الجريمةُ.. والمجتمعُ في الداخل…!

تجاوزت حالاتُ القتل والجريمة في المجتمع الفلسطيني في الداخل حدودَ المعقول؛ فالجريمة والقتل ليست جزءًا من الثقافة الفلسطينيّة “إلا ما ندر” فهناك مجتمعٌ فلسطينيٌّ في الضفة الغربيّة وفي غزّة؛ فلماذا تبدو النسبة في الداخل بشكلٍ يثيرُ التساؤلات، خصوصًا أن مجتمع الداخل يعيش في دولةٍ أمنيّةٍ بامتيازٍ تنتشر فيها أجهزةُ الأمن والكاميرات المراقبة والشرطة والمعلومات، ومع ذلك تتوسّع الجريمةُ بحدودٍ لا مثيل لها إلا في الدول المنهارة؟
الفلسطينيون هناك يقولون: إنّ إسرائيل تستطيع خلال ساعتين الوصول لمن يقتل يهوديًّا إسرائيليًّا، لكنّها تفشل في معرفة القاتل عندما تكون الضحيّة عربيّة…! هكذا هو الأمر، وتلك لم تعد مصادفات، خصوصًا بعد انتشارها بهذا الشكل الذي يهدّد بنية المجتمع ويمهّد لانهياره كتلةً اجتماعيّةً تغرق في مأساتها، وتفشل في حماية نفسها، وتفشل في تنظيم نفسها ومعالجة إشكاليّاتها الوطنيّة وحرف أولويّاتها نحو الأمن الشخصي وحمايته من عصابات الجريمة، فالأمنُ الشخصي كان أولوية البشر في عهد ما قبل الدولة عندما كانت البشرية تعيش عهود الغزو والتوحّش، ولكن مع عصر الدولة يفترض أن الأمر يختلف.
في اعترافاتٍ على الملأ لجنرالات من الشرطة الإسرائيلية أنّها لا تستطيع معالجة الأمر؛ لأنّ جهاز المخابرات الشاباك يتدخّل بشكلٍ معاكس، ويمنعها من ذلك؛ لأنّه تمكن من ربط العصابات أمنيًّا ويسمح لها بحمل السلاح، بل يموّلها ويغطّيها بحمايته من السجن والعقاب، ومن ثَمَّ فالمجرمون – باعتبارهم متعاونين – لديهم الحصانة اللازمة لارتكاب الجريمة، بل وتعزيزها لشيءٍ في نفس يعقوب.
تلك تبريراتٌ فنيّةٌ أو أمنيةٌ تبدو جزءًا بسيطًا من الحقيقة، ولكن الأمر أبعد من ذلك بكثير في دولة تم تصميمها لإثنيّةٍ عرقيّةٍ محدّدة، والأبعد من ذلك أنّ الكتلة العربيّة هناك هي جزءٌ من شعبٍ يعيش حالة صراع مع إسرائيل، وتحاول تلك الدولة تحطيم هذه الكتلة بكل الإمكانيات.
حين تسلم نتنياهو الحكم عام 1996، تسرب تقرير من مكتبه يعدّ الفلسطينيين داخل إسرائيل “خطرًا أمنيًّا” هنا بيت القصيد الذي يمكن أن يعطي واحدًا من التفسيرات، بل وأهمّها وأكثرها وضوحًا ليس فقط لجهة البعد القومي بل لجهة أبعاد أكثر أهمية، وإذا كان قد أشير لنتنياهو باعتباره مهندس الجمهورية الثالثة في إسرائيل، ففي إطار هندسته في حكمه المتواصل الذي امتدّ على مساحة العقد ونصف الماضيين تقريبًا، كان للفلسطينيين داخل إسرائيل نصيب من تلك الهندسة في تفكير رجل عدّهم في اللحظة الأولى لوصوله “خطرًا أمنيًّا” فلا يمكن للذاكرة السياسية أن تقفز عن ندائه الشهير في انتخابات 2015، الذي دعا فيه اليهود للنزول والتصويت بكثافة؛ “لأن العرب يهرعون للصناديق”.
وإذا كان الفلسطينيون هناك يشكلون خطرًا أمنيًّا فقد تبدّى في السنوات الأخيرة قدرتهم في لحظةٍ ما على التحكّم بالنظام السياسي الإسرائيلي من خلال قدرتهم خلال الانتخابات الماضية على تعيين رئيس الوزراء، وهو ما تمَّ في انتخابات 2021، حيث تسبّب تحالف منصور عباس عن الحركة الإسلاميّة بإبعاد نتنياهو عن رئاسة الحكومة وهو ما عدّ سابقة عكست قوة العرب الذين وصلوا ذات مرة بوحدتهم إلى 15 عضو كنيست، وهو رقم ينذر تصاعده بزيادةٍ لا تحتملها الدولة التي تمّت هندستها ببعدٍ أيديولوجي إثني محدّد.
المجتمعُ السوي يفرز حركةً وطنيّةً سويةً تلك من بديهيات السياسة، وبات واضحًا في العقود الأخيرة منذ أن شق الفلسطينيون في الداخل طريقهم السياسي الخاص منذ الانتفاضة الشعبيّة عام 1987 وشكلوا أحزابهم العربيّة بعد اصطدام القوميتين على جانبي الحدود أنهم استفادوا من تجربة المجتمع الإسرائيلي والمؤسسة الإسرائيلية التي أنشئت بثقافة الإرث الأوروبي الذي نشأت به الحركة الصهيونية، وقد ظهر الخطر الأول منهم أمام اليمين حين رجح العرب تمرير اتفاق أوسلو في الكنيست، هذا كان يعني لليمين قدرتهم على الحسم في “تقسيم أرض إسرائيل”.
زادت الجريمة عن الحد المعقول إلى الدرجة التي أصبحت محرجة للمؤسسة الإسرائيلية بشكلٍ فاقع وباتت المسألة مكشوفةً إلى حدّ كبير، وفي إطار الحلول يقترح نتنياهو تدخّلًا أكبر للشاباك الذي يتّهمه قادة الشرطة بالتسبب بالجريمة، ولكن الأمر أبعد كثيرًا حيث يشي بإعادة الحالة الفلسطينية هناك لستة عقود للوراء.
حين أقيمت دولة إسرائيل داخل أراضي الـ 1948 بقي في حدودها 156 ألف فلسطيني وضعتهم إسرائيل في ما يشبه المعازل وصفها بشكلٍ دقيقٍ الروائي اللبناني إلياس خوري في روايته “أبناء آدم” عن الغيتو في اللد نموذجًا للتعامل معهم، وقامت بفرض الحكم العسكري الذي استمرّ حتى سنة 1968 خضع خلاله المجتمع كليًّا لسيطرة جهاز الشاباك وبلا أحزابٍ سياسيّةٍ تحت وطأة الخوف.
ويعود نتنياهو يجترح هذا الحل من جديدٍ لتعميق سيطرة المخابرات ما يعكس فكرةً جوهريّةً وهي إعادة السيطرة على المجتمع وعودة للحكم العسكري بصيغة محدثة تتلاءم مع تغيرات اللحظة ومع متطلبات السيطرة والقمع وإنهاك المجتمع وإضعافه، ومن ثَمَّ إفقاد القوى السياسيّة هناك حاضنتها الاجتماعيّة التي تشكّل مركز قوتها الأبرز.
لقد عملت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على إضعاف بنية المجتمع الفلسطيني وحرمانه من الإمكانيات، ومارست التمييز في الموازنات وتعاملت معه مجتمعًا درجةً ثانية، وظلّ الاقتصاد الفلسطيني اقتصادًا على هامش المنظومة العامة مجرّد ورش تصليحٍ في أبعد حدوده.
اللافت في استفحال الأزمة أن هناك ما لا يعفي القيادات العربية والأحزاب السياسية من المسؤولية وهم يدركون جذورها ودوافعها السياسية يطالبون الدولة الإسرائيلية بحلّها، وتلك تطرح تساؤلاتٍ على طبيعة فهم المشكلة أوّلًا، والتنصّل من مسؤوليّة الحل، فقد تبلور المجتمع الفلسطيني كتلةً سياسيّةً اجتماعيّةً لها مؤسّساتها الثقافيّة والحزبيّة وإن اتّضح أن أول ضحايا الجريمة هي الأحزاب السياسيّة وهي المستهدفة قبل كل شيء وقد تبدى انعكاس إنهاك المجتمع على نسبة التصويت التي وصلت في الانتخابات الأخيرة إلى مستوياتٍ هي الأقل منذ بدء مشاركتهم السياسيّة وأثرت على حضورهم في الدولة وجردتهم من ممكنات قوتهم التي تبدت قبل عدة دورات بوصول الكتلة إلى 15 عضو كنيست.
الأزمةُ متصاعدة، وهي ليست جديدةً وقبل أربع سنوات طلبت لجنة المتابعة العليا من الدكتور أسعد غانم الاستعانة بطواقم من المختصين لوضع حلولٍ جذريّةٍ تعتمد على المؤسّسات الفلسطينيّة، وقد استعان الدكتور أسعد بمائة وخمسين خبيرًا فلسطينيًّا في الداخل، وقدّم هذا الجهد في كتاب عُقد على إثره مؤتمر، لكن في محادثة بيني وبينه اشتكى من أن لجنة المتابعة لم تتابع سطرًا واحدًا من الدراسة التي وضعت أمامها، فقد انتهى كل شيء مع انتهاء المؤتمر.
كيف يستطيع رئيس بلدية اللد اليهودي عقد مصالحة بين عائلتين عربيتين متناحرتين في المدينة، ولا تستطيع القوى العربية فعل ذلك؟ هذا كان السؤال المحير للمتابعين والباحثين؟ ولماذا لم تبذل القوى السياسية والأحزاب جهدًا في هذه الأزمة واكتفت بمناشدة الشرطة والحكومة بوضع حد لها وهي تدرك أن النظام السياسي برمته يقوم على التهميش والاستهداف لتلك الكتلة؟ ما الجهد الذي تقوم به في هذا الإطار؟ وما الممكن؟ وإذا كانت الكتلة العربية والمجتمع العربي في حالة استهدافٍ دائم ألا يجب على الأحزاب السياسية أن تقوم بجهدٍ مقابل؟
إذ يبدو الاكتفاء بالمناشدات جزءًا من المأساة في غياب برنامج عمل، بل بوجود برنامج عمل أخفقت الأحزاب في تحويله إلى فعل، هكذا يقول الدكتور غانم الذي أمضى ما يكفي مع الخبراء لوضع برنامج… تلك هي الأزمة!
عن مجلة الهدف الالكترونية