الدولة الواحدة… مشروع مقاومة وليس رؤية فحسب

يعدّ حل الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل التراب الفلسطيني، رؤية مستقبلية وطريقا تحرريا بالمفهوم الشامل، وفي الوقت ذاته هو حلٌ عادل لقضية فلسطين، لأنه ينصف جميع تجمعات شعبنا في جميع أماكن تواجده. هو المصل المضاد للظلم الفاحش، وبديل عن التجزئة والتفتيت، وتعدد الأجندات وتصادمها. هو الحل الطبيعي الذي كان يجب أن يسود قبل أن يتوغل الاستعمار البريطاني، وبحمايته ورعايته، الغزوة الصهيونية، باعتبار أن فلسطين هي في الأصل قطر عربي، وجزءٌ من الجغرافية العربية، والتاريخ والحضارة العربية.

وإذا تذكرنا المطالب الأساسية للحركة الوطنية الفلسطينية، بعد تجددها وانطلاقها إثر النكبة فهي التحرير والعودة، والتي تطورت، أواخر الستينات، إلى مطلب الدولة الديمقراطية الواحدة (العلمانية) والتي حددت للمرة الأولى رؤيتها لحل المسألة اليهودية التي خلقها الاستعمار الغربي في قلب الوطن العربي، والمتمثل بقبول المستوطنين اليهود مواطنين متساوين في هذه الدولة، بعد هزيمة الصهيونية وتفكيك المنظومة الكولونيالية والعنصرية، وآلة القتل والقهر والنهب والسيطرة، المعتمدة من قبل هذه المنظومة. ولكن للأسف تم التخلي عن هذا الحل لأسباب معروفة، واستبداله بفكرة التقسيم التي كان قد رفضها شعب فلسطين وحركته الوطنية، الأمر الذي مهّد لاحقا للتفريط بوحدة الحق الفلسطيني، وصولاً إلى التفاوض على كيفية تقسيم الضفة الغربية، وتنصيب نظام البانتوستانات.

التطور المهم في هذا الشأن، هو أننا اليوم، نشهد تحطم الأوهام والمراهنات القاتلة، التي امتدت على مدار أربعة عقود، وبالتوازي نشهد بداية تفتح وعي جديد، نحو العودة إلى امتلاك الفهم لطبيعة الصراع وما يترتب على هذا الفهم من استحقاقات وحلول.

ليس المقصود بحل الدولة الواحدة أن تعود فلسطين إلى قطر عربي بدون المستوطنين الأوروبيين اليهود، فهذا الأمر بات غير وارد، سوى ربما، في حرب دموية يذهب ضحيتها مئات الآلاف، قد تحصل في المستقبل البعيد جدا، ولا أعتقد أن الشعب الفلسطيني يقبل ذلك. إذ تتجه أنظار الكثير من النخب نحو نموذج جنوب أفريقيا، أو ما يشبهه، مع ما يتضمن من تحرر الإنسان الفلسطيني من الاستعمار، وتحرر الإنسان اليهودي الإسرائيلي من العنصرية الصهيونية.

    مقاومة الاستيطان جزء من البرنامج الكفاحي

لقد أحدث المستعمر تحولات جذرية في طبيعة التركيبة الديمغرافية في فلسطين. وجميع المنادين بالدولة الديمقراطية الواحدة يقبلون بالعيش المشترك، بعد تفكيك المنظومة الاستعمارية. أي أننا ندرك أنه لا يوجد عدالة مطلقة. ولا بد من القول إن حل الدولتين ليس حل وسط تاريخيا، بل هو حل تصفوي وظالم وعنصري، وأن حل الدولة الديمقراطية الواحدة هو الحل الوسط التاريخي، لأنه يقبل ببقاء المستوطنين، بعد الاعتراف بالظلم، وتصحيحه، وبعد التخلي عن الامتيازات الاستعمارية.

إن مواصلة الاعتقاد، أو الترويج لحل الدولتين، خاصة بعد أن أعلن الكيان الاستعماري، رسميا، وليس حكومة الليكود فحسب، أن فلسطين ملكه حصرياً، وأن كل فلسطين مستعمرة واحدة تقع تحت سيطرته الأبدية، هو ضرب من العبث، وإمعان في التخريب والخراب، والتيه، والأخطر إمعان في تبديد طاقات الشعب الفلسطيني، وتكريس حالة التجزئة.

إن النتيجة العملية لاستمرار اللهاث وراء وهم حل الدولتين، هي تمدد وترسخ المشروع الاستعماري الاستيطاني، في المنطقة الفلسطينية التي كان من المفترض أن يقام فيه كيان فلسطيني. ما لا يستطيع رؤيته، وإدراكه، الواهمون، وكذلك المضللون خاصة طبقة أوسلو، هو أن النقاش في المرحلة الحالية ليس بين دولتين ودولة واحدة، بل على شكل الدولة الواحدة المستقبلية، أو على نوع الاستراتيجية التحررية البديلة، إذ إن الواقع الجغرافي، الذي فرضه المستعمر، لا يترك خياراً أمام الشعب الفلسطيني، سوى استعادة فكرة فلسطين، ووحدة شعب فلسطين، أي استعادة مصادر قوة القضية الفلسطينية. والقضية الأخرى الخاضعة للنقاش هي ما إذا كان يجب تحديد نوع الحل حالياً، أو التركز في كيفية خلق ظروف نضالية تقلب الموازين وعلاقات القوة السائدة، وبعدها نجلس ونتحدث عن الحل. وهو نقاش هام جداً، وشرعي، ويصب في الخروج من شرنقة حل الدولتين نحو أفق أوسع من التفكير والتخيل. ولكننا نحن في حملة الدولة الواحدة لا نوافق على مسار واحد بل نتبنى المسارين؛ مسار تحديد الهدف النهائي للنضال الفلسطيني، الآن، وبالتوازي الخوض في مسار تشكيل جبهة فلسطينية شعبية عريضة، حول شعار، أو هدف، إعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني التحرري. نحن نتبنى مبدأ التكامل لا التضارب بين البرامج والاسترتيجيات التحررية. وهذا ينبع من توجهنا ومن نظرتنا لحل الدولة الواحدة، باعتباره مشروعاً وحدوياً ومشروع مقاومة، وكفاح طويل المدى؛ مقاومة ثقافية، وأيديولوجية، وسياسية، وشعبية، وميدانية. وهو أيضاً عملية بناء اجتماعي، ومجتمعي، ومؤسساتي، واقتصادي، وثقافي، يجري في خضمها، تكوين الطلائع القادمة للتغيير والنضال، والبناء الحضاري الشامل.

تفنيد الادعاء بقبول الاستيطان

إن مقاومة الاستيطان بما هو عنف، واعتداء، وعدوان، ونهب وقتل، جزء من البرنامج الكفاحي لحركة الدولة الواحدة. نحن ننظر إلى إسرائيل باعتبارها مستعمرة، بدأت استعمارها واستيطانها، في مناطق الساحل الفلسطيني، والجليل والمثلث والنقب والقدس قبل عام ١٩٤٨، ثم مدت مشروعها الاستعماري الاستيطاني إلى بقية فلسطين بعد احتلال عام ١٩٦٧، وهو مستمر حتى اللحظة ببالغ القسوة والوحشية. ومن الواضح أن المشروع الصهيوني جوهره المحو، وزرع المستوطنات، والمستوطنين، في وطننا، وهو التحدي الأساس امام الشعب الفلسطيني.

إن أنصار حل الدولتين يحاججون أنصار الدولة الواحدة، بأن هذا الحل يعني قبول المستوطنين في الضفة الغربية، في حين حل الدولتين، يفترض رفض وجود المستوطنات. لكن أليس أنصار الدولتين، وتحديدا فريق أسلو، هم الذين قبلوا غالبية المستوطنات، وبقاء مئات الاف المستوطنين، داخل الضفة الغربية والقدس، وفق مبدأ تبادل الأراضي، هذا ناهيك عن القبول، ومنح الاعتراف الرسمي بالمستعمرة اليهودية الصهيونية داخل الخط الأخضر، التي تستعمر، وتنهب، وتقمع مليونا ونصف مليون فلسطيني، يحملون المواطنة الإسرائيلية، والتي أيضاً تمنع عودة الملايين من أقربائهم الذين طردتهم العصابات الصهيونية، ولاحقا إسرائيل، إلى وطنهم وبيوتهم.

على المدى البعيد، فإن حل ما يسمى معضلة الاستيطان، سيتم في سياق عملية نزع الطابع الكولونيالي عن فلسطين، وتحرير اليهود من الصهيونية. ولقد حددنا في الوثيقة التي أصدرتها “حملة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية” من مدينة حيفا الفلسطينية، عام ٢٠١٨، والمُشكلة من عشرة بنود، رؤيتنا العامة لطبيعة الدولة المستقبلية، بكونها دولة ديمقراطية، دولة كل مواطنيها، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون. وكل من يعيش فيها. هذه الدولة تكون ديمقراطية دستورية تنبع سلطة الحكم وسن القوانين فيها من إرادة الشعب. وفي بند الحقوق الجماعية، جاء أنه في إطار الدولة الديمقراطية الواحدة سيحمي الدستور الحقوق الثقافية الجماعية وسيوفر الضمانات الدستورية لازدهار جميع اللغات والفنون والثقافات بحرية. ولن تحظى أي جماعة في هذه الدولة بأي امتيازات خاصة، ولن يكون لأي منها أي نفوذ أو سيطرة على الآخرين.

إن مهمة وضع برنامج مفصل لمضمون هذه الدولة، متروكة لدينامية الواقع المتغير، ولتطور العمل والتعاون بين مختلف المجموعات والأفراد المنخرطين بهذا الجهد، نظريا وعملياً. وقد جرى تطور مهم على هذا الصعيد في الأشهر القليلة الأخيرة، إذ بادرت مجموعات وأفراد ينادون بحل الدولة الواحدة، من الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات في الانضواء تحت مظلة “حملة الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية” التي انطلقت من مدينة حيفا أوائل عام ٢٠١٨، بهدف تطوير العمل الجماعي، وتجميع عوامل قوة، والمضي باتجاه التحول نحو حركة شعبية تكون رافعة هامة في توليد ثقافة سياسية، وتحررية، ذات بعد وطني، وإنساني، ونهضوي شامل، وجزء من المبادرات والجهود الأصيلة الكثيرة الجارية للنهوض بالواقع الفلسطيني. وهذا التطور يعكس اتساع التأييد لفكرة الدولة الواحدة.

الرواية التاريخية الفلسطينية والحل المقترح

حل الدولة الديمقراطية الواحدة، التي يعيش فيها الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون، ليس معناه تهميش رواية السكان الأصليين، بل بالعكس، إن استعادة الرواية التاريخية الوطنية، وتوطيدها، شرط أساسي، في تشكيل القاعدة الثقافية والفكرية لهذا الحل، وشرط في إعادة توجيه الوعي نحو عدالة قضية فلسطين. إن من أخطر نتائج أوسلو ووهم التسوية، التسليم بالرواية الصهيونية الزائفة، وتشويه الوعي، وتجزئته، بحيث بات الشعب الفلسطيني وكأنه شعوب. لقد كان شرط المستعمر الصهيوني، وكذلك الحلف الإمبريالي الأميركي، في اتفاق أوسلو تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني، وإدانة المقاومة الفلسطينية، ومنح الشرعية الفلسطينية لإسرائيل، ببنيتها العنصرية والكولونيالية، وبجرائمها التي ارتكبتها على مدار تاريخ الحركة الصهيونية. كل ذلك انتهى بخلق وعي زائف، بات ممأسساً، في إطار هياكل حكم، وخطاب سياسي، وثقافي، منفصلة عن التاريخ، والجغرافية، والتطلعات الحقيقية للناس.

إن قراءة إسرائيل قراءة علمية صحيحة، وهي قراءة كانت سائدة في الخمسينات والستينات، وإعادة تعريفها على أنها ليست إلا واحدة من أحدث التجارب الاستعمارية الاستيطانية الأوروبية، الدموية، التي تم تنفيذها، بوحشية، في وطن لشعب يسكن فيها منذ آلاف السنين، مقدمة ضرورية ولا غنى عنها، في عملية بلورة مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة، وفي عملية تغيير ميزان القوى على الأرض. ذلك أن توظيف المنظور الكولونيالي لتحليل إسرائيل، واسترداد السردية الفلسطينية، التاريخية، يوحد الشعب الفلسطيني حول رؤية واحدة، ويستعيد أحد أهم مصادر قوته. أي وحدة قضيته، وعدالتها، وبعدها الأخلاقي كونها قضية نضال شعبٍ ضد نظام فصل عنصري كولونيالي ظالم، في سبيل حريته وأمنه. لقد قايضت القيادة الفلسطينية وحدة فلسطين والشعب الفلسطيني، وحقوق أكثر من ٧٠٪؜ من الشعب الفلسطيني( اللاجئين وفلسطينيي الـ ٤٨) ناهيك عن إضفاء الشرعية على الحركة الصهيونية، من خلال الاعتراف بإسرائيل مقابل وعد بدولة على ٢٢٪؜ من فلسطين. وهذا التخلي ليس فقط عن حقوقهم وهو الأخطر، بل أيضا عن دورهم وفعلهم التحرري الحقيقي ومساهمتهم في النضال.

الصراع الكولونيالي في فلسطين، هو من أعقد التجارب الاستعمارية، التي شهدها القرن العشرون. فقد نجح المستعمر في إقحام الدين والأساطير، والهولوكوست، وتمرير الادعاء بأنه نظام ديمقراطي، واستعمار متنور، وفي تعزيز وتطوير العلاقة مع الحلف الغربي الذي شكل له حاضنة أيديولوجية وسياسية منذ البدء. وتمكن، نتيجة هذه العوامل، من تصوير نفسه، كدولة تحمي القيم الديمقراطية الليبرالية الغربية، وتحمي اليهود من الملاحقة. وهذه العوامل بالطبع تشكل تحدياً حقيقياً أمام حل عادل. وسيواصل هذا المشروع الاستعماري مقاومة نداء السلام والعدالة، إلى أن يُجبر، بالنضال والضغط، وليس من خلال الإقناع، على التراجع والبدء بإعادة النظر في مشروعه، الذي بات يظهر للكثيرين في أوساط الرأي العام الغربي، ولفئات يهودية متزايدة، أنه مشروع عدواني وحروب دائمة، وهو مكان غير آمن للمستوطنين اليهود الذين ضلّلتهم الحركة الصهيونية. فهذا النظام نفسه يقدم الدلائل يومياً على وحشيته، وانتهاكه الصارخ للأعراف والقوانين الدولية، وتقادمه.

بالتأكيد أن الدولة الواحدة، والعيش في ظل نظام ديمقراطي، عادل، وإنساني، هو الكفيل بتحقيق العدالة والسلام الدائم. ولكن حتى بعد تحقيق الدولة الواحدة سيحتاج الأمر إلى سنين طويلة من العمل للتغلب على إرث الصراع وإفرازاته. لا توجد في العالم دول مثالية. غير أن هذا الحل هو أفضل من اللهاث وراء التقسيم والفصل العنصري وتكريس الاستعمار، ووهم حل الدولتين، لأن ذلك وصفة لمواصلة القتل وإزهاق الأرواح والعيش بالسيف. وهذا الهدف النبيل، يتوقف تحقيقه على ما نقوم به نحن الفلسطينيين من كفاح شامل، ومن خلال استراتيجية مقاومة فعالة، وتبني خطاب تحرري أخلاقي، وحشد الشعب والأصدقاء، وأحرار العالم، والتواصل مع الأحرار من اليهود في إسرائيل، والعالم الغربي، خاصةً في أميركا، حيث تشهد الجالية اليهودية هناك، شروخاً في الموقف من ممارسات إسرائيل، وكذلك في الموقف من الحل.

مستقبل وديمومة الحل

أغلب المنادين بالدولة الواحدة ينطلقون من مبدأ العدالة، وليس تأثرا بميزان القوى، ولا لأن إسرائيل قتلت حل الدولتين. طبعا هذا لا يعني تجاهل ميزان القوى الراهن، أو دور القوى الدولية والإقليمية، في الصراع، سلبا أو إيجابا، لأن النضال ليس موجهاً ضد إسرائيل فقط، بل أيضاً ضد القوى التي تدعمها وتمول وتساند آلة القتل الاستعمارية. والقوى الثورية، أو قوى التغيير، تبني خطواتها التكيكية، والمرحلية، بناء على معطيات الواقع المتغير، وبناء على ما تستطيع فعله في لحظة معينة. ولكنها لا تغير الهدف النهائي، أي التحرر والعدالة.

لا شك أنّ قتل إسرائيل لوهْم حل الدولتين، من خلال التوسع الاستعماري الاستيطاني، الإجرامي، يدفع إلى تبني الاستعمار الكولونيالي، والتحرر الشامل، بصورة أسرع، ويفتح فرصا جديدة، على خلاف ما يريده المستعمر، لإعادة توحيد الشعب الفلسطيني، ويشق الطريق أمام حل الدولة الواحدة. تستطيع الحركة الوطنية الفلسطينية، عند نجاحها في إعادة بناء نفسها كحركة تحرر وطني، وعندما تتبنى خطاباً ديمقراطياً أخلاقياً واضحاً يستند إلى القيم الكونية، كالعدالة والمساواة، والحرية، أن تعيد مكانتها في إطار الثورات وحركات التحرر الاجتماعي والسياسي، التي تجتاح العالم العربي والعالم أيضا. لقد تمكنت اللجنة الوطنية للمقاطعة، التي انطلقت من رام الله، في أسوأ الظروف، عام ٢٠٠٤، من تحقيق فتوحات مبهرة في ساحة الرأي العام الشعبي الغربي، وأحيت واستعادت حركة التضامن العالمي، التي كانت من ضحايا اتفاقية أوسلو الذي أوهم الكثيرين بأن القضية الفلسطينية كانت في طريقها إلى الحل. ونرى أن أزمة النظام الرأسمالي المتوحش، النيولبرالي، وانكشاف قصوره الفاضح في التصدي لجائحة كورونا، يجب أن تدفع بالحركة الوطنية الفلسطينية، أو القوى الفلسطينية الديمقراطية التحررية، إلى إعادة ربط نضالها بنضال الشعوب التي تناضل ضد هذا النظام وما يمثله من تركيز غير مسبوق من الثروة في أيدي قلة تفتقد الرحمة والأخلاق، تجاه المقهورين. إن المأساة الفلسطينية، أسوة بمآسي شعوب أخرى كثيرة، عربية، وغير عربية، هي نتاج جرائم النظام الرأسمالي الذي تطور إلى أمبريالي توسعي في أواخر القرن التاسع عشر. ونفس هذا النظام العالمي لا يزال حياً، ويمارس نفس الظلم بحق شعبنا، والاستغلال الطبقي والاجتماعي ضد شعوبه، رغم الأزمات التي تعصف به. عبر هذا الترابط النضالي، على مستوى العالم، تستطيع الحركة الوطنية الفلسطينية، الوصول إلى مرحلة تبدأ فيها بإحداث التغيير على مستوى النخب الغربية، ومحاصرة إسرائيل عالميا.

وعلى الحركة الوطنية، وتيارها التحرري الثوري، النهضوي، أن يعيد صياغة علاقته مع حركة الشعوب العربية، التي تخوض موجات متلاحقة من الفعل الثوري، ضد أنظمة الاستبداد المتوحش، وأنظمة التطبيع والتحالف مع إسرائيل، وأن تتضامن مع مطالبها كالحرية، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهمومها اليومية، كالخبز والتعليم والصحة. هكذا يمكن إعادة البعد العروبي لقضية فلسطين، وليس عن طريق انتظار تضامنها مع نضالنا، وكأن نضالها ضد الطغيان هو فقط لخدمة قضية فلسطين.

ضرورة تخيل كيفية عودة وتأهيل اللاجئين

تؤكد أدبيات مجموعات الدولة الواحدة، أن لا شرعية لحل الدولة الواحدة بدون تنفيذ حق العودة وتمكين ملايين اللاجئين من العودة إلى القرى والمدن التي طردوا منها. فبالإضافة لكون العودة حقاً طبيعيا لكل لاجئ ونسله، فإن هناك قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤، الذي ينص على هذا الحق. أما كيفية تطبيقه، وكيفية تصحيح الظلم الذي لحق بهذا الجزء من شعبنا، فإنّه سيأتي من خلال النضال، الضغط الشعبي الداخلي والضغط الخارجي. ولا بد من تطوير الحملات والمبادرات التي تقوم بها أطر شعبية في فلسطين وخارجها، لتخيل كيفية تحقيق عودة اللاجئين، وإعادة تأهيلهم، حتى لا يظل حق العودة، في اذهان الناس، حلما، بل إمكانية واقعية.  لقد أجرى الباحث والشخصية الوطنية المعروفة، سلمان أبو ستة، مسحاً مفصلا لفلسطين، وكشف أن هناك مساحات واسعة داخل الأخضر، وأنّ هناك مئات القرى الفلسطينية المهدمة، التي ما زالت غير مأهولة، والتي تستطيع استيعاب هؤلاء. هناك لجان عودة ومؤسسات تعنى بكيفية رفع الوعي الشعبي بهذا الحق، وبكيفية تخيل تطبيقه حين تحين الساعة. ونعتبر تلك الأطر ومشاريعها جزءا من مشروع التحرر الشامل.

فلسطينيو ٤٨ وقيادة المشروع

منذ سنوات، وفي إطار العودة إلى الدولة الواحدة، يتحدث العديد من الأكاديميين الفلسطينيين، بل حتى بعض اليهود المناهضين للصهيونية، الذين يعملون في في الغرب، عن تقدير بأن فلسطينيي ٤٨، قد يكونون مؤهلين لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المستقبلية، أو حل الدولة الواحدة.

لا أعتقد أن هذا الجزء، وتحديدا معظم قياداته السياسية، التقليدية، من شعبنا قادرة، وراغبة، في قيادة مشروع كبير كهذا، وذلك لأسباب تتعلق بالوضعية السياسية والثقافية الراهنة، ووضعيته الحساسة في العلاقة مع المؤسسة الصهيونية، وكذلك لغياب الرؤية التحررية لهذه القيادات. ولكني، أعتقد، جازما أن هذا الجزء من شعبنا يستطيع أن يلعب دورا مركزيا في النضال الفلسطيني والمشروع الوطني التحرري، وفي إطار مشروع الدولة الواحدة، إذا ما أعاد تنظيم نفسه، وطور رؤيته الوطنية الجمعية، وإذا نجحت الحركة الوطنية الفلسطينية عامة بتبني رؤية تحررية، شاملة، واستراتيجية نضال تسمح لكل جزء من الشعب الفلسطيني، بأن يمارس أشكال المقاومة التي تلائم خصوصيته، ولا تحمله فوق طاقته، تحت مظلة وطنية واحدة. وباعتقادي أن طلائع جديدة من الجيل الجديد، التي تقرأ، وتتابع وتتفاعل مع الواقع الفلسطيني بصورة خلاقة، ومع أفكار التحرر، تتبلور وتتشكل، لتصبح في المستقبل جزءا من مشروع التحرر الشامل.

لقد أُقصي هذا الجزء من شعبنا الفلسطيني، خارج الصراع وخارج الحلول، وتكرس ذلك رسمياً في اتفاقية أوسلو. وحتى الآن لسنا جزءاً من عملية اتخاذ القرار على المستوى الفلسطيني. ونتيجة ذلك، ونظرا لظروف العيش تحت المواطنة الإسرائيلية وما يترتب على ذلك من قيود، طوّر هذا الجزء من شعبنا تجربته السياسية، خارج تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية التي قادت النضال من المنفى، وبالتوازي معها. وعندما تقدمت هذه التجربة وظهرت عناصر قوتها، مقارنة بحالة التراجع والانحسار للحركة الوطنية الفلسطينية عموما، في العقود الثلاثة الأخيرة، تغيرت نظرة القيادات في الخارج إلينا، من التهميش والتشكيك في وطنيتنا، إلى النظرة الرومانسية، ثم إلى النظرة الاستخدامية. ونقصد بالنظرة الاستخدامية، تلك التي ترجمتها سلطة رام الله في دفع الأحزاب السياسية العربية إلى التأثير في الانتخابات الإسرائيلية لإنجاح قوى إسرائيلية صهيونية من حزب غير الليكود وحلفائه، بزعامة نتنياهو، دون الاكتراث بما يجلبه علينا من تخريب وطني وأخلاقي في أوساط “أقلية قومية فلسطينية” تتعرض هويتها وانتماؤها، ومستقبلها، لحرب يومية. وهذا النهج الذي يعتمده فريق سلطة رام الله، يهدف إلى تعزيز أجندة منفصلة لجزء واحد من الشعب الفلسطيني، أي الذي يتواجد في الضفة الغربية، على حساب حقوق الأجزاء الأخرى من الشعب الفلسطيني؛ فلسطينيي ٤٨، واللاجئين. أما الآن وقد سدد الجنرال الصهيوني، بني غانتس، الذي أصبح شريكا في حكومة نتنياهو، ضربة للأوهام، وللنهج الأوسلوي، الذي نقله فريق أوسلو إلى داخل الخط الأخضر، فمن المفروض أن يكون ذلك فرصة لتفادي تصادم أجندات الشعب الفلسطيني، ويساعد الفئات الوطنية المرتبطة بالمشروع الوطني الفلسطيني التحرري، بالتقدم نحو رؤية وطنية تحررية جامعة، وشاملة.

هذا ما نحاول القيام به داخل الخط الأخضر، مستندين أولاً إلى تراث الحركة الوطنية الفلسطينية، بخصوص فكرة الدولة الديمقراطية (العلمانية) الواحدة، وكذلك تجربة حركة أبناء البلد، وتجربة حزب التجمع الوطني الديمقراطي، الذي بنى مشروعه السياسي الثقافي الهام، على تحدي المبنى الصهيوني للكيان الإسرائيلي، والذي أحدث تحولاً جذرياً في الخطاب السياسي عند فلسطينيي ٤٨، وترك الباب مفتوحا لحل أكثر عدالة كالدولة الواحدة في كل فلسطين.

واليوم داخل الأخضر، يتبنى ويُنظّر مئات الأكاديميين، والمثقفين، فضلاً عن نشطاء كثر، لفكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، لكونها، وخاصة بعد هذا التحول المتسارع في عدوانية الكيان الإسرائيلي في جميع أماكن تواجد شعبنا، تربط مصيرهم مع مصير شعبهم.

يبقى التحدي الأكبر، هو كيفية تجميع هذه الجهود، وخلق الحامل التنظيمي_ الجماهيري لهذه الفكرة، النبيلة، الوطنية والإنسانية، والوحدوية، أي بناء حركة شعبية مناضلة عابرة للجغرافية الفلسطينية، تتبنى خطاباً تحررياً إنسانياً. وهذا ما نسعى إليه مع المئات من النشطاء والأكاديميين، والمثقفين، من داخل فلسطين التاريخية والشتات.

 

(المصدر: ملحق فلسطين-العربي الجديد)

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *