الحلقة الثالثة من كتاب: أطول أيام الزعيم لـ نبيل عمرو

وصلت سيارة صغيرة، توقّفت قبالة ‏الفرن الذي يعمل منذ بداية الحرب ليلًا ‏نهارًا، وقد فاجأني ترجُّل القائد العام ‏منها ودخوله إلى الفرن.‏‎ ‎

ما الذي جاء بهذا الرجل الآن وفي هذا ‏الوقت المبكر؟ إنه يبدأ يوم عمله على ‏العاشرة صباحًا. ثم ما الذي جعله ‏يدخل مهرولًا إلى المكان الذي لا ‏يصلح إلا لإنتاج الخبز. كان يأتي إلى ‏المنطقة لتفقُّد الإذاعة، ولإنجاز بعض ‏الأعمال فيها. إلا أنه كان يفعل ذلك بعد ‏حلول الظلام. لاحظت انتشارًا لمرافقيه ‏وحرّاسه الذين أعرفهم. كانوا يرتدون ‏ملابس مدنية ويخفون مسدّساتهم تحت ‏قمصانهم الفضفاضة خشية اكتشافها ‏من قبل كاميرات التجسس ذات الكفاءة ‏العالية، والتي كانت منتشرة على ‏الأرض وفي الجو وفي البحر.

ظننت ‏بادئ الأمر أنّ الرجل الذي ما يزال ‏داخل الفرن جاء لإجراء مقابلة سريّة ‏على قدر كبير من الأهمية، بحيث ‏تحتاج إلى تمويه كهذا. أخيرًا وبعد أن ‏أمضى قرابة عشر دقائق خرج من ‏الفرن فتحلّق الجمهور الذي تجمع ‏للتزود بالخبز المجاني حوله. كان قد ‏تضاعف عدده بعد أن عرف أهل الحي ‏بوصوله. اندمج بالناس حتى اختفى ‏عن ناظري بفعل كثافة الحشد. فهو ‏يحب مشهدًا كهذا ومن مواهبه ‏المعروفة أنه يمتلك قدرة على تحويل ‏الاحتشاد العفوي إلى اجتماع شعبي ‏يكون فيه المتحدِّث الأول والأخير. لم ‏يقاوم المحتشدون إغراء وجود قائد ‏المعركة بينهم، ولعلها فرصة لسماع ‏الحقيقة منه، بعد أن أمطرتهم الإذاعات ‏بوابل من الأخبار المتضاربة حول ‏المغادرة والوجهة.‏

‏-‏ متى المغادرة يا سيادة القائد وإلى ‏أين؟

لم يجب عن السؤال متى، فهو نفسه لا ‏يعرف، وحتى لو كانت لديه معلومات ‏عن أوقات محتملة. لم يكن التفاوض ‏حول هذا الأمر قد وصل إلى نتيجة ‏بعد، إلا أنه أجاب عن سؤال إلى أين‎.‎

خرج الجواب من فمه كالطلقة:‎

-‏ إلى فلسطين‎.‎

كان جوابًا فلكلوريًا نمطيًا لم يشف ‏غليل السائلين، إلا أنهم وحرصًا على ‏اللياقة في التعامل مع قائد مصيرهم ‏جاملوه بتصفيق متراخٍ‎.‎

انبرى صحفي للسؤال، لعلّه يحظى ‏بسبق، فقال‎:

-‏ نعرف يا سيادة القائد بأن فلسطين ‏هي وجهتك ووجهتنا كذلك، السؤال ‏أين هي المحطة الآتية التي تسبق ‏العودة النهائية، يقال أنك تلقيت ‏دعوة من صديقك رئيس وزراء ‏اليونان كي تكون أثينا هي الميناء ‏الأول الذي ترسو فيه سفينتك، ‏ويقال كذلك أنه تم إعداد مقر لك في ‏إحدى ضواحي تونس العاصمة فهل ‏هذا صحيح؟

كنت وأنا أراقب المشهد من الشرفة ‏أتابع الحوار لعلني أستنبط منه فكرة ‏أكتبها في تعليق إذاعي، فماذا يا ترى ‏سيجيب عن هذا السؤال‎؟

اقتحم المشهد شاب كما لو أن الأرض ‏انشقّت عنه واندفع ناحية القائد العام، ‏وهمس في أذنه بكلمات، هزّ رأسه ‏مبديًا اهتمامًا بما سمع، ودّع الجمهور ‏بإشارات متعجلة وحشر نفسه في ‏السيارة الصغيرة، عرفت فيما بعد أن ‏الشاب الذي همس في أذنه هو أحد ‏حراسه المكلفين بمراقبة الأجواء، فقد ‏أبلغه بأن هنالك طائرة على علو ‏مرتفع تحوم في سماء بيروت‎.‎

لم يدر محرك السيارة، تعطلت لحظة ‏الخطر، فاحتمال أن تأتي طائرة قناصة ‏أو قاذفة للقضاء عليه وعلى من حوله ‏بدا أكيدًا، خاصة وأنه استقر في المكان ‏لما يزيد عن نصف ساعة‎.‎

فتحي، الذي هو كبير مرافقيه ويمكن ‏اعتباره أحد أهم مساعديه وكاتمي ‏أسراره، والقارئ المتمكّن للغة الجسد ‏التي يعبر بها رئيسه عما يدور في ‏داخله، أشار إليّ طالبًا مفاتيح سيارتي ‏التي كانت رابضة في مرآب البناية ‏المقابلة، رميته له وغادرت الشرفة ‏للحاق به. كانت سيارة يقودها أحد ‏مرافقي أبو إياد تمر بالصدفة، فحشره ‏الحراس في داخلها وانطلقت مسرعة ‏بينما كان فتحي يخرج سيارتي من ‏مكانها‎.‎

لا أحد يعرف إلى إين ذهب القائد ‏العام. رجال الحلقة الأمنية الضيقة التي ‏تحيط به هم شبان أذكياء مدربون في ‏أهم وأرقى المعاهد الأمنية، بعد أن ‏جلست إلى جوار فتحي سألته‎:

‏-‏ إلى أين ذهب؟ هل لديك وسيلة ‏اتصال به

قال:‏

‏-‏ لا وسيلة حتى أجهزة اللاسلكي التي ‏كنا نستخدمها في الظروف العادية ‏ممنوع فتحها للإرسال والاستقبال ‏حين يكون القائد العام في المكان. ‏لكن يقدر الشباب أنه ذهب إلى أحد ‏مقرات الأخ أبو إياد، فلنذهب إذًا ‏إلى هناك‎.‎

أقرب مقر لجهاز الامن الموحّد الذي ‏يقوده أبو إياد يبعد مئات الأمتار عن ‏ساحة الفرن، في دقائق وصلنا إليه. ‏ترجلت من السيارة ودخلت مسرعًا إلى ‏القبو المموه جيدًا والمحمي بأكياس ‏الرمل‎.‎

كان تقدير رفاق فتحي صحيحًا، فما إن ‏اجتزت باب القبو حتى وجدتني وجهًا ‏لوجه أمامه‎.‎

كان جالسًا وراء مكتب صغير، وأمامه ‏جميع أعضاء الجهاز الذين يتواجدون ‏في المقر، كان قد اصطنع فيما يبدو ‏اجتماعًا لتبرير زيارته المفاجئة وغير ‏المألوفة. انضممت إلى المتحلقين حوله ‏جلوسًا ووقوفًا، ولما رآني اختصر ‏القول‎..

-‏ إذًا، لا تصدّقوا الشائعات ولا ما ‏تقوله الإذاعات فحتى الآن لم نحسم ‏أمر الخروج‎.‎

تقدمت منه وهمست في أذنه‎:

-‏ فتحي وسيارتي في الانتظار إن ‏كنت راغبًا في المغادرة‎.‎

-‏ هل أصلحوا السيارة؟

سألني

-‏ لا أعرف، ولكنهم نقلوها من ‏المكان‎.‎

صرنا ثلاثتنا داخل سيارتي العادية ‏وغير المصفّحة بالطبع.‏‎

فتحي والذي أسماه رفاقه ومرؤوسوه ‏‏”سلبد” بفعل طريقته في الحركة ‏والكلام. يعرف أن رئيسه لا يفصح ‏عن وجهته إلا بعد أن تتحرك السيارة.‏

هكذا بنى ياسر عرفات لنفسه نظرية ‏امنية خاصة به اساسها موهبة ‏الإحساس المسبق بمصادر الخطر، إنه ‏يشمه ولو عن بعد. ومع اعتماده على ‏هذا الإحساس الذي افتقر اليه كثيرون ‏من زملائه ومعاونيه ما أدى الى قتلهم، ‏كان يعتمد كذلك على براعته في حسن ‏انتقاء العناصر التي يسند اليها ‏مسؤولية حمايته، ومن منهم يمتلك ‏مؤهل الحفاظ على اسراره في امر ‏التنقل من مكان الى آخر، خصوصا ‏في مجال الحراسة النهارية والليلية ‏إضافة الى حرصه على جمع أكبر قدر ‏من المعلومات دون كلل او ملل ‏ويستخلص منها ما يخدم منظومته ‏الأمنية.‏

كان ينفق وقتًا طويلًا في قراءة ‏التقارير الواردة من كل مكان له فيه ‏آذان وعيون. وبفعل منظومته الأمنية ‏الخاصة نجا من موت محقق في العديد ‏من ساحات حروبه التي لم تتوقف. وقد ‏اهتم وبصورة مواظبة بالحلقة الضيقة ‏التي تحيط به وتنقيتها من أية شوائب ‏وسد الثغرات التي يمكن ان تستغل ‏للوصول اليه والقضاء على حياته. ‏وهنالك عامل يبدو انه الأهم من كل ‏ذلك هو العلاقة الحميمة التي كانت ‏تربطه بمن يتولون خدمته وامنه.

كانت ‏علاقة ابوية قوامها الحب. بفعل ذلك ‏كان الجدار الإنساني والعاطفي الذي ‏بناه المحبون حوله هو اهم مصادر ‏الامن والأمان لرجل كان دائما على ‏رأس قوائم التصفية.‏

كانت السيارة “تمشي الهوينا”. لم ‏يفصح القائد العام عن وجهته ولما ‏وصلنا الى تقاطع طرق اضطر فتحي ‏للسؤال‎.‎

‏-‏‎ ‎إلى اين؟

أجاب‎ :‎

‏-‏ اذهب يسارًا‎ ‎

اذا فقد صرنا على الطريق المفضي ‏الى غرفة العمليات المركزية وهي ‏عاشر غرفة على الأقل تؤسس لإدارة ‏المعارك منذ بداية الحرب قبل اكثر من ‏شهرين، حين وصلنا الى بداية شارع ‏فرعي يفضي اليها أوقف فتحي السيارة ‏وسأل‎.‎

‏-‏ هل ندخل الى العمليات؟

أطرق القائد العام لثوانٍ وامر بمواصلة ‏المسير باتجاه آخر‎.‎

بعد ان قطعنا قرابة مائتي متر طلب ‏التوقف، وترجل من السيارة وقطع ‏الشارع العريض الذي تقع على حافته ‏الإذاعة اللبنانية الرسمية ووزارة ‏الاعلام، هبط على درج ضيق يفضي ‏الى بيت حجري قديم، اخرج من جيبه ‏مفتاحا واداره كما لو انه مواطن يفتح ‏باب بيته، لما صرنا داخل البيت لم أر ‏فيه غير مكتب صغير ووراءه مقعد ‏بلاستيكي وحوله عدد من مقاعد ‏مماثلة‎.‎

لحقنا فتحي وكان عارفا المكان حاملا ‏قدر ما استطاع حمله من ملفات مليئة ‏بالأوراق ومعه كذلك الحقيبة الضخمة ‏التي كنا نسميها “شنطة العجائب”‏‎ .‎

وضع فتحي رزمة الملفات امامه على ‏الطاولة والى جوارها الحقيبة واستأذن ‏القائد العام بالمغادرة قائلا‎ ..‎

‏-‏ ‎ ‎كي اتابع حركة الطيران في ‏الأجواء‎ .‎

في طريقنا الذي لا يتجاوز الكيلو متر ‏الواحد الواصل بين مقر الامن الموحد ‏و البيت الصغير الذي نجلس فيه، ‏جرى حوار بيننا نحن ركاب سيارتي ‏الثلاثة، كانت عشرات فوهات المدافع ‏وراجمات الصواريخ والمسدسات ‏تنتظر إشارات من الكاميرات المثبتة ‏في كل مكان للإجهاز عليه حال التمكن ‏من تحديد مكانه‎.‎

أولئك الذين انتبهوا لوجود القائد العام ‏في سيارة عادية دون أي قدر من ‏التمويه، حيث كانت النوافذ الأربعة ‏مشرعة، أبدوا ردود فعل مختلفة: ‏بعضهم رفع إشارة النصر التي يحبها ‏الرجل، وبعض اخر كان يشيح بوجهه ‏او ينظر الى السماء ليرى الطائرة التي ‏تترصده‎.‎

شعر وقد فهم مغزى اشاحة الوجه عنه ‏لمجرد رؤيته انه صار مبعث خوف ‏في النفوس، استدار ناحيتي وقال‎.‎

‎ – ‎كان الله في عون الناس، لقد تحملوا ‏وصبروا‎ ‎‏.‏

سألت

‏-‏ لم لا تتخفى؟

وكأنما لدغه عقرب، أجفل وقال بلهجة ‏مؤنبة:‏

-‎اتق الله يا رجل كيف اتخفى، وانا ‏اقود أطول وأهم معركة في تاريخ ‏المنطقة. هل ستواصل احترامي لو ‏رأيتني مرتديا لباس امرأة؟ او عمامة ‏رجل دين؟ ثم ماذا سيكون حال مقاتلينا ‏الذين تعودوا على وجودي بينهم مقاتلا ‏مثلهم، وماذا سيقول اهل بيروت ‏وسكان المخيمات حين يعرفون ان قائد ‏المعركة موه نفسه كي ينجو من ‏الموت‎.‎

كان هجومه علي صاعقا على نحو ‏اربكني، الا انني وجدت نفسي بحاجة ‏الى حجة ابرر بها اقتراحي المرفوض‎.‎

قلت:‏

‎ – ‎ولكن الضرورات تبيح المحظورات‎ ‎

كنت اعرف انه يحفظ درسه جيدا ‏ولديه الإجابات الجاهزة عن كل سؤال ‏او اقتراح‎ ‎

قال:‏

‎ – ‎الضرورات بالنسبة لي ان اواصل ‏المعركة كما بدأتها ، اما المحظورات ‏فهي ان استبدل لباس الميدان بأي لباس ‏آخر‎.‎

جلس القائد العام وراء الطاولة الخشبية ‏الصغيرة، شرع في تقليب كومة ‏الأوراق التي كنا نسميها “عدة الشغل‎”‎‏. ‏كان قد ثبت نظارة القراءة على انفه ‏واستل من الجيب الذي وضع على ‏ساعده بناء على طلبه قلم الحبر ‏الأحمر وراح يعمل. يضع سطورا ‏تحت الجمل التي تسترعي انتباهه، ‏ويكتب ملاحظات وتوجيهات لمن ‏ستتحول الأوراق إليهم، يتأوه ويقول ” ‏أوف… ما أكثر الأوراق، انها اوراقكم ‏وهي قادمة من كل مكان، ولابد من ‏قراءتها واتخاذ اجراء بشأن ما ورد ‏فيها. نظر الي كما لو انني أمثل كل ‏الذين يعملون معه ويمطرونه بالأوراق ‏وقال‎:‎

‏-‏ في الحرب وغير الحرب في مكتبي ‏وفي السيارة والطائرة أوراق ‏واوراق، ما بتخلصش ابدا‎.‎‏ !!‏

كنت قد سمعت منه هذا القول مئات ‏المرات، وحين قال له احد ضيوفه ذات ‏مرة‎..‎

‎ – ‎لمَ الشكوى يا أبو عمار، فكثرة ‏الاوراق بحجم العمل، ولكن ما دام ‏الامر كذلك، فلم لا تكلف مكتبك ‏بالتلخيص والرد، ضحك يومها وقال‎: ‎

‎ -‎مهو الكوم الي قدامي بعد ‏التلخيص‎.‎‏!!‏

‎ – ‎ما الذي جاء بك الى الفرن في ‏ساعة مبكرة؟ فمنذ عملت معك لا ‏اعرف أنك تبدأ العمل على هذا النحو ‏المبكر؟‎.‎

رمى القلم الأحمر على الطاولة وخلع ‏نظارة القراءة وقال:‏

‏ ‏‎ – ‎ليه هو انا نمت مبارح، يدوبك ‏ساعة بعد اذان الفجر‎.‎

وقال مجيبا عن سؤالي‎:‎

‎ – ‎وصلتني اكثر من شكوى عن ان ‏الفرن المركزي صار يتوقف عن ‏العمل مع انني وفرت له كل ما يحتاج ‏كي لا يتوقف، أحببت ان اطلع على ‏أوضاعه بنفسي. كانت زيارتي ‏مفاجئة. لقد سررت حين رأيت ‏العاملين في الفرن يواصلون عملهم ‏امام بيت النار‎.‎

ابلغوني انهم يوقفون العمل ساعة في ‏اليوم من اجل الوقود، واحيانا ساعتين ‏من اجل الصيانة، شكرتهم ووعدتهم ‏بأوسمة‎.‎

‎ ‎قلت انهم يستحقون اكثر من ذلك ‏فبفضل جهدهم وتفانيهم لم تحتج ‏بيروت ولو رغيفا من الخبز فضلا عن ‏انني انا وزملائي في الإذاعة اكثر ‏المستفيدين من عمله الدائم فقد توفرت ‏لنا الكهرباء ليلا نهارا وصرنا بخلاف ‏معظم سكان بيروت نشاهد التلفزيون ‏ونشرب الماء المثلج. ولقد اهتدى الينا ‏محمود درويش ومعين بسيسو اللذان ‏يسكنان في شقة غسان مطر في البناية ‏الملاصقة لبنايتنا، وكل يوم يرسلون ‏ابنه جيفارا “الذي قتل على يد قوات ‏معادية بعد الخروج من بيروت”، ‏ليتزودوا بالثلج كأحد ضرورات ‏الابداع لأشعارهم ومقالاتهم. ‏

حين كان القائد العام يزورنا في ‏الإذاعة ليلا كنا نفصل التيار الكهربائي ‏ونستبدل الإضاءة المبهرة بالشموع، ‏حتى حين كان يطلب كأس ماء كنا ‏نحرص على ان لا يكون باردا‎.‎

سألت‎:‎

‎ – ‎وهذا المكتب ما هي حكايته،؟

‎ ‎رسم على وجهه ابتسامة عريضة، ‏فهكذا كان يفعل حين يتلقى سؤالا يحبه ‏ويفتح له باب فخر بما يفعل. قال‎:‎

‏-‏ ‎ ‎انه يخص اتحاد طلبة فلسطين فرع ‏جامعة بيروت العربية. كان الشباب ‏قد دعوني للغداء فيه قبل اشهر من ‏اندلاع الحرب، اعجبتني فيه كل ‏مواصفات غرفة العمليات ‏‏”المتدارية‎” ‎

وراح يجول ببصره في ارجاء البيت ‏القديم ويطنب في شرح مزاياه.‏

‏-‏‎ ‎‏ تحت الشارع، بيت صغير وقديم لا ‏يلفت النظر ولا جيران قريبين منه ‏فأنت تعلم ان دبيبي ثقيل.‏

‎ ‎كنت اعرف من عملي المباشر معه ‏انه يكفيه حجر وحجر آخر ليصطنع ‏منهما مكانا يمارس منه عمله القيادي. ‏اما باقي اللوازم فهي متوفرة فيه ‏شخصيا وفي سيارته التي يتصل منها ‏مع كل العالم عبر جهاز لاسلكي من ‏طراز “راكال”، كان جهازا فائق ‏القدرة على الاتصال بأبعد نقطة في ‏الدنيا‎ .‎

اذا ووفق مقاييسه فالمكان الذي نحن ‏فيه يبدو نموذجيا. جذب شنطة العجب ‏اليه، فتحها وراح يفتش عن شيء‎.‎

ولشنطة العجب هذه حكاية بل حكايات. ‏هي من طراز “سامسونايت ‏توريستر”، متوسطة الحجم، الا نها ‏تتسع لكل ما يحتاج حتى لو انقطع في ‏عمق الصحراء: أوراقٌ مروسة بعبارة ‏القائد العام وقلم متعدد الألوان صيني ‏الصنع، وعلب ادوية للصداع والمغص ‏والغثيان واحمرار العيون والجروح ‏السطحية، وقطع من الحلوى وابر ‏وخيوط وازرار وعلب سجائر ونظارة ‏قراءة احتياطية. وما لم اتذكره من ‏محتوياتها اكثر بكثير مما ذكرت‎ .‎

مرة وحين كنا نرافقه في جولة على ‏القوات في جنوب لبنان تراهنا هل ‏يوجد في شنطته سجائر جيتان التي ‏كانت قليلة التداول. ما ان سألناه حتى ‏رسم على وجهه تلك الابتسامة ‏المألوفة، واخرج من الشنطة علبة ‏الجيتان الزرقاء، ورفعها كما لو انها ‏إشارة نصر‎ .‎

سألناه:‏

لماذا الجيتان؟

‏ قال:‏

‎ -‎انها مخصصة لحلفائي اليساريين فهم ‏يحبون هذا النوع من السجائر‎.‎

وأردف قائلا:‏

‎ – ‎ليس هذا فقط واخرج سيجارا كوبيا ‏ضخما وقال، وهذا للأكثر يسارية مثل ‏لطفي الخولي‎.‎

‎ ‎وقال أحد الجالسين وكذلك للأكثر ‏يمينية مثل أسامة الباز، ضحك ‏وضحكنا‎.‎

رسم على وجهه علامة الجدية كما لو ‏أنه يعتذر لنفسه عن الوقت الذي ‏اضاعه وهو يجيب عن اسئلتي ذات ‏الطابع الشخصي، فعاد الى أوراقه ‏معلنا بلغة الجسد ان وقت الأسئلة ‏الفضولية قد انتهى.‏‎ ‎

ناولني ورقة وقال:‏

‎ -‎اقرأ هذه فهي مهمة جدا

كانت واردة من بعثتنا في نيويورك، ‏فيها تحذير صريح مفاده ان ينتبه كثيرا ‏خلال الأيام القليلة المتبقية له في ‏بيروت، وان لا يطمئن لوقف اطلاق ‏النار الذي توصل اليه واعلنه المبعوث ‏الأمريكي فيليب حبيب. لفتت نظري ‏جملة مكررة ” انتبه انتبه انتبه” فهنا ‏من لا يريدون خروجك حيا من بيروت‎ ‎‎.‎

‎ ‎سألت:‏‎ ‎

‏- هل المصدر موثوق؟

أجاب:‏

‎ – ‎انت بتعرفه هو صاحب الشهيد أبو ‏حسن‎.‎

قلت: ‏

‎ – ‎سمعت حكايته‎ ‎

كان المصدر ضابطا أمريكيا يعمل في ‏المؤسسة الأشهر ال‎ CIA ‎‏ وقد تم ‏تكليفه من قبل رؤسائه بالتنسيق مع أبو ‏حسن سلامة خلال زيارة القائد العام ‏للجمعية العامة للأمم المتحدة، تلك ‏الزيارة التي القى فيها خطابه التاريخي ‏والتي استقرت جملته السحرية في ‏وعي العالم‎ : ‎‏”لا تسقطوا الغصن ‏الأخضر من يدي”.‏

سألت‎ ‎‏:‏

‏-‏‎ ‎‏ في تقديرك هل هذا التحذير من ‏رجل أبو حسن شخصيا أي بمبادرة ‏منه ام انه موعز له به؟

قال:‏

‎ -‎طبعا هو من رؤسائه‎.‎

‎ ‎وأفصح عن انه يوجد في واشنطن من ‏يريد إنجاح مهمة فيليب حبيب ويرون ‏في وقف إطلاق النار والهدوء أمراً ‏ضروريا لذلك ولو حدث اغتيال في ‏هذه الفترة الحساسة فسينهار كل شيء‎. ‎

قلت محاولا بث طمأنينة في نفس ‏الرجل الذي ما يزال يعيش حالة حذر ‏شديد‎ :‎

‏-‏‎ ‎‏ اذا نحن في امان‎! ‎

ضحك وقال:‏

‏- هذه هي أمريكا، فيها بالمقابل من ‏يريد قتلي حتى لو ذهب فيليب حبيب ‏ومهمته في “ستين داهية” وهؤلاء ‏يعتمدون على إسرائيل فإن فعلتها فمن ‏يسأل ومن يحاسب؟

أحببت تأكيد قوله على الأقل كي لا ‏أبدو ساذجا فقلت

‎- معك حق، اذا لابد من مضاعفة ‏الحذر فعلا‎.‎

هزّ رأسه مؤكدًا.‏

عن القدس دوت كوم

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *