“العرب” اللندنية، 2019/01/31

مع تقديم حكومة السلطة الفلسطينية استقالتها إلى الرئيس محمود عباس في 28 يناير الجاري، يقف النظام السياسي الفلسطيني، الناشئ عن اتفاق أوسلو عام 1993، في مواجهة انعطافة ثالثة في تاريخه، خاصة مع ميل قيادة حركة فتح لتشكيل حكومة فصائلية، وذلك بعد خطوة حل المجلس التشريعي أواخر العام الماضي، ما يفيد بسعي تلك الحركة للاستئثار بكيان السلطة، علما أنها كانت لفترة طويلة تشتغل كحزب للسلطة، ناهيك عن أن ذلك سيعمق الاستقطاب والانقسام السياسيين، بينها وبين حركة حماس.
يجدر التذكير هنا أن الانعطافة الأولى حصلت إبان الانتفاضة الثانية (2000 – 2004)، وذلك عبر فصل منصب رئيس الحكومة عن منصب الرئاسة، بعد أن كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يجمعهما في شخصه (1994 – 2003)، إضافة إلى كونه رئيسا لمنظمة التحرير، وقائدا لحركة فتح، وذلك استجابة للضغوط الخارجية، خاصة الأميركية، التي فرضت ذلك لإضعاف نفوذه وخلق بدائل له.
وهكذا تم، في حينه، تعيين الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس رئيسا للحكومة في العام 2003، إلا أنه سرعان ما قدم استقالة مدوية بعد خمسة أشهر، بسبب خلافه مع أبوعمار. والنتيجة بعد ذلك أن منصب رئيس الحكومة ذهب إلى كل من أحمد قريع، بين 2003 و2006، ثم إلى إسماعيل هنية، من عام 2006 إلى عام 2007، وبعده إلى سلام فياض، بين 2007 و2013، وأخيراَ إلى رامي الحمدالله منذ عام 2013.
أما في ما يخصّ الانعطافة الثانية، فهي حصلت نتيجة انقسام النظام السياسي الفلسطيني، وفصل سلطة الضفة عن سلطة غزة عام 2007، بعد الانقلاب السياسي الكبير المتمثّل في فوز حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات 2006، وهو الأمر الذي خلق مشكلة كبيرة، حيث أضحى الكيان الفلسطيني برأسين، إذ ثمة رئيس السلطة محمود عباس من جهة، ورئيس الحكومة إسماعيل هنية من جهة أخرى، إضافة إلى وجود مرجعيتين سياسيتين مختلفتين، أي فتح وحماس.
المهم أنه في ذلك الوقت وجدت فتح نفسها في مواجهة حركة منافسة لأول مرة في تاريخها، في حين وجدت حماس نفسها فجأة في قيادة سلطة، هي في الأصل مختلفة معها، فضلا عن أنها غير منضوية في أطر منظمة التحرير، بحيث ذهبت الأمور نتيجة ذلك إلى اقتتال دامٍ، ثم إلى انقسام السلطة الفلسطينية.
على ذلك فإن النظام السياسي الفلسطيني اليوم، وفي توجهه نحو تشكيل حكومة فصائلية، هو في خضم انعطافة ثالثة في تاريخه، ستكون لها تداعياتها الكبيرة والخطيرة على نظام ضعيف ومنقسم، ولا يملك سوى سلطة على شعبه، أصلا، في واقع تمتلك فيه إسرائيل السيادة على الأرض والموارد والمعابر، وتهيمن من كل النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية، وهي تريد استمرار السلطة فقط لتجويف الحركة الوطنية الفلسطينية، ووضع الفلسطينيين في مواجهة بعضهم، والتحرر من العبء السياسي والأمني والاقتصادي للاحتلال.
وبشكل أكثر تحديدا فإن إقرار إقامة حكومة فصائلية (تضم بعض المستقلين)، يثير مخاوف عديدة، لاسيما من النواحي الآتية:
أولا، احتمال اعتبار ذلك بديلا عن مطلب إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وهو الأمر الذي يجب تركيز الجهود عليه، لاسيما أن تجربة العقود الماضية المتعلقة بتهميش المنظمة، وإضعاف مؤسساتها، وتعليق الاجتماعات الدورية للمجلس الوطني الفلسطيني، تؤكد على ذلك.
ثانيا، في هذا التوجه، وبدلا من فكّ الارتباط الوظيفي والإداري بين المنظمة والسلطة، وحصر السلطة بإدارة وضع الفلسطينيين في الضفة وغزة، فإن القيادة الفلسطينية تكرّس ذلك الارتباط المضر، الذي همّش المنظمة ولم يفد السلطة.
ثالثا بدلا من تقوية المجتمع المدني وتعزيز حضوره وتنمية مؤسساته، لأهمية ذلك في الصراع ضد السياسات الإسرائيلية، فإن مثل هذا التشكيل سيسهم في إضعاف هذا المجتمع، وسيزيد الفجوة بين الفصائل والشعب، علما أن أغلبية الفلسطينيين خارج الفصائل.
رابعا، عبر هذا القرار فإن القيادة الفلسطينية تكرّس نظام المحاصصة الفصائلية (الكوتا)، الذي أكل عليه الدهر وشرب، لاسيما مع فصائل لم يعد لمعظمها أي مكانة في مجتمعات الفلسطينيين في الداخل والخارج، ولا أي دور في مواجهة إسرائيل، ولا أيّ هوية فكرية أو سياسية.
وقصارى القول فإن القيادة الفلسطينية، وهي قيادة فتح والمنظمة والسلطة، مطالبة بوضع حد لهذه السياسات، التي لا تثير إلا المزيد من الانقسامات والخلافات والتوترات في الساحة الفلسطينية، بدلا من توحيدها بخلق إجماعات وطنية فيها، والتي تبدد الطاقات في صراعات جانبية على مواضيع المصالحة وحل المجلس التشريعي والخلاف حول تشكيل حكومة، بدلا من حشد الطاقات في مواجهة إسرائيل.
ولعل أهم ما يفترض إدراكه هنا، أن كل الخلافات الحاصلة هي مجرد تعبيرات أو مظاهر، لأزمة وطنية شاملة وعميقة، ناتجة عن تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة، في جزء من أرض، لجزء من شعب، مع جزء من حقوق، وعن إخفاقات خياراتها السياسية والكفاحية، بمعنى أنها أزمة تطال الكيانات والرؤى والعلاقات وأشكال العمل، وهذا ما يفترض بذل الجهود وتركيز الطاقات من أجل تصويب السياسة الفلسطينية، والخروج من هذه الأزمة المستعصية.