الحكومة الإسرائيلية والتقاسم الوظيفي في تنفيذ إستراتيجية الحسم

في مقالنا الأخير “إسرائيل الثالثة وخطة سموتريتش للانتقال من إدارة الصراع إلى حسمه” سلطنا الضوء على تفاصيل هذه الإستراتيجية التي تتناغم مع رؤية الليكود وإن اختلفت معها في آليات التنفيذ. في هذا السياق يجب فهم تشكيل حكومة إسرائيل الـ37 كتحول سياسي وقانوني طبيعي ومتوقع في نظام اليودقراطية. تحول راكمت فيه منظومة الصهيودينية ومعها “الحريدية” قوتها على حساب الصهيوعلمانية الليبرالية، في وقت عملت الأخيرة على ترسيخ ثوابت ديمقراطية الشعب السيد كأداة لإحكام السيطرة الاستعمارية على الفلسطينيين بين النهر والبحر. وعليه، أتت الرياح بما لا تشتهي سفنهم حيث تقاسمت أحزاب حكومة نتنياهو السادسة تشكيل “بازل” حكم شبه متكامل لتهويد النظام السياسي، القضائي، حيز الأرض وتخطيطها بين النهر والبحر.

بكلمات أخرى، في إسرائيل الثالثة ستُهمش منظومة الدولة اليهودية التيوقراطية خطوة خطوة مقومات الدولة اليهودية الديمقراطية ومعها إقصاء الصهيوعلمانية من حيز الحكم العام، وذلك في نفس قولبة نظام اليودقراطية الذي استثنى العرب أصلا من شرعية الدولة والمواطنة الحقة. (انظر مقال “نظام اليودقراطية وعبثية خطاب المساواة في إسرائيل”).

نظرة متفحصة لاتفاقيات تشكيل الحكومة توضح أن أهداف إستراتيجية الحسم حاضرة وبقوة بتفاصيل إعلان السيادة الإسرائيلية على مناطق الضفة، مع تعميق السيطرة هناك من خلال نقل إدارة شؤون المستوطنين للوزارة المختلفة، مثل باقي الإسرائيليين وترأس حزب الصهيونية الدينية وزارة المالية، وزارة الاستيطان والمهام القومية، ولأول مرة في تاريخ إسرائيل وزارة ذات صلاحية مستقلة داخل وزارة الأمن سُنّ لها قانون خاص قبل المصادقة على الحكومة.

وفقا لذلك، تنتقل صلاحيات وزير الأمن بالكامل، بكل ما يتعلق بمهام السلطة المدنية العسكرية لهذه الوزارة بما يشمل تنفيذ المهام الأمنية والمدنية في الضفة الغربية، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه للبدء في تنفيذ مخطط الحكم الذاتي في ست محافظات. لهذا الغرض شملت الاتفاقيات تفعيل بعض قوانين السلطات المحلية الإسرائيلية في الضفة مع الاتفاق على حصار وخنق متزايد للسلطة الفلسطينية بهدف القضاء عليها إستراتيجيًا، خصوصًا إذا ما واصلت التوجه للمحكمة الدولية في لاهاي والمؤسسات الدولية. هذا في الوقت الذي سيعمل فيه الاستعمار على تحريش منطقة C بالزيتون بالإضافة لمستوطنات مزارع فردية كما يحدث في النقب.

على مستوى الأرض وتخطيط الحيز، فقد حصل سموتريتش على أهم وزارات على الإطلاق كما ذكر منها وزارة الاستيطان التي أصبح اسمها وزارة المهام القومية، وسيتواجد ممثلوها في إدارة “سلطة أراضي إسرائيل” ولجان التخطيط القطرية واللوائية خصوصا في مناطق الصراع، المدن المختلطة، الجليل، النقب، والضفة. كما شملت الاتفاقيات إعداد خطط وتنفيذ خطط جاهزة في هذه المناطق بما فيها مخطط الاستيطان في النقب الذي أقرته حكومة بينيت – عباس -لبيد، والذي يشمل إقامة 14 مستوطنة ومدينة “كسيف” في قلب التواجد العربي.

في السياق ذاته وفي ظل توزيع الأدوار، سيتحكم حزب “عوتسما يهوديت” (قوة يهودية) بزعامة بن غفير بوزارة الأمن القومي بما تشمل الشرطة وقوات حرس الحدود أيضًا في الضفة، والقدس والأقصى. وفقا لقانون بن غفير الجديد، ستصبح صلاحياته موازية لوزير الأمن، أي تنفيذية مباشرة خلافا للوضع الذي سبق. بذلك استكملت الأحزاب الصهيودينية تحكمها بالتخطيط الأمني والتنفيذ بين النهر والبحر.

لضمان تنفيذ ذلك ميدانيًا، حصل بن غفير على نقل سلطة إنفاذ القانون من وزارة المالية إلى وزارة الأمن القومي. يذكر أن هذه السلطة مسؤولة عن تنفيذ هدم البيوت، مصادرة الأرض والتحريش وغيرها من مهام تهويدية. كذلك نقل لوزارة الأمن القومي سلطة الأمن المجتمعي، الدورية الخضراء، والشرطة الخضراء. كما حصل بن غفير على وزارة تطوير النقب والجليل مع نقل سلطة التخطيط لتطوير زراعة القرى والمستوطنات، وكذلك نقلت لهذه الوزارة سلطة الشباب والأجبال المسنة. وإن كان هذا لا يكفي، فقد حصل حزب “قوة يهودية” بقيادة بن غفير على وزارة شؤون التراث بما فيها ترميم المواقع الأثرية، وطبعا العين على ألأقصى أولا، ومعه تغيير كل المعالم الأثرية الفلسطينية المتبقية. في السياق نفسه تسلم ملف عرب النقب المتطرف عميحاي شيكلي، وزير الشتات والمساواة.

ليس هذا فحسب، فمن معالم الدولة اليهودية التيوقراطية أيضا تديين جهاز التربية والتعليم أكثر وأكثر، إذ سيتم نقل كل قسم الثقافة اليهودية بموظفيه لوزارة المهام القومية التابعة لحزب سموتريتش. كذلك ستمنع وزارة المعارف من التفتيش في مدارس “الحريديين”، وسيتم نقل برامج شركة المراكز الجماهيرية (المتناس) وبرامج التعليم اللامنهجي والترفيه و100 مركز جماهيري تابع لها في البلاد من وزارة المعارف لسيطرة وإدارة “شاس” من خلال وزير لها في وزارة المعارف. أما الفاشي آفي معوز، رئيس حزب “نوعم”، فقد حصل على منصب نائب وزير في مكتب رئيس الحكومة، ونقل لمكتبه من وزارة المعارف كل جناح الخطط الخارجية “غيفن” مع إقامة سلطة الهوية القومية.

على مستوى السلطة القضائية، أعلن وزير القضاء، ياريف ليفين، خطته لقلب نظام الحكم بإخضاع النظام القضائي للسياسي الحزبي المتحكم بالسلطة التشريعية الكنيست، وذلك من خلال سن قوانين عدة مثل: قانون عدم تدخل المحكمة العليا بما يسن قانونيًا في الكنيست، سن قانون “ههتغبروت” (التغلب) بأكثرية 61 عضو كنيست، إلغاء “عيلات هسبيروت” (المعقولية)، وتغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة بما يكفل أكثرية للسياسيين.

في السياق نفسه، حرصت الأحزاب الصهيودينية على أن يترأس حزب الصهيونية الدينية لجنة الدستور والقانون وسيكون نائبه بن غفير بما يكفل سن القوانين التي تم الاتفاق عليها. من بين هذه القوانين والتعديلات يثبت بالقاطع للقاصي والداني التحولات الجذرية في طبيعة النظام نحو تعميق سلوكيات الاستعمار السياسية والقانونية بما يجذر أكثر نظام الفصل العنصري/ الأبرتهايد في “إسرائيل الكبرى” بين النهر والبحر. فالاتفاق مع بن غفير على تمييع وشطب الفقرة القانونية التي تشترط عدم التحريض العنصري يشرح كل الحكاية ويعود بنا إلى جذور بن غفير الفكرية والسياسية. نعم من بين أسباب تعديل قانون أساس الكنيست عام 1985 ردود الفعل الدولية على دخول حزب الصهيودينية الفاشية “كاخ” في حينه للكنيست الـ11 عام 1984 برئاسة الفاشي الحاخام مئير كهانا، الأب الروحي لبن غفير وزمرته. شمل التعديل في حينه “منع أي حزب أو شخص لا يعترف بيهودية الدولة أو يعارض الطابع اليهودي الديمقراطي لها أو ينتهج دعاية التحريض العنصري من المشاركة في انتخابات الكنسيت”. وعليه مُنع حزب “كاخ” وكهانا من المشاركة في انتخابات 1988.

في اتفاق الحكومة الأخير حرص بن غفير على ربط ذلك بالمنع الفعلي من كل لا يعترف بيهودية الدولة ويدعم “الإرهاب” ليشمل كل الأحزاب العربية. من نافل القول إن هذه الصيغة وبهذه الضبابية جعلت من فرص ترشيح عناصر “قوة يهودية” أمثال الفاشي ميخائيل بن آري وباروخ مارزل ممكنة.

وإذا كان هذا لا يكفي لفضح واقع إسرائيل الثالثة اليهودية التيوقراطية، فإن الاتفاق على سن قانون يخول المحلات اليهودية وأصحاب المهن تقديم الخدمات بحسب معتقداتهم الدينية، يجعل من شرعنة مسلكية الفصل العنصري أمر واقع قانونيا على أساس عرقي، ديني، أيديولوجي وجنسي أيضًا. وعليه، لا غرابة في اتفاق بن غفير ونتنياهو على سن قانون يدعم الجنود والشرطة وقت الخدمة في حالة تعديهم على العرب، أو كل من يتصادم معهم من أوساط ما يطلقوا عليهم تجنيا اليسار الإسرائيلي.

من هنا، لم تترك إسرائيل الثالثة اليهودية التيوقراطية للصهيوعلمانية والليبرالية غير خيار الهجرة أو الاندماج في الواقع الصهيوديني المفروض أو التحول إلى يسار حقيقي يناضل من أجل دولة ديمقراطية واحدة لكل مواطنيها بين النهر والبحر، مع الاعتراف مسبقًا بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وتنفيذ قرار هيئة الأمم المتحدة 194 بما يتعلق بعودة اللاجئين مع العدالة التصحيحية.

عن عرب48

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *