الحلم الصهيوني المعاصر: بين اختزال وتوحّد
في غمرة سياسات التوحّش الذي تعتمدها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضدّ عشرات المخيمات والقرى والبلدات والمدن في الضفة الغربية، توجّب أن تحظى خرافات القضاء الإسرائيلي «المستقل» بواقعة جديدة لا تُبطل جوهر التخريف ومكوّناته ومزاعمه، فحسب؛ بل تزوّد طرائق الزيف والتزييف بترخيص إضافي يمنح جندي الاحتلال حقّ إطلاق الرصاص الحيّ على، وارتكاب الإعدام الميداني البارد بحقّ، الفلسطينيين من ذوي الاحتياجات الخاصة، ومرضى التوحّد على وجه التخصيص.
وهكذا، بعد ثلاث سنوات من «المقاضاة» الأقرب إلى مسرحية هزلية فاقعة النكات، أصدرت محكمة الاحتلال المركزية في القدس حكمها ببراءة الضابط الإسرائيلي من حرس الحدود الذي قتل الفلسطيني إياد الحلاق (32 سنة)، في بلدة القدس القديمة، أواخر أيار (مايو) 2020؛ وكاد أن يُجهز على المعلّمة التي كانت ترافق الحلاق، المصاب بالتوحّد.
القاضية حنّة لومب أسفت لمقتل الحلاق «بطريقة مروّعة»، لأنّ «العدالة» الإسرائيلية تحرص على إبداء الشفقة والتعاضد الإنساني؛ لكنها اعتبرت أنّ الضابط القاتل «ارتكب خطأ صريحاً عندما ظنّ أنّ الشخص الواقف أمامه هو مخرّب مسلّح»، و«لم يكن يعلم أن إياد شخص بريء من ذوي الاحتياجات الخاصة». وأضافت أنّ القاتل الإسرائيلي «تصرّف بحسن نيّة، ولم يتوفر لديه إدراك شخصي بأنه كان يخاطر على نحو غير معقول»، متجاهلة حقيقة أنّ القاتل أطلق الرصاص على الجزء السفلي من جسم الحلاق أوّلاً، وحين استهدف الجزء الأعلى من جسده كان في الواقع يمارس الإعدام الميداني بدم بارد، وبحقّ جريح ساقط على الأرض.
ولأنّ مؤسسة «القضاء» هذه ذات ارتباط عضوي، وتكويني، بمؤسسات الكيان الصهيوني كافة، المدنية منها والعسكرية، الحاكمة أو المعارضة، «العلمانية الليبرالية» أو «اليهودية المتدينة»… فقد سارع وزير الأمن القومي، المتطرف الفاشي العنصري إيتمار بن غفير، إلى امتداح قرار تبرئة الضابط القاتل؛ فأنعم عليه بلقب «البطل» أوّلاً، ثم بشّره بأنّ أمثاله لن ينالوا من دولة الاحتلال أقلّ من «عناق، ومساندة كاملة». من جانبه سارع أمير كوهين، قائد شرطة حدود الكيان، إلى الترحيب بقرار المحكمة والإعلان بأنّ الضابط سوف يعود سريعاً إلى صفوف وحدته وسيلتحق بدورة ضباط قادة خلال أسابيع قليلة.
وقد يسأل سائل، محقّاً تماماً في الواقع: هل من جديد، على سجلّ وحشي وإجرامي وهمجي استبق تاريخ زرع الكيان ذاته؟ كلا، من حيث الجوهر، ما خلا أنّ المظاهر الأحدث لهذا «القضاء» الصوري المسرحي، الفاضح إنما تتعاقب خلال أَوْج أوّل يشهد المزيد فالمزيد من تأزّم خيارات الكيان الأمنية في وجه مختلف أنساق المقاومة الفلسطينية؛ وخلال أوجٍ ثانٍ، موازٍ طافح بالمفارقة، يسجّل تظاهر آلاف الإسرائيليين من أجل الحفاظ على… «قضاء» مستقلّ!
وقبل سنوات قليلة كان أفي شلايم، المؤرّخ الإسرائيلي البريطاني من أصول عراقية، قد نشر في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية مقالة بعنوان «بنيامين نتنياهو وموت الحلم الصهيوني»، بدت أقرب إلى نعي ما تبقى للإسرائيليين من تجاذب قديم أو تأسيسي، بين مجموعتين من الرؤى المتنافسة: ليبرالية، جسّدها دافيد بن غوريون، الأب المؤسس، قائد حزب العمل؛ ويمينية، قادها زئيف جابوتنسكي، مؤسس «الصهيونية التنقيحية». بعد 100 عام، فإنّ نتنياهو لم يجرّد بن غوريون من لقب رئيس الوزراء الأطول ولاية فقط، بل دشن ويواصل تثبيت مدرسة جابوتنسكي، مع إضافات أكثر تطرفاً جرّدت الأخير حتى من ورقة التوت القائلة بـ«عدم الاكتراث المهذّب» تجاه المطامح الوطنية للفلسطينيين.
ومن المشروع، استطراداً، أن يقيم مراقبو الحلم الصهيوني الصلة تلو الأخرى بين الضابط الإسرائيلي قاتل الفلسطيني المتوحد، وبين القاضية لومب التي روّعها مشهد القتل ولكن حرّك قرارها قانون غاشم أعلى يستوجب تبرئة المجرم، وبين تظاهرة صهيونية تتباكى على المحكمة العليا الإسرائيلية، و… بين فظائع اجتياحات جنين ونابلس وحوارة وقلقيلية؛ لأنّ الحلم تقارب وتماثل، واختَزل بقدر ما اختُزل.
عن القدس العربي