الخطاب المناهض “للتطبيع” مع إسرائيل..ملا حظات وأسئلة
كان الحدث- الأحداث، الأكثر أهمية واهتماما، في الربع الأخير من العام 2020، إقدام عدد من البلدان العربية على توقيع اتفاقات” صلح” مع إسرائيل، بدءا من الامارات العربية، وتلتها البحرين ثم السودان ومؤخرا دولة المغرب العربي، ويكاد يجمع المحللون والمتابعون على أن دولا أخرى ستمضي على ذات الطريق خلال زمن قريب. ولقد استخدمت خطابات السياسيين، ومساهمات الكتاب والباحثين، بشكل عام، مصطلح “التطبيع” في تعريف ما أقدمت عليه تلك الدول.
لقد تعرضت الدول، التي أقدمت على الخطوات المذكورة، لهجمات سياسية وإعلامية، وكان بعضها شديد اللهجة حين وصفت الاتفاقات تلك بأنها: خيانة، لفلسطين وللعرب و ” للمسلمين أيضا”. ولأن التناقض الفلسطيني-الإسرائيلي هو الأبرز والأشد والأكثر وضوحا، في مرحلة مابعد صفقة القرن، وهو أيضا، وبشكل أساسي، الأكثر تجسدا منذ تأسيس دولة إسرائيل وحتى اليوم، أعلن المناهضون لتلك الخطوات، أن الخطر الأكبر من الإقدام عليها، يهدد قضية فلسطين. وأعتقد أن مضمون الخطاب هذا لا يعدو كونه تسطيحا ولغوا فارغا، خاصة حين يقترن هذا الكلام بالقول :
إن تلك الإتفاقات” التطبيعية” جاءت في مسار يهدف تصفية القضية الفلسطينية.
مثل هذا الخطاب، والذي يتكرر، مع اختلافات في لغة الصياغة، مع كل انحدار سياسي تقدم عليه أنظمة ودول، ومنظمات، هو خطاب كسول ومتحجر، لا يقرأ التطورات الجارية اعتمادا على تحليل علمي وموضوعي، فتقتصر معانيه على رفض المسارات، التي لاشك أنها تمس مضمون الصراع مع المشروع الصهيوني، الذي مازال يتقدم نحو أهدافه الأساسية الأولى التي نشأ-أنشأ من أجلها.
في غضون ذلك، ثمة مفارقة في خطاب ودعاية تلك الأنظمة التي يتهمها المناهضون بالخيانة. فهي – الأنظمة، سرعان ما طرحت أنها لا تزال على موقفها”الداعم لحقوق القلسطينيين الوطنية”، وأن تلك الاتفاقات ستساعد، كما يدعون، على تحقيق المصالح الوطنية الفلسطينية. وإذا فحصنا هذا الادعاء في مختبر السياسة الرسمية للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، سنجد أنه ادعاء مشفوع له من ” أصحاب القضية”، وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى انسحاب السلطة والمنظمة من ” مواجهة تلك الاتفاقات” وإعلانها ضرورة لزوم الصمت إزاء الدول التي وقعت الاتفاقات، والتوقف عن الحملة المناهضة لها.
سؤالي الأول هنا، أوجهه للمثقفين والسياسيين الذين اكتفوا بمناهضة الاتفاقات المشار اليها انطلاقا من أنها تهدف لتصفية القضية الفلسطينية. قالوا ذلك دون تقديم مسوغات لما أعلنوه.
فهل كانت الدول (الامارات والبحرين والسودان والمغرب)، تحمل راية الكفاح” القومي” لنصرة الشعب الفلسطيني حتى نقول إنهم خانوا مصالح الفلسطينيين وطعنوا بقضيتهم؟ باستثناء حقيقة أن كل ما يقوي إسرائيل يضعف الفلسطينيين، في مواجهتهم للخطوات الصهيونية لتوطيد دعائم الدولة الإسرائيلية، ليس في تلك الاتفاقات وبنودها ما يدل على أن الهدف منها تصفية القضية الفلسطينية.
والسؤال الثاني، لماذا لم تتضمن خطابات المناهضة للاتفاقات تلك، في أكثرها، تحليلات تظهر خطر تلك الاتفاقات على مصالح شعوب تلك البلدان، في المدى القريب والمتوسط، ومن يريد مقاربة هذه النقطة، سيجد في الإعلانات المبكرة للقيادة الاسرائيلية، عن المصالح الاقتصادية من تلك الاتفاقات، خلفية للخطر الذي يهدد مصالح شعوب تلك البلدان، وما ينتظرها من نتائج تمس حاضرها ومستقبلها كمجتمعات، فالتحكم بثروات تلك الدول وأسواقها وأموالها، سيلمسه مواطنو تلك الدول، وهنا من المنطقي أن يتركز خطاب مناهضة الاتفاقات مع اسرائيل، على التغييرات الخطيرة التي ستنشأ، وبوقت ليس ببعيد، وهي تغيرات لن تكون أفضل حالا مما واجهه الشعبان المصري والأردني بعد اتفاقات الصلح مع إسرائيل أواخر القرن الماضي. وعليه فإن التناقض الملموس بين مجتمعات تلك البلدان وإسرائيل، سوف يظهر ويتضح في هذا المسار وتداعياته. أما حضّ شعوب الدول الموقعة على الاتفاقات لرفضها ومواجهتها، على أساس أيديولوجي” قومي عربي أو إسلامي-وإسلامي”، فلا يتوفر عن إمكانية بناء قدرات جديدة لمواجهة المشاريع والبرامج الإسرائيلية، لأن ذلك الأساس طالما اعتمد في خطابات القوى السياسية العربية، ومنذ بدء الصراع العربي – الصهيوني الإسرائيلي، وكانت ثمراته الفشل المتراكم على امتداد الزمن.
غير أن أهم الأسئلة، وأكثرها عمقا وجذرية، كما أعتقد، يتصل بالبعد الأميركي في الاتفاقات الموقعة. وبعيدا عن معزوفة المؤامرة” الامبريالية” التي ” تثلج الصدور” لدى قطاعات واسعة من شعوبنا، وتريح “النخب” من عناء البحث العلمي الملموس، للعلاقة بين المصالح المشتركة لواشنطن وتل أبيب. فكيف تتجسد تلك المصالح وما هي آليات فعلها؟
ستوفر تلك الاتفاقات مصدرا اقتصاديا وماليا لدولة إسرائيل، يعفي الموازنة الأميركية من جزء أساسي تدفعه سنويا لإسرائيل، على شكل مساعدات وقروض وهبات. الأمر الذي شكّل نقطة ضعف للمؤسسة الأميركية الحاكمة أمام جمهور الناخبين الأميركيين. ذلك أن المردود الذي تحققه إسرائيل، من تلك الاتفاقات، سيكون توفيرا على الموازنة الأميركية، يصل إلى عشرات المليارات إن لم يكن المئات. ومعلوم أن تلك المساعدات الأميركية شكلت نقطة ضعف لاسرائيل في السجال السياسي بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية، ونذكر هنا موقف بوش الأب في مؤتمر مدريد، (1991) وتلويحه بوقف الدعم لإسرائيل في عهد حكومة شامير بعشرة مليارات الدولارات. وقبل ذلك كان شارون، في معرض اعتراضه على رفض واشنطن مساهمة اسرائيل في حرب الخليج الثانية، بقوله: إن إسرائيل، بدورها في المنطقة، تقدم لواشنطن أضعاف ما تقدمه الثانية لها من مليارات. وبعد الاتفاقات الجديدة سيكون الموقف الإسرائيلي أقوى في السجال مع واشنطن حول هذه النقطة المصيرية.
وعليه، فإن الاتفاقات التي وقعت مع إسرائيل، والتي ستوقعها دول أخرى بوقت قريب، حسب أكثر المتابعين والمحللين، لا يصح مقاربة آثارها ونتائجها، بالقول: إنها جاءت لتصفية القضية الفلسطينية، فهي ذات آثار أبعد وأعمق وأخطر بكثير، ولا يلغي ذلك أن بعض نتائجها تمس مصالح الشعب الفلسطيني، غير أنها تمس أولا، وبشكل رئيسي، مصالح شعوب البلدان التي قامت حكوماتها بعقد اتفاقات واضحة وصريحة مع الحكومة الإسرائيلية. وهو ما يترجم فكرة: “إن إسرائيل، ومنذ نشأتها، تشكل القاعدة المتقدمة لضرب مصالح شعوب المنطقة، باعتبارها الأداة الأكثر اندماجا بالمصالح الإمبريالية، التي تقودها أميركا منذ نهاية الحرب الدولية الثانية”.