فإن القول إنه لا يوجد “مكان واحد للرفض الكبير”، لا يرقى إلى الادعاء أن المقاومة مستحيلة. فالمقاومة ممكنة، لكن ليس ضد القوة. المقاومة تبسط القوة عبر مقاومتها، وهذا ما يمكن للمرء فهمه من تأكيدات فوكو بأنه “حيث توجد قوة، لا بد من وجود مقاومة” (Foucault 1990, p. 95). وبالنسبة إليّ، أعتبر هذه العبارات تعني أنه، نظراً إلى أن القوة والمقاومة تشكل إحداهما الأُخرى، فإنه لا يمكن اعتبار المقاومة واقعة خارج شبكة علاقات القوة تماماً. وكي تتمكن المقاومة من “التحدث” إلى القوة، فإن الاثنين يجب أن يتقاسما وسيطاً، أكان خطاباً، أم لغة، أم مجموعة من العلاقات. المقاومة موجودة في كل مكان، تماماً مثلما هي القوة في كل مكان. بهذا المفهوم، نشر فوكو مصطلح “القوة” بمعنى الشمولية، أو شبكة من العلاقات ما بين الهيمنة والمقاومة قائمة على الحوار، أو الصراع، أو المنافسة، أو الحديث فيما بينهما. وبهذا المعنى، فإن القوة قدَر، بالطريقة نفسها التي تكون بها اللغة قدَراً، أمّا الهيمنة فليست قدَراً، وإنما هي موقف داخل القوة. ويمكن للمرء أن يقاوم السيطرة، لا بل من المجدي مقاومتها. ويتضح الفرق أكثر في أعمال فوكو اللاحقة، وذلك من خلال التباينات الواضحة التي يميزها بين السيطرة والقوة (Foucault 1997, p. 283). وهكذا فإنه يخلق فضاء مفاهيمياً ومساحة ما بين السيطرة والقوة، وهذا الشرخ الموجود بين القوة والسيطرة يسمح لنا بأن نفكر في الإمكان القائم دائماً، للوجود داخل شبكة القوة، لكن في منجاة من السيطرة في الوقت ذاته. ونظراً إلى أن القوة موجودة في كل مكان، فإن المقاومة موجودة أيضاً في كل مكان: “نقاط المقاومة هذه موجودة في كل مكان من شبكة القوة” (Foucault 1990, p. 95).
إنني أدرك تمام الإدراك أن هذه القراءة التي أقدمها هي قراءة سخية لفوكو بشأن إمكان المقاومة، لأنه في الواقع، فإن المقاومة التي يقدمها فوكو هنا هي من النوع الجمالي / الفردي نوعاً ما، وأقل جماعية / سياسية، والحيز الذي يفتحه يظل ضيقاً، ولم يحظَ بالقدر الكافي من البحث والدراسة النظرية. ولا أسعى من خلال محاولة جلب فوكو إلى جانبي، لدحض الحجة التي قدّمها ألتوسر وبتلر وبارت، والتي تشكك في وجود الذات، بذريعة وقوعها دائماً في شبكة اللغة والأيديولوجيا والسلطة. بل عوضاً عن ذلك، أقوم بتطوير حجتهم للوصول بها إلى منتهاها، وأجرؤ على الطلب منهم أن يكونوا جدليين وتاريخيين، كما أتخذ واحدة من رؤاهم الأساسية (التشكيل المتبادل ما بين القوة والمقاومة، والذاتية واللغة، والذات والإخضاع) من أجل الادعاء أن هناك قناة مفتوحة بين ما يبدو أنه ذات فاعلة وناشطة، وبين الذات الخاضعة التي تتوهم خضوها باعتباره فعلاً، وما بين صورة التأليف والإنشاء والصوغ وحقيقة الاستسلام للخطاب. وبالتالي، بينما يصرّون على أن الذاتية المتوهمة تولّد الإخضاع، فإني أُظهر كيف أن الإخضاع قد يؤدي إلى تمكين الذات، إذ لا يوجد أي سبب نظري، أو عملي، لاعتبار النظام مغلقاً ومحدداً أو منظّماً بالكامل، ولا حاجة للمرء إلى أن يعود إلى النزعة الإنسانية، مثلما فعل إدوارد سعيد، كي يتمكن من الانتباه إلى الثغرات، أو التناقضات الموجودة في النظام نفسه، والتي تسمح بالقيام بأعمال سياسية. وبغضّ النظر عن شكل السلطة الموجودة، أكانت إمبراطورية، أم دولة، أم مؤسسة، فإنها بالكاد تعرف ما تريده حقاً، وهناك دائماً العديد من الطرق المتنوعة لبلوغ النهاية أو الهدف. لقد أرادت الولايات المتحدة غزو العراق، لكن الأمر انتهى بتسليمه إلى أيدي عدوتها: إيران. وفي مقابل هذه القراءة البنيوية المغلقة، أجد أنه من الضروري تقديم تصوّر وقراءة تاريخية تتخلص من الأنظمة المغلقة، وتسمح بعلاقات أكثر دينامية بين البنية والذوات (Thompson 1978, p. 6). صحيح أن أفعال الوكيل مقيَّدة بالسياق الذي تقع فيه، إلاّ إن السياق نفسه ليس واحداً، وإنما متعدد، وبالتالي لا حدود له. ووجود التباين والتناقضات في السياقات هو الذي يسمح للذات بالظهور. كما أن الذاتية الموهومة قد تساعد في أن يقبل المهزوم هزيمته ويذوّتها ويقبل عبوديته لأنه يعتقد أنه هو الذي اختارها ويتصالح مع الواقع، فإن الجانب الآخر للمعادلة قد يحدث. إذ قد تكون الهزيمة وقبول قوانين اللعبة الجديدة، هي بداية لذات جديدة في لعبة جديدة.
نعود إلى الفلسطينيين في إسرائيل. يمكن للمرء أن يقدم حجتين معاكستين لجمهورين مختلفين. فلأولئك الذين يحبون التفكير في أنفسهم كمواطنين / ذوات، ويفتخرون بمواطنتهم كإنجاز، يمكن القول إن ثمن تحقق هذه المواطَنة – الذات كصاحبة حقوق – كان تجزئة المواطنين الفلسطينيين، وفصلهم عن مجتمعهم الأوسع. بعبارة أُخرى، يصبح المرء مواطناً عندما يقبل الخسارة، فالمواطن الفلسطيني يأتي إلى الوجود، حاملاً انفصاله المجتمعي معه في الوقت نفسه. ليس الأمر مجرد تزامن، بل هما وجهان لعملة واحدة.
من ناحية أُخرى، لأولئك الذين يتهمون الشيوعيين بالتواطؤ، يمكن القول إن التواطؤ قد يكون شرطاً مسبقاً لإنشاء لغة، الأمر الذي يتطلب بعض الاستسلام النسبي للخطاب، والنظام المعياري السائد. لكن، لدى هذا التواطؤ قدرة محدودة جداً على تغيير الخطاب. وكي يستطيع الخطاب السائد أن يسعى لدمج غيره، فهو بحاجة إلى تقديم بعض التعديلات والتسهيلات، ومع ذلك، لا تبشر عملية الاندماج والتعديل بالكثير، كما أنها لا تضمن شيئاً. حتى إن البعض يقول إنك لا تستطيع أبداً تدمير منزل السيد، باستخدام أدوات السيد (Lorde). وتتوقف النتيجة على توازن القوى داخل نظام الخطاب الجديد، وعلى نظامه المعياري، والقوى الفاعلة داخله. ولهذا، فإن الاستسلام قوة كامنة، إذ قد يفتح في بعض الأحيان الأفق أمام المقاومة، بينما في حالات أُخرى ربما يعوق ويحجب كثيراً من مسارات وأماكن المقاومة الأُخرى. وهذا ليس مدحاً للهزيمة.
أراد الفلسطينيون في إسرائيل خلال الخمسينيات أن يفكروا في أنفسهم كذوات / مواطنين، وكذلك فعلت الدولة الجديدة (على الأقل المحكمة العليا) التي عاملتهم كما لو كانوا ذواتاً، ومؤلفين لحياتهم الخاصة، وبالتالي مسؤولين عن مصيرهم. غير أن كلا الطرفين تجاهل العنف التأسيسي في سنة 1948، وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين، وكان كل منهما، لأسبابه الخاصة، “يتآمر” من أجل التغطية على لغة العنف بلغة معيارية، والنظام القائم على العنف التعسفي بنظام قائم على قواعد وقوانين. وهذا ما أنتج نظاماً معيارياً تحكمه قوانين المواطَنة التي تحصر، ظاهرياً على الأقل، جوانب من اختلال ميزان القوى. ومع أن لخطاب المواطَنة هذا سقفاً واضحاً، ويهدف إلى خلق علاقات التبعية والسيطرة التامة (Masri 2017; Sultany 2016)، إلاّ إنه قد يفسح مجالاً، وإن كان محدوداً، للمقاومة.
تأخذ قصة منظمة التحرير الفلسطينية، وتحولها إلى السلطة الفلسطينية، مساراً مختلفاً: كانت المنظمة على مر الأعوام ذاتاً استطاعت مراكمة رأس مال رمزي لا يُستهان به، فقد قاومت إسرائيل، وقامت بأعمال عسكرية وسياسية ضدها، لكن من أجل إدراجها في الحوار مع إسرائيل والولايات المتحدة، اضطرت إلى الدخول في الخطاب الرسمي. أمّا بالنسبة إلى الفلسطينيين، فكان الهدف من مؤتمر مدريد، وأوسلو من بعده، هو الدخول في هذا الخطاب، أي الحصول على مقعد على طاولة المفاوضات. لكن قبل الدخول في المحادثات مع إسرائيل، تحدثت منظمة التحرير عبر نضالها المسلح، ومقاومتها؛ ومع ذلك، لم تكن تلك المقاومة قط خارج علاقات السلطة بالكامل، وإنما كانت تهدف إلى تهيئة الظروف لإجراء الحوار، وكانت سياسية وعسكرية أيضاً. وهكذا يمكن القول إن بذور مدريد وأوسلو كانت موجودة دائماً.
لم تقبل منظمة التحرير الفلسطينية المصطلحات الإسرائيلية – الأميركية في مجملها، لكنها وافقت على كثير منها. وهناك العديد من الأسباب التي يمكن أن تفسر هذا التحول: فقدان منظمة التحرير حلفاءها الرئيسيين مع انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، والكتلة الشرقية إجمالاً، فضلاً عن الحرب على العراق، وأفول الانتفاضة. وإذا لم يكن للمرء سلطة تغيير قواعد الخطاب، فإن عملية الدخول في خطاب جديد قد تُخرسه. وفي هذه الحالة، يجب على الطرف المعني أن يمتثل ببساطة للقواعد، كي يظل جزءاً من اللعبة. ويمكن أن يشكل القيام بذلك انتحاراً سياسياً، في حال لم يكن هناك دور لهذا الطرف، غير تلك الأدوار التي كلّفه أعداؤه بها لإدامة الاحتلال: وهكذا يبقى وهم الذات القديمة موجوداً، إلاّ إن الدور المسند إليها الآن تحدد من الخارج وليس من الداخل، فهي تعتقد أنها حرة وسيدة نفسها لكنها تقوم بوظائف أُسندت إليها. وبالتالي، فإن الجانب الانتحاري من أوسلو، بالنسبة إلى منظمة التحرير، لا يكمن في مجرد اعترافها بإسرائيل، أو في تخلّيها عن بعض الأصول، أو المرجعيات، أو الحقوق، لأن من طبيعة حلول الوسط التاريخية أن يتخلى المرء عن شيء ما، في مقابل شيء آخر، بل إن المشكلة في حالة المنظمة هي أن التنازل لم يكن متبادلاً. فقد اعترف الفلسطينيون، من خلال منظمة التحرير، بحقّ إسرائيل في الوجود، وفي المقابل اعترفت إسرائيل فقط بكون منظمة التحرير هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، لا بحقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم أو الاستقلال. وفي الواقع، يمكن لمنظمة التحرير، بصفتها ممثل الشعب الفلسطيني، أن تتنازل عن هذا الحق؛ لكنها إن فعلت هذا، فإن الفلسطينيين ساعتئذ سيكونون أول مَن يقول إن منظمة التحرير الفلسطينية ليست ممثلهم الحقيقي، بينما ستقول إسرائيل العكس.
يتكرر كثيراً أن تجد السلطة الفلسطينية، خليفة منظمة التحرير، نفسها في قيد الاستجواب من طرف إسرائيل التي تطالبها بالتنديد بأي مقاومة للاحتلال، وتبرير محتوى مناهجها المدرسية التي تحرّض على إسرائيل والاحتلال، وخرائطها، والدعم المالي الذي تقدمه لعائلات الأسرى الفلسطينيين، وتسمية شوارعها بأسماء الشهداء الفلسطينيين، وما إلى ذلك (Haaretz 2017; Staff 2017). وعليها أن تبرر ما لا يمكن تبريره في إطار الخطاب الجديد الذي دخلت إليه، وأن تجيب على الأسئلة التي لا تستطيع الإجابة عنها.
إن دخول منظمة التحرير الفلسطينية في الحوار / الخطاب مع إسرائيل أدى إلى نتيجة معاكسة لتلك التي وصل إليها الفلسطينيون في إسرائيل، ولم يوصلها تواطؤها إلى أي مكان، حتى الآن. ومع ذلك، لا يوجد موقف متميز، وليس هناك نظرية عامة بشأن المقاومة. وأنا لا أزعم أن تجربة الفلسطينيين في إسرائيل تمثل قصة مثالية للمقاومة، أو أن نجاحها المحدود قابل للتعميم، أو أن فشل منظمة التحرير كان معروفاً ومفهوماً ضمناً، بل إنها، مع ذلك، قصة تعقّد فهمنا للعلاقات ما بين الذات والذاتية والإخضاع والخضوع.
* المصدر:
Raef Zreik, “Subject, Subjugation, and Subjectivity”, Comparative Literature and Culture, vol. 21, issue 3 (June 2019).
ترجمة: ريم دبيّات.
المراجع
بالعربية
حبيبي، إميل (1974). “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل”. حيفا: منشورات عربسك.
خوري، إلياس (2016). “أطفال الغيتو – اسمي آدم”. بيروت: دار الآداب.
قهوجي، حبيب (1978). “القصة الكاملة لحركة الأرض”. القدس: منشورات العربي.
لجنة الكفاح لإلغاء قرار حظر المؤتمر وللدفاع عن الديمقراطية (1981). “الكتاب الأسود (2): المؤتمر المحظور”. حيفا: دار الاتحاد للطباعة والنشر.
متسبين (كانون الأول / ديسمبر 1980). “ارفعوا أيديكم عن المؤتمر الوطني الفلسطيني في إسرائيل”. موقع “المنظمة الإشتراكية في إسرائيل – متسبين”، في الرابط الإلكتروني التالي:
https://matzpen.org/arabic/1980-11-29/defending-the-nazareth-congress/
منّاع، عادل (2016). “نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل (1948 – 1956)”. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
بالإنجليزية
Aburaiya, Issam (Spring 2004). “The 1996 Split of the Islamic Movement in Israel: Between the Holy Text and Israeli-Palestinian Context”. International Journal of Politics, Culture, and Society, vol. 17, issue 3, pp. 439-455.
Adalah/The Legal Center for Arab Minority Rights in Israel (2007). “The Democratic Constitution”,
https://www.adalah.org/uploads/oldfiles/Public/files/democratic_constitution-english.pdf.
Ajami, Fouad (summer 1982). “The Arab Road”. Foreign Policy, no. 47, pp. 3-25.
Althusser, Louis (2014). “Appendix 2: Ideology and Ideological State Apparatuses”. In On the Reproduction of Capitalism: Ideology and Ideological State Apparatus. Translated by G. M. Goshgarin. London; New York: Verso, pp. 232-272.
Barthes, Roland (1989). The Rustle of Language. Translated by Richard Howard. California: University of California Press.
Baumgarten, Helga (Spring 2005). “The Three Faces/Phases of Palestinian Nationalism, 1948–2005”. Journal of Palestine Studies, vol. XXXIV, no. 4, pp. 25-48.
Birzeit University, Institute of Law (3 September 1993). “Letter from Yasser Arafat to Prime Minister Rabin”. Israel-PLO Recognition, http://muqtafi.birzeit.edu/InterDocs/txt/365e.htm
Butler, Judith (1993). Bodies that Matter: On the Discursive Limits of “Sex”. New York: Routledge.
—– (1997). Psychic Life of Power: Theories in Subjection. California: Stanford University Press.
Cohen, Hillel (2010). Good Arabs: The Israeli Security Agencies and the Israeli Arabs, 1948-1967. California: University of California Press.
Dana, Tariq and Sabrien Amrov and Alaa Tartir (21 March 2017). “Focus On: Palestinian-Israeli Security Coordination”. Al–Shabaka: The Palestinian Police Network,
https://al-shabaka.org/focuses/focus-palestinian-israeli-security-coordination/
Degani, Arnon (2015). “The Decline and Fall of the Israeli Military Government, 1948–1966: A Case of Settler-Colonial Consolidation?” Settler Colonial Studies, vol. 5, issue 1, pp. 84-99.
ECF (Economic Cooperation Foundation) (1993). “Exchange of Letters between Chairman Arafat and Prime Minister Rabin”,
https://ecf.org.il/media_items/300
Fanack Organization (4 May 1996). The Amendment of the Palestinian National Charter,
Farsakh, Leila (Winter 2011). “The One-State Solution and the Israeli-Palestinian Conflict: Palestinian Challenges and Prospects”. Middle East Institute, vol. 65, no. 1, pp. 55-71.
Foucault, Michel (1997). Ethics: Subjectivity and Truth. Edited by Paul Rabinow. Translated by Robert Hurley. New York: The New Press, vol. 1.
—– (1990). The History of Sexuality: Volume I: An Introduction. Translated by Robert Hurley. New York: Vintage Books.
—– (1980). “Two Lectures”. In Michel Foucault. Power/Knowledge: Selected Interviews & Other Writings, 1972–1977. Edited by Colin Gordon. New York: Pantheon Books, pp. 78-108.
Gelber, Yoav (2004). Independence versus Nakba. Kinneret: Zmora-Bitan, Dvir.
Ghanem, As’ad (2001). The Palestinian-Arab Minority in Israel, 1948-2000: A Political Study. New York: State University of New York Press.
Ghanem, As’ad and Mohanad Mustafa (Winter 2009). “Coping with the Nakba: The Palestinians in Israel and the ‘Future Vision’ as a Collective Agenda”. Israel Studies Review, vol. 24, no. 2, pp. 52-66.
—– (October 2014). “Explaining Political Islam: The Transformation of Palestinian Islamic Movements”. British Journal of Middle Eastern Studies, vol. 41, no. 4, pp. 335-354.
Ghanim, Honaida (2016). “Between Two ‘One-State’ Solutions: The Dialectics of Liberation and Defeat in the Palestinian National Enterprise”. Constellations, vol. 23, no. 3, pp. 340-350.
Haaretz (1 May 2017). “Netanyahu to Abbas: If You Want Peace, Stop Paying Terrorists”,
https://www.haaretz.com/israel-news/netanyahu-to-abbas-fund-peace-not-terrorism-1.5467129.
Habibi, Emile (1982). The Secret Life of Saeed, the Ill-Fated Pessoptimist: A Palestinian Who Became a Citizen of Israel. Translated by Salma Khadra Jayyusi and Trevor Le Gassick. New York: Vantage Press.
Hamid, Rashid (Summer 1975). “What is the PLO?” Journal of Palestine Studies, vol. IV, no. 4, pp. 90-109.
Harris, Ron (August 2004). “A Case Study in the Ban of Political Parties: The Pan-Arab Movement El Ard and the Israeli Supreme Court”. Bepress Legal Series, working paper 349, pp. 2-79.
“Israeli-Palestinian Interim Agreement on the West Bank and the Gaza Strip, Washington 28 September 1995”. (winter 1996). Journal of Palestine Studies, vol. XXV, no. 2, pp. 123-140.
“Israeli-PLO Declaration of Principles, Washington, D.C., 13 September 1993”. (Autumn 1993). Journal of Palestine Studies, vol. XXIII, no. 1, pp. 115-24.
Jabareen, Yousef (2007). An Equal Rights for All? On a Constitution and Collective Rights for Arab Citizens in Israel. Haifa: Mossawa Center.
Jamal, Amal (Autumn 2006). “The Arab Leadership in Israel: Ascendance and Fragmentation”. Journal of Palestine Studies, vol. XXXV, no. 2, pp. 6-22.
Jiryis, Sabri (1976). The Arabs in Israel. Translated by Inea Bushnaq. Foreword by Noam Chomsky. London: Monthly Review Press.
Kaufman, Ilana (1997). Arab National Communism in the Jewish State. Florida: University Press of Florida.
Knesset Protocol, 3 (16 January 1950). Meeting 106. 534.
Korn, Alina (September 2000). “Military government, Political Control and Crime: The Case of Israeli Arabs”. Crime, Law & Social Change, vol. 34, issue 2, pp. 159-182.
Kretzmer, David (1990). The Legal Status of the Arabs in Israel. Boulder, Colorado: Westview Press.
Leibler, Anat and Daniel Breslau (2005). “The Uncounted: Citizenship and Exclusion in the Israeli Census of 1948”. Ethnic and Racial Studies, vol. 28, issue 5, pp. 880-902.
Lorde, Audre (1984). Sister Outsider: Essays and Speeches. Berkley: The Crossing Press.
Lustik, Ian (1980). Arabs in the Jewish State: Israel’s Control of a National Minority. Austin, Texas: University of Texas Press.
Lyotard, Jean-François (1989). Differend: Phrases in Dispute. Minneapolis: University of Minnesota Press.
Mada al-Carmel (2007). The Haifa Declaration,
https://mada-research.org/wp-content/uploads/2007/09/watheeqat-haifa-english.pdf
Masalha, Nur (1997). A Land without a People: Israel, Transfer and the Palestinians, 1949-96. London: Faber and Faber.
Masri, Mazen (2017). The Dynamics of Exclusionary Constitutionalism: Israel as a Jewish and Democratic State. Oxford: Hart Publishing.
Morris, Benny (2004). The Birth of the Palestinian Refugee Problem Revisited. Cambridge: Cambridge University Press.
Nasasra, Mansour (January 2018). “The Politics of Claiming and Representation: The Islamic Movement in Israel”. Journal of Islamic Studies, vol. 29, issue 1, pp. 48-78.
Ozacky-Lazar, Sarah and Mustafa Kabha (2008). Between Vision and Reality: The Vision Documents of the Arabs in Israel, 2006–2007. The Citizens’ Accord Forum between Jews and Arabs,
https://www.iataskforce.org/sites/default/files/resource/resource-136.pdf
Pappé, Ilan (2006). The Ethnic Cleansing of Palestine. London: Oneworld.
Rinawie-Zoabi, Ghaida, ed. (2006) The Future Vision of the Palestinian Arabs in Israel. The National Committee for the Heads of the Arab Local Authorities in Israel, Adalah.org,
http://www.adalah.org/newsletter/eng/dec06/tasawor-mostaqbali.pdf.
Robinson, Shira (2013). Citizen Strangers: Palestinians and the Birth of Israel’s Liberal Settler State. Stanford: Stanford University Press.
Rubenberg, Cheryl (1983). The Palestine Liberation Organization: Its Institutional Infrastructure. Belmont, Massachusetts: Institute of Arab Studies.
Sa’di, Ahmad (2014). Thorough Surveillance: The Genesis of Israeli Policies of Population Management, Surveillance & Political Control towards the Palestinians. Manchester: Manchester University Press.
Said, Edward (2004). Humanism and Democratic Criticism. New York: Columbia University Press.
Staff, Toi (3 April 2017). “New Palestinian Textbooks ‘Teach Students to be Martyrs’ ”. The Times of Israel,
https://www.timesofisrael.com/new-palestinian-textbooks-teach-students-to-be-martyrs/.
Sultany, Nimer (2016). “The Legal Structures of Subordination: The Palestinian Minority and Israeli Law”. In Israel and Its Palestinian Citizens: Ethnic Privileges in the Jewish State. Edited by Nadim Rouhana and Sahar Huneidi. Cambridge: Cambridge University Press, pp. 191–237.
Taylor, Alan (Winter 1982). “The PLO in Inter-Arab Politics”. Journal of Palestine Studies, vol. XI, no. 2, pp. 70-81.
Thompson E. P. (1978). The Poverty of Theory. London: Merlin Press.
Zreik, Raef (September 2011). “A One-State Solution? From a ‘Struggle unto Death’ to ‘Master-Slave’ Dialectics”. Social Identities, vol. 17, no. 5, pp. 625-642.
—– (2012). “Has The Wheel Come Full Circle? Civic Service Debates in Israel”. In The Liberal Republican Quandary in Israel, Europe and the United States: Early Modern Thought Meets Current Affairs. Edited by Thomas Maissen and Fania Oz-Salzberger. Brighton, Massachusetts: Academic Studies Press, pp. 177-206.
—– (Summer 2003). “The Palestinian Question: Themes of Justice and Power. Part I: The Palestinians of the Occupied Territories”. Journal of Palestine Studies, vol. XXXII, no. 4, pp. 39-49.
—– (Fall 2003). “The Palestinian Question: Themes of Justice and Power. Part II: The Palestinians in Israel”. Journal of Palestine Studies, vol. XXXIII, no. 1, pp. 42-54.
—– (January 2010). “When Winners Lose: On Legal Language”. International Review of Victimology, vol. 17, issue 1, pp. 49-68.
بالعبرية
طوبي، توفيق (22 تشرين الثاني / نوفمبر 1949). ” الجماهير العربية ستقاتل جنباً إلى جنب مع الجماهير اليهودية ضد أي هجوم مرة أُخرى على دولة إسرائيل”. “كول هعام”، ص 2.
غانم، هنيدة (٢٠٠٩). “إعادة بناء الأمة مجدداً: المثقفون الفلسطينيون في إسرائيل”. القدس: ماغنس.
“كول هعام” (10 أيلول / سبتمبر 1956). “عقوبة قاسية لقائدين عربيين عمّاليين”. ص 1.
- المقالة نشرت في مجلة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 120، خريف 2019؟