مازالت مشاركة المواطنين العرب وتصويتهم في الانتخابات للكنيست الـ 24 تلقي بظلالها على الساحة السياسية. منذ صدور النتائج ووسائل الإعلام والمحللون يتناولون باهتمام غير مسبوق موضوع مكانة الأحزاب العربية ودورها، إلّا أنه من بين مجمل القضايا المطروحة غاب موضوع مركزي: انتقال التصويت الحمائلي من الحلبة السياسية المحلية إلى القطرية. لا ندعي في هذا المقال أن هذه الظاهرة هي وليدة الانتخابات الأخيرة، إلّا أنها، كما سنوضح فيما يلي، زادت حدة وبدت جليّة في ظل التنافس بين القائمة المشتركة والقائمة الموحدة.

رغم التغيّرات الاجتماعية الكبيرة الّتي طرأت على المجتمع العربي في العقود الأخيرة، إلّا أن المنظومة الحمائلية الّتي تسيطر على السواد الأعظم من سلطاتنا المحلية نجحت في البقاء والصمود بوجه تلك التغيّرات، باستخدام وسائل وأساليب عصرية، تضفي لها طابعًا تقدميًا. فمثلًا، لجأت الحمائلية السياسية في العديد من البلدات إلى تكتيكات مثل إجراء انتخابات تمهيدية “برايمريز”، دمج نساء وشباب في القوائم المتنافسة بالانتخابات (دون تأثير فعلي) وغيرها.. المكاسب المالية الّتي تجنى من السلطة مثل التعيينات، التعاقدات مع مزودين بمبالغ ضخمة وتخفيضات غير قانونية في الأرنونا تساهم في إنعاش المنظومة الحمائلية والحفاظ على نفوذها.

منذ سنوات تشهد قوة الأحزاب العربية تراجعًا على المستوى المحلي، وفي غالب البلدات لا تقوم بدور يذكر في السياسة المحلية، مما جعلها في وضع تكون أضعف فيه من أن تنافس الحمائلية السياسية ومرشحيها “وجهاً لوجه” على رئاسة السلطة. في هذه الظروف، وبدلاً من أن تنبذ الأحزاب العائلية وتطرح نفسها بديلاً سياسياً، تميل الأحزاب إلى دعم مشرحين عائليين في الانتخابات المحلية، أو على الأقل تخلي لهم الساحة، على أمل أن تحظى تلك الأحزاب بدعم “مخزن الأصوات” الّذي تمتلكه الحمولة في انتخابات الكنيست. في واقع سياسي كهذا، المبادرة لسن قوانين لتعزيز الإدارة السليمة والحد من قوة المنظومة الحمائلية قد تكون هدفاً ذاتياً للأحزاب العربية، بينما رعاية مصالح الحكم المحلي بتركيبته الحالية (العائلية) هي أمر مطلوب ومفروغ منه في ظل الشراكة الحزبية – الحمائلية.

في السنوات الأخيرة، بفعل تحالف الأحزاب العربية في قائمة مشتركة واحدة، تقلص تعلق الأحزاب العربية بالحمائلية السياسية وقياداتها إلى حد ما، إلّا أن هذه الظاهرة عادت وبقوة في الانتخابات الأخيرة – الأحزاب تعتمد على الحمائلية لجني الأصوات دون أي نوع من الدبلوماسية أو الخجل. مقايضة، ولكل حصته!

على ضوء الاستجابة الضئيلة لنداءات الأحزاب للخروج للتصويت، وعدم الوجود الفعلي للأحزاب في بعض البلدات، يشكل الدعم الحمائلي استراتيجية حشد لا غنى عنها يوم الانتخاب. قيادات في القوائم المتنافسة للكنيست أعلنت بلا تلعثم عن تأييد حمائلي بتعابير مثل “آل فلان يؤيدون وآل علان يؤيدون”، وأعضاء كنيست شاركوا بندوات ومهرجانات حمائلية. فبدل التحدث مباشرة إلى جمهور الناخبين، استخدمت القوائم زعماء الحمائل في الحكم المحلي كوسطاء، نظراً لقدرتهم في التأثير والحشد (الّتي لا تخلو من الضغط والإكراه).

كمقابل لهذا الدعم، مفهوم ضمناً لطرفي المعادلة (الأحزاب من جهة وزعماء الحمائلية من جهة أخرى) أنه متوقع من أعضاء الكنيست العرب أن يكونوا على استعداد للتدخل في الشاردة والواردة في شؤون الحكم المحلي لصالح القيادة الحمائلية، حتى في صغائر الأمور. فيما تمتنع الأحزاب، في ظل هذه المقايضة والمغازلة، من إبداء أي نقد تجاه المنظومة الحمائلية أو قصور في عمل السلطات المحلية.

هذه المقايضة قد تبدو جليّة في اقتراح قانون قدمه نواب الحركة العربية للتغيير، في فترة العمل القصيرة للكنيست الـ 23، بالشراكة مع عضو الكنيست موشيه أربيل من حركة شاس، يسعى لتسهيل إجراء التعيينات العائلية، ضاربين بعرض الحائط قضايا الفساد والمحسوبية في عمل السلطات. رؤساء سلطات من المحسوبين على التيار الحمائلي تفاخروا في أعقاب الاقتراح بالتعاون بينهم وبين أعضاء كنيست لتقليص التقييدات على تعيين الأقارب، والّتي تعتبر بنظرهم إجحافًا!

الرغبة في إرضاء الحمائلية ذهبت أبعد من ذلك، وترجمت في الواقع إلى امتناع عام وممنهج عن دعم الحراك لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة. رأينا ذلك مطلع عام 2020 عندما امتنع النواب أحمد الطيبي ومنصور عباس، بشكل مخيب للآمال، عن التصويت في طلب قدمه الوزير السابق حاييم كاتس (الليكود) لمنحه حصانة من المحاكمة بتهم فساد – رغم حملة الإطاحة بالليكود الّتي تغنّى بها النواب في تلك الفترة. في الأشهر الأخيرة، حسب نشر انفرد به الصحفي عميت سيجال، تطرق النائب عباس إلى قضايا الفساد الّتي تورط فيها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وأبدا استعداداً بالتصويت لصالح “قانون فرنسي” ينقذ نتنياهو من ورطته، معلّلاً ذلك بأن هذا ليس محرم ديناً – رغم أن النصوص الدينية، التراث، والأدبيات العربية والإسلامية تزخر بمضامين ضد الرشوة وخيانة الأمانة وغيرها من مظاهر الفساد.

هذه المواقف تبث رسالة مفادها التصالح أو على الأقل لا مبالاة تجاه الفساد، وإذا كانت هذه المواقف تجاه الحكم المركزي، فلا عجب أن تلتزم الأحزاب العربية الصمت عند سماع الأنباء عن تحقيقات مع رؤساء سلطات محلية عربية ومحاكمتهم بتهم تتعلق بالفساد.

في الانتخابات الأخيرة ظهر التصويت الحمائلي كنمط تصويت واضح. إضافة إلى إعلانات الدعم الحمائلية واستجداء الأحزاب، استغل الخصوم السياسيين من زعماء العائلات الاستقطاب بين القائمتين المشتركة والموحدة. في عدد من البلدات الّتي تشهد استقطاباً حاداً وصراعات عائلية (عنيفة أحياناً) على خلفية انتخابات السلطات المحلية، دعم أحد الأطراف القائمة المشتركة، والطرف الآخر دعم الموحدة. بالنسبة للقادة الحمائليين كانت هذه فرصة للحشد العائلي والمحافظة على جو التنافس مع العائلة الأخرى.

الأحزاب الّتي من المتوقع أن تجمع الناس حول رؤية سياسية ومنهج فكري، والّتي تتفاخر في عرض برنامج ديمقراطي وحلول إقليمية، تضحي بالقيم على مذبح الحمائلية. النقد الذاتي الّذي تزايد على أثر نتائج الانتخابات يتمحور حول نجاعة الحملات الانتخابية ومسائل إدارية وسياسية، إلى أنه يتغاضى عن هذا الإخفاق القيمي. متوقع من الأحزاب طرح بدائل ديمقراطية وأخلاقية للجمهور، بدل الزحف المخجل لزعماء العائلات، الّذي يعزز التشرذمات الحمائلية ويموضع الحمائل كلاعب مركزي في السياسية القطرية!

 

المحامي نضال حايك هو مدير عام جمعية “محامون من أجل إدارة سليمة”.

المحامي محمد قدح عضو الطاقم القانوني في الجمعية.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *