الحُولة: بحرة الغوارنة وبـَرّ الغُـرّ والبابـير


في الجليل من شمال فلسطين، وإلى الناحية الشماليّة – الشرقيّة من مدينة صفد، تقعُ ديار الحـولة التي كان يُطلق عليها بحسب شيخ الربوة اسم “بلاد الخيط”.1 والخيط هو نهرُ الشّريعة (الأردن)، وذلك لاستدامة واستقامة مجراه، فقيل عنه الخيط، الذي خَطّ خيطه بين بحرتي الحُولة وطبرية أسماءَ بعضِ قُراه، مثل: “مُغر الخيط” و “منصورة الخيط”، وحتى سهل الحولة عُرِف بـ”سهل الخيط”.
يحدُّ الحُولةَ من شمالها قضاءُ مرج عيون، وجبلُ الشّيخ وبانياس السورييْن. أمّا إلى الغرب، فجبالُ عامل اللبنانيّة، وهضبة الجولان منها شرقاً، لتقع الحُولة على خطِّ الغور الأعلى، فسُميّ ساكنوها عبر التاريخ بـ”الغوارنة”. والحُولة مِنها البحرة، ومِنها السهل، ومِنها بِرَكُ الغاب (المستنقعات).
البحرة، فيما أُطلق عليها
تداولت على الحـُولة الأجيالُ، وقد جايلت بحرتُها الدّول، فتعدَّدتْ أسماؤها. في وثائق رأس شمرا المُكتشفة عن زمن الكنعانيّين، ورد ذِكرُ بحـرة الحُولة باسم بحيرة “سمخو”.2 وذكرها المسعودي ببحيرة “كفر لا”3، نسبةً إلى كفر لا، القرية التي ذكرها المهلبي في رحلته زمن الفاطمييّن، قبل أن تندرس في الفترة العثمانيّة.4
وذكر العثمانيّ، صاحب مؤلف تاريخ صفد، بحيرة الحولة، باسم بحيرة “قُدُس”، لقربها من موقع قرية قُدُس، مما منحها قداسةً تاريخيّة، وظلّت قرية قُدُس من البحرة غرباً وادعةً حتّى عام النكبة.5 في رحلة ابن الجيعان، ورَدَ ذكرُ الحولة باسم بحيرة “الملّيحة”، وفيها الملّاحة، القرية البِكر على الحافة الشماليّة للبحرة.6
كما أُطلق عليها، بحيرة “بانياس”، نسبة لمدينة بانياس السوريّة، ومن أسمائِها أيضاً بُحيرة “الخيط” لمجاورتها بلاد الخيط الواقعة بين الحولة وطبرية. كذلك أُطلِق عليها اسم بحيرة “سمكون” لكثرة وتنوّع أسماكها.7
الذاكرة النهريّة
قال المقدسي واصفاً بلاد الحـولة إنّها “معدن الأقطان والأزهار، وهي أغوار وأنهار”.8 فمن إحدى مغاور بلدة بانياس السوريّة، كان يَنبعُ البانياسي (الحرمون)، نهرٌ حَملَ اسم منشأه بانياس، ليدلف منها عبر وادي العسل جنوباً. وإلى الغرب من بانياس، كان “اللدان” الذي عَرَفهُ الغوارنة بنهر “تل القاضي” يهدرُ ماؤه من أعالي تلال الشمال نزولاً نحو الحـولة. أما الحاصباني، والذي سمّاه أهلُ بلاد الخيط نهر “سِنّـير” فمنبعهُ من حاصبيا – لبنان، يفور ماؤه من لبنان جنوباً إلى شمال فلسطين.
أنهارٌ ثلاثة أبت لها وحشيّتُها أن تتصالحَ مع بعضها إلا عند سهلِ الحُـولَة، وتحديداً في موقع بِركة “تل الشيخ يوسف”، فقيل عنها “مَربط الماء”، لالتقاء الثلاثة أنهر فيها، مشكّلةً معاً نهر الشّريعة (الأردن) الذي كان ينحـر سهلَ الحـولة نحـو بحرتها.
لم يكن ماءُ النهر يصبُّ في بحرة الحـولة، بقدر ما أنّه كان يمرُّ منها، فالنهر يظلُّ تدفقه جارياً حتى داخل البحرة، “ميّ بتسبح بالميّ” على حدِّ تعبير الغوارنة.

الغـوارنة
يعني الغور: “الأرض الغائرة بين جبلين” بتعريف صاحب الأعلاق9، وتغور الحولة في كتف الجليل، فأُطلق على أهليها اسم “الغوارنة”. تشكّلت هويةُ الغوارنة واكتسبت ملامحها منذ مراحل مبكرة في التاريخ، فقد أشار الراهب دانيال في رحلته زمن الصليبيّين إلى سُكّان الحـولة باسم الغوارنة.10 غير أنّ هذه الهوية المُتشكِّلة من تشكيلها الجغرافيّ، أُكسِبَتْ عبر التاريخ مسوحاً اجتماعيّة – ثقافيّة مايزت غوارنة الحـولة رغم اختلاف أصولهم ومنابتهم.
فأهل الملّاحة، القرية الأعرق على الحافة الشماليّة من البحرة، كانوا غوارنة من أصل تركمانيّ.11 كانت الملّاحة قبل أن يجري اقتلاعها في عشرينيات القرن الماضي، تُعتبر بمثابة الطبل الكبير الذي تعودت قرى بحرة الحـولة الرقصَ حوله، فهي الوحيدة التي احتضنت مدرسةً يُشدُّ وثاقُ الصّبيان فيها من أرجُلِهم كي يتعلّموا. كما أنّها القرية الوحيدة التي حَوت جامعاً يؤمه الغوارنة للصلاة فيه في رمضان والأعياد.
أما “جاحولا” المُشتقُّ اسمها من الحـولة نفسها، فقد كان أبناؤها فلاحين. وكان أهلُ قرية “زبيّد” من البدو المُتفلّحين، ومنهم من جاء من أهل الملّاحة بعد ترحيلهم منها. فيما كان كلٌّ من أهالي “تليل والحسيّنيّة” جنوبيّ البحرة مغاربةَ الأصل، وإذا ما اندحنا جنوباً بعد البحرة مع خيّط النهر، كان أهلُ قريتي “كراد الغنّامة وكراد البقّارة” غوارنة من أصولٍ كرديّة، توطّنوا الحـولة من زمن صلاح الدين.12 ومن الحدّ الجنوبيّ – الشرقيّ للبحرة، تقعُ قريةُ الصيّادة المنسوبة لوليّها الشيخ علي الصيّاد، ظلَّ مقامهُ فيها باقياً إلى ما بعد النكبة، وكانت الصيّادة تحف شاطئ البحرة، وأهلُها غوارنة من السمّاكين.
قرى غوّرية، ولَّدَت أسماءَها من قاموس بيئة البَحْرة وتكوينها، وبيوتٌ مِنها مَا كان من الخِيام والشَعر، ومنها ما صار إلى الطّين والحجر، ومنها ما ظلّ على دين الغور وبحرته، عرائش مزنّرةً بالقصب ومسقوفةً بعيدان الحلّفا والبابير. من كان ينظرُ للغوارنة، يعرفُ كيف نحتَ الغورُ ملامحَه على وجوههم، وكيف تركَ توقيعَه تجاعيدَ فيها، وعلى جباههم المُشقّقةِ التي ظلت تلمع كالمسكِ عرقاً، وسواعدهم السّمراء التي لَفَحَتْها حتى لوّحَتها شمسُ البحرة وسهلها، إلى أن يبِسَت جلودُهم فوق عظامهم.
آه يا سمك بني
لم يُغنّى للسمك يوماً مثلّما غنّى أهلُ الشّام له، وللبـَنيّ منه تحديداً، فهو سمك بحرة الحولة الأشهر فيها، والبَـني بفتح الباء وليس بضمّها كما تقول أغنية “آه يا سمك بُني”. وتسميتُه سريانيّة الأصل كما يُقال، وقد ذكر المقدسيّ وجودَ البَـني في بحرة الحـولة منذ زمن الفاطميّين، وأشارَ إلى أنَه حُمِلَ في العصر العباسيّ إليها، من نهر مدينة واسط العراقيّة.13
كان بَـني الحُولة صغيرَ الرأس، وطولُه بطول ساعد الصبيّ وبدنُه أسمر اللون. يهربُ سمك البَـني قبيّل غروب الشمس من بطن البحرة إلى كتفها على الشاطئ، في تقليدٍ يعرفه أهل الحـولة، لذلك كان صيدُه يجري عصراً قبل الغروب، ومن هنا جاء في أغنيتِه قولُ: “صيد العصاري”. كان البَـني نادراً وصيدُه صعباً كما قيل عنه، والأغرب فيه أنّه لم يكن يغادر بحرة الحـولة مع النهر إلى طبرية مثل باقي السّمك، إذ يبقى في الحـولة ويرتبط بها، فالبَـني لم يُعرف عنه في أي بيئة مائيّة من فلسطين سوى الحـولة.
ولغوارنة البحرة غيره من الأسماك، وقد نادَوا بحرتَهم ذاتَ يومٍ باسم “سمكون”، ففيها السلّور (البربوط)، وهو الأكبر حجماً من سمك البحرة، ورأسه أسود كبير، ارتبط صيدُه بأكلةِ “صيّادية الغور” مطبوخةً بِـرُزِّ سهلِها. وعَرفَ الغوارنةُ المشط الأبيض في بحرتِهم، ومن سمكها العُقّر الذي يُشبهُ المشط لكنه أصغرَ مِنه حجماً، بينما يظلُّ سمكُ القّرب أو الكَرب من أجمل أسماك البحرة بلونهِ الأصفر.14
كان صيدُ السّمك في الحولة يتمُ بواسطة “الجُـوز”، وهي الطريقة الأشهر لدى غوارنة البَحرة. والجُـوز هو شبكٌ يُربَطُ بفلّينٍ من أعلاه، وفي أسفلهِ مشبوكٌ بالرصاص، يُمدُّ الجُـوز داخل ماء البحرة لساعات، وأحياناً كان يُترك في الماء إلى اليوم التالي، قبل أن يسحَبَهُ الصّيادون ويُفرّغونه من صيدِهِ على شاطئ البحرة.15
ظلَّ الحاج صالح ابن قرية جاحولا المُهجّرة، يتذكرُ بغال الخوري مُحَمِّلةً خِراجَها بسمك البَـني والمُشط والعُقّر من الحولة جنوباً إلى حِسبة السمّاكين في طبرية، التي كان يملكها توفيق الخوري.16 مُنح الخوري في أيام الإنجليز احتكارَ شراء صيد سمكِ بحرتي الحـولة وطبرية معاً، إذ صار صيدُ السّمكِ في حينه مشروطاً بترخيصٍ من سلطات الانتداب، بعد أن كان الصيدُ مَشاعاً في زمن تركيا، بينما اقتصر مشاع الصيد في ظلّ الانتداب على سمك النهر في الشريعة فقط، لينتبه الغوارنة في حينه إلى أن بحرتهم لم تَعد ملكهم.17
هذا ما في بطن البحرة، أما ما على وجهها، فلغوارنة الحـولة حكاية أخرى مع طيّر غُرّهم…
غُرِّي الغوارنة
الزَّاغ والزَرْزُور، وبطّ جَرَمَان والسُمَّان، وكذلك وَز البحرة وبجعها، كلّها طيورٌ ظلّت تحت مرمى حصى مقالعِ الغوارنة، غيّر أنّ الغُرّي يظلُّ طيرَ البحرة وسفيرَها، لأنّه مُهاجرٌ إليها غير مُتوطنٍ فيها، يقصدُ البحرةَ وغابتَها مع بداية الشِّتاء من كلِّ عام.
يُشّبه الغُرّي الدجاجَ وهو بحجمِهِ، لونهُ أسود، وعلى رأسهِ عُرفٌ أبيضَ اللون، مما منَحَهُ صفةً جماليّةً. تعوّد غوارنةُ الحولة صيدَه، بعد أن سَمّوه باسمِهم، فيُقال الغُرّي: لأنّه طائرُ الغوارنة وبلادِ الغور، بينما يعتقد آخرون أنّه سُمّي كذلك لغرّته البيضاء على رأسه. أقامَ أهلُ الحـولة عليه الولائم، “طعم لحمه بعدو بين اسناني” يقول الحاج محمد صالح الغوراني متحسراً.18 كما غنّى الغوارنة له ردَةً مطلعها “يا طير الغُرّي البريّ … سلّمتك أمري وسري…”، فقد جاور هذا الطيرُ البحرةَ ولَاذَ إليها إلى حدٍّ كان “يعبدُ فيه البحرةَ عبادةً” على حدّ تعبيرِ أهل قرية تليل.19
يعبدُ الغُرّي البحرةَ ويُقَدِّسُها، بينما يقدّسُ أهلُ البحرةِ وسكّانُها طيرَ “أبو سعد” إلى حدٍّ منعوا فيه صيّدَه، وحرّموا أكلَ لحمه، فقالوا مخاطبين إياه: “لحمك حلال في شرعنا وصيدك حرام”، كما لو أنّه صكُ امتيازٍ مَنَحُوه إياه، يُحلَّلُ فيه لحمُه بينما يُحرّم صيدُه، ليَسْلَمَ أبو سعد فيه، ويبقى شيخاً على البَحْرة.20 فأبو سعد، بريشِهِ الأبيض وساقيه الرفيعتين الحمراويْن، ظَلَّ الطيرَ الوحيدَ في الحـولة الذي تُمكِنُ رؤيتَه على وجهِ البَحْرة من مسافاتٍ بعيدة، مما جعلَه مبعثَ طمأنينةٍ وسكينةٍ لدى ساكنيها.
عُـكّاز الفقـير
لا يهجعُ ولا يبركُ إلا في الماء، وممرغٌ بدنُه على الدّوامِ بِوَحل حافةِ البَحْرةِ أو بِطينِ بِرك الغاب، يهزُّ رأسَهُ كلّما عضّه البعوضُ، وإذا ما تكاثر عليه غطّ رأسَهُ لطردِه بماء الوحل، فيغدو بَدنُه كُلّه مَوحلاً لونُه بلونِ الطِّين، ولا يبقى منه غير عيونهِ مفتوحةً على وسعها، بيضاء تدور في وجهه المُخَضَّب بوحل البِركة وطينها… إنّه الجاموس.
ما من لوحةٍ أو صورةٍ للحـولة خطّها مستشرقٌ أو التقطها مستكشفٌ أو رحّال، إلا وكان الجاموسُ ماثلاً فيها. من كلّ فلسطين لم يُقتنَ الجاموسُ إلا في الحُولة تقريباً، فهو حيوانٌ يعيش حيث يُمكِنُه أن يهجع، وليس حيث يمكن أن يرتع، فكانت الحولة ببحرتِها وبِرك ماء غابتها موطناً له. عاش معه الغوارنة أكثرَ مما تاجروا به، حتى قيل عنه “عُكّاز الفقير” لاعتبارِهِ مورداً معيشيّاً اعتمده أغنياءُ وفقراءُ غوارنة الحولة معاً.21
لم يكن جاموس الحولة يرعى الكلأ إلا ساعةَ الفجر قبيل شروق الشَّمس، وساعاتِ العصر قبل غروبها، بينما يظلُّ طوالَ النَّهار بارِكاً في البَحْرةِ أو ببِرك الغاب. اعتمد الغوارنة الجاموسَ من أجل حليبهِ قَبل لحمهِ، فكانت الحُولة مقصداً لكلِّ سكان أقضية صفد وبانياس ومرج عيون طلباً لحليب الجاموس.
كان لبنُ حليب الجاموس ذائعَ الصّيت، لأنّه حلو وأقلُّ ملوحةً من لَبنِ البقر والماعز، وقد ظلّ طعمه عالقاً تحت لسان صاحب كتاب أحسن التقاسيم، وتحدّث عنه كما لو أنّه دواءٌ لصفاءِ بياضه، رائباً وبارداً في مواعين فخار الغوارنة.22 هذا عدا عن زبدةِ حليبِه، التي كانت تُخَضُّ بالـ”جِف” المصنوع من جلد الجاموس نفسه. أما سَمنهِ، فقد كان مضرباً للمثل في كلّ بلاد الخيط.
يَذبحُ الغوارنة في أعراسهم من جاموسهم، ويُطبخ بلبنهِ، واستحبَّ الغوارنة منه لحمَ الـ”بُطش” – عجل الجاموسة – لقلّة الدّهن فيه. وكثيراً ما كان يُقَدّمُ الـ”مَجهول” منه، وهو فحل قطيع الجاموس، مَهراً للعروس.23 بينما الـ”شمبور” من الجاموس، هو ذلك الذي كان يتمُّ خَصيّه من أجل استخدامه لأغراض الفلاحة وحرث الأرض.
كانت صرخة واحدة من أي عيّاط في الغابة كافيةً ليتركَ الجاموسُ مرتعَهِ، مغادراً الغابة نحو أحواشِهِ عند بيوت الغوارنة، في ظلِّ صمت الغروب وسكونه الذي لم يكن يكسرُه غيرُ صوتِ صرير مناجل، وصليل سواطير تضربُ لقطع عيدان البابـير.
البابـير
“نُصّنا سمّاكين ونصّنا الثاني بُـبّار” يقول غوارنة الحـُولة عن أنفسهم.24 والبُـبّار هم نُسّاج الحصير الذي كان يُصنع من نبتة البابـير. في غابة الحولة شمالاً من بحرتها، حيث شجر السِّدر والدُلب والسّنط، والسمّار والبُردى، والكلخ والصفصاف، كانت تنبت معها الحلّفا والبابـير. فبِـرك الماء الراكد، كان لها أثرٌ في تكوين هذه الخميلة الشجريّة التي ميّزت غابةَ الحُولة عن أيّ غابةٍ أخرى في فلسطين.

لم يُعرف البابير في فلسطين، إلا في الحولة فقط، واعتبرت بِـرك الغابة التي ينبتُ فيها مورِدَاً معيشيّاً للغوارنة، فالجاموس يعيشُ فيها والبابير ينبتُ منها. وأبداً، لم ينظُر لها أهلها كمستنقعاتٍ لأمراض الملاريا والحُمّى، ولا لكلِّ هذه الحُمولة من خطاب الطبّ الاستعماريّ الحديث، الذي نَظَرَ ونظّر لبِـرك مواردهم بوصفها مصدرَ تهديد، مما شجّع على فعل تجفيف البِـرك أولاً، ثم البحرة لاحقاً في خمسينيات القرن الماضي.25
ينبت البابير طبيعيّاً على أحواض بِرك الماء، ويُشبهُ في تكوينه القصب، غير أنّه أرفع منه، ويشيحُ بطوله ليصل إلى مترين وأكثر. وتظلُّ عروقه خضراء على مدار أشهر السّنة، فالبابير نباتٌ دائم وليس موسميّاً، ويُقطفُ على مدار العام، غير أن قطفَه يكثُرُ في الصّيف، فعلى ذمة أهل الحولة: إنّ العود الذي يُقطف منهُ البابير يُطلِقُ عروقَهُ مُجدداً في اليوم التالي لقطفه.26
الرجال هم من كان يتكفّل بقطع وقطف البابير من الغابة، بينما قَشطهُ وسلُّهُ خيطاناً، ثمّ نسجُهُ على النول حُصراً، هو من عمل النساء. وإذا ما كان قاطفوه من غوارنة قُرى جنوب البحرة، مثل تلـيّل والحسيّنية، يُترك البابير بعد قطفه بأرضه في الغابة أخضرَ، لمدة أسبوعين حتى ينشف، فيّميل بعدها لونه للبياض. عندها كان يجري حَزمُه حُزماً، لتنقل عن طريق البحرة. فالبابير بعد أن يجفّ وينشف يصبح وزنه أخف، فيسهلُ تعويمه على وجه ماء البحرة، ليحمله ماؤها من شمال البحرة إلى نواحي الديار جنوباً، وهناك كانت تنتظره النساء من أجل نسّجه على الأنوال.27
نسجَ الغوارنة الحُصر من البابير، ومن نبتة الحلّفا كانوا يفتلون الحِبال، في تقليد امتهنُوه منذ القِدم (مقدسي)، فما من بيتٍ في الدربشية وجاحولا والملّاحة، وكلّ بلاد الخيط، إلا وفيه نـول مصنوع من خشب سنط الغابة نفسها. كانت حصائر الحـولة تُحملُ منها إلى صفد، ومن هُناك يحملها تُجّار مدينة نابلس لبيعها في كل أرجاء فلسطين.28 بينما يحملُهُ الغوارنة على أكتافهم أحياناً لبيعه جوّالين بين ضِياع وقُرى بانياس ومرج عيون، وهم يصيحون “من البابـير يـا حصـير…”.
السَّهل ومواسم نيسان الأخير
“جورة الذهب” هذا ما سُميّ به سهل الحولة الذي ظلّ يَغِلُ على أهله من الأقطان والحبوب ما كان يكفي لإطعام كلّ أهالي أقضية صفد وبانياس ومرج عيون.29
يمتدُ سهل الحُولة في مساحةٍ قُدّرت قبل النكبة بـ180كم2، ضمن حدود رسمتها حوافر البغال وأظافر ثيران الحَرث على وقع إيقاع كُرباج الحرّاثين. تفترشُها تُربة سمراء، يعرفها أهلها كلّما قلّبتها سِكك الحَرث صارت حَمراء كالحنّاء.
إلى الشمال من البحرة وغابتها، مروراً بِقُرى الزوّية والصالحية، وصولاً إلى نجمة الصبح المُهجّرة أقصى الشمال يمتدُ السّهل، وعلى كتفه إلى ناحية الغرب كانت تقع قرية البويزية، وعند خاصرتِه شرقاً كانت كل من غرّابة وشمالاً منها خيام الوليد ثم المفتخرة.
زَرعَ أهلُ سهل الخيط القمحَ والشعيرَ والسّمسم، وقلّما زُرعَ الرُز في فلسطين. غير أنه يُعتبرُ من الأقطان الأصيلة التي كانت تُزرع في الحولة، خصوصاً في المناطق السهليّة القريبة من أحواض بِرك الماء. فقد أشار الرحالةُ العرب المسلمون، والأجانب كذلك إلى زراعته فيها في مراحل تاريخيّة مختلفة، حتى قيل عن سهل الحولة، “مَرج الرُز والوّز”.30
للغوارنة معجمهم الفِلاحيّ الخاصّ بهم، فالفول السودانيّ الذي كان من أشهر زُروع السهل، يعرفه أهله باسم “فستق العبيد”، بينما الـ”دُخنة” كان يقصد الغوارنة بها الذُّرة الصفراء، وهذا ينسحب على جملة من الأعشاب والنبات البريّ-البحريّ في الحولة.

إذا ما حلّ نيسان، إشقّر السّهل بقمحِهِ، واصفّر بشعيرِه إلى أن تغدو حقوله مثل جوانح الدبور. بينما تَخضّر أطراف السهل التلّية بالعكوب، والزعتر الذي يُقال بأن البيت منه كان يكبُر إلى حدٍّ يُمكن ربط رسن البغل فيه، دون أن يقوى على خلعِهِ.31 هذا فضلاً عما كان يَفترشُ الروابي والتلال من عشب ونبات، مثل: البرّيديا – عشبةٌ تشبه نبتة البازيلاء، والهندبا (العِلت)، واللوف الذي أطلق عليه الغوارنة اسم “ذان الفيل”، والأهم عُشبة “الماش” البريّة، التي كانت تُقطف منها بذورٌ تُشبه حَبّ العدس، وتُطبخ بطريقته.
في النصف الثاني من كلِّ نيسان، كان يحلُّ على أهالي بلاد الخيط الغوارنة موسمُ زيارة النبي يوشع. زيارة المقام، تجري بعد أن تأذن رائحةُ ورد الخوّيخيا البريّ بها، فيّفز معها زهر الحنّون، والدحنون التي كان فوحانها يذكّر قرى البحرة والسّهل بحلولها. كان معظم الغوارنة وعموم أهالي قضاء صفد يشاركون في الزيارة، كما كان يقصد المقام في الزيارة متاولة قضاء مرج عيون اللبناني، وفلاّحو بلاد بانياس السّوريّة.32
يقع المقام في قرية النبي يوشع المهجّرة، والواقعة بين قريتيّ الملّاحة وجاحولا، إلى الناحية الشماليّة – الغربيّة من بحرة الحولة. النبي يوشع كانت واحدة من القرى السبع المشهورة، ومعظم أهلها كانوا من المتاولة، مما يفسر قدوم متاولة جنوب لبنان لموسم زيارة المقام فيها.
يبيت زائرو المقام وزوار موسمه في النبي يوشع وحول مقامه، ما بين ليلة وليّلتين، فموسمه كان يستمر لثلاثة أيام.33 تُوفى فيه النذور وتُذبح عنده الذبائح، وتبتهل الصّدور عنده وتُنشد له المدائح. كانت دفوف ومزاهر دراويش خِيام الوليد تُسمعُ من بحرة الحولة قادمة مع النهر من السهل حيث الخِيام. بينما كان يلاقيهم في طريق النهر لعّابو الشيحان34، من أبناء جاحولا والملّاحة، فتصير الزيارة أشبه بعرسِ للتحلّق والتسوق كذلك. يشربُ زوار المقام، من بئر عنده، وينشلون منها ماءً يحملونه إلى ديارهم معهم، لأحبائهم والطالبين.
لدى بعض أهل الصيادة حكاية تقول: بأن وليّهم الشيخ علي الصياد، شوهد يخرج من مَقامه على شكل نور لونه أخضر، وينزل منه إلى البحرة ليختفي فيها. فالسلامة لها علامة كما يقول بعض الدراويش. كان ذلك، في أواخر آخر نيسان من عام الطرد والاقتلاع.
عن متراس