الثورة في واقع العرب: النهر ضد المستنقع*
خالد الحروب
لا تقع الثورة في مكان ما إلا وتكون شروطها الموضوعية قد تراكمت ودفعت الناس دفعا إلى تبنيها والانخراط فيها. الثورة، وبالتعريف، مُكلفة وهي اقرب إلى المغامرة والمقامرة منها إلى اي شيء محسوب بدقة. والميل الإنساني التاريخي نحو التغيير والتخلص من الامر الواقع الفاسد يفضل الاصلاح التدريجي، إن كان قيد الاستطاعة، على الثورة العارمة. الاصلاح التدريجي يوفر على المجتمعات اكلافا كبيرة تضطر لدفعها في خضم اندلاع الثورة. ذلك ان الثورة عندما تنفجر مدفوعة بأسباب حقيقية تطال شظاياها كل جوانب حياة المجتمعات، وتزلزل ما استقر من زمن طويل. لكن عندما تنسد كل منافذ الاصلاح التدريجي او حتى البطيء جدا تجد الشعوب نفسها امام خيار الثورة بكل اكلافه. بهذا المعنى تغدو الثورة، وبكونها الحل الاخير، علاجا بالكي بعد فشل كل انواع العلاج الاخرى.
الثورة تندفع على الوضع القائم الفاسد المُستبد كما يندفع النهر على المُستنقع. المستنقع هو مستودع التكلس، والجمود، وتتراكم في اعماقه كل انواع التعفنات وامراضها. كلما مر وقت اطول على المستنقع من دون ان يطاله جريان الماء يزداد تكلسا وتعفنا (بالقبلية، والطائفية، والفساد، والمحسوبية، وكل ما صار معروفا). الشكل الخارجي للمستنقع يوحي بالاستقرار والأمان: حدوده واضحة، وأفقه معروف، ولا حركة فيه مجهولة المسار والمصير. المجتمعات التي تعاني من وطأة الاستبداد الطافح تتحول الى مستنقعات منطوية على نفسها وعلى اغوارها السوداء. الحرية هي الآلية الوحيدة التي تمنع تحول المجتمعات المستقرة إلى مستنقعات، لأنها كالنهر دائم الجريان يدور في جنبات المجتمع طولا وعرضا، ينظف عوالق التكلس، ويندلق على كل بقعة تعفن قد تطاله فيطهرها.
المستنقعات العربية طوال العقود الماضية شلّت المجتمعات وامتصت ثروات البلاد واستنزفت كل طاقاتها. تراكمت طيات العفن فيها إلى درجة الاختناق. ومنعت سيطرة حكم الفرد الواحد، والحزب الواحد، والعائلة الواحدة، بروز أية منافذ حقيقية للإصلاح التدريجي او البطيء إلا في حالات قليلة. في تلك الحالات القليلة كان يتم تنفيس الاحتقانات ويُترك لجريان الماء، او بعضا منه، كي يعيد الحياة إلى بعض الجوانب الميتة، لكنها حالات نادرة. في معظم الحالات، في المقابل، دافع الاستبداد عن وضع المستنقع كما هو، مبقيا على آليات تراكم التعفن تأكل ما تبقى من الجسم الحي في المجتمع، وتؤبد الاحباط وتبذر بذور الغضب القادم والثورة الشاملة، وتستدعي تدفق النهر وفيضانه الكبير حلا اخيرا ولا بديل عنه.
وصلنا في المنطقة العربية إلى مفترق طرق عسير: إما التمسك بالمستنقع، واستقراره الخادع وتعفنه العميق، وإما الانحياز للنهر المتدفق الذي سيجرف المستنقع ويقضي على العفن. صعوبة الاختيار على مفترق الطرق تكمن في ان نهر الثورة الجارف سوف يندفع بكل الطاقة المكبوته لعقود ولا يُعرف بأي اتجاه سوف يسير بعد جرفه المستنقع، وهنا المقامرة الكبرى. وهنا السبب الذي يعطي منطقا وافضلية لاطروحة الاصلاح التدريجي إن كان حقيقيا وليس تجميليا ونفاقيا. الاصلاح التدريجي يتفادى المقامرات الكبرى، او ما يمكن ان ينتج بعد إنجراف المستنقع، يمنح الجميع إمكانية الانتقاء والتجريب والتحسين وبطبيعة الحال الابقاء على اي انجازات من حقبة المُستنقع مهما كانت متواضعة. إنه لا يبدأ من الصفر، لا يجلب الدمار والانجراف كي يبدأ بعدهما المسيرة الجديدة كما يفعل النهر. في غالب الدول العربية إن لم نقل كلها لم تُطلق النخب الحاكمة مشروعات إصلاح حقيقي تحافظ على ما تم انجازه، وتطلق بها طاقات مجتمعاتها في مناخ من الحرية والمشاركة السياسية، وتتفادى غضبة النهر واندفاعه. الاصلاح المُتبنى كان دوما تجميليا وهش القشرة، وفي الجوهر هدفه حماية سياسات المستنقع وتعزيزها. الكل ساهم في الإنقياد إلى المأزق والإنسداد الكلاني الذي ما عاد يكسره إلا ضربة نهر موجعة، ثورة شاملة، تقلب عالي المستنقع اسفله وتحرره من تعفنه.
إلى أين ستقودنا الثورات العربية، أليس من الممكن ان تؤدي بالمجتمعات إلى اوضاع اكثر سوءا من تلك التي ثارت عليها؟ أليس ثمة إحتمال او حتى إحتمالات ان يقودنا فوران هذا النهر غير المنضبط إلى اتجاهات مدمرة او مجهولة، بعيدا عن طموحات الحرية والكرامة والعدالة التي أسست لكل الثورات وكانت منطلقها؟ ألا يتربص أصوليون يتنافسون في التطرف على بعضهم البعض للسيطرة على مجتمعات ما بعد الثورة ويقحمونها في عصور مظلمة؟ ألا يعيد الخارج ترتيب اوراقه إزاء بلدان ما بعد الثورات معززا سيطرته عليها وعلى المنطقة، ومواصلا هيمنته وربما استغلاله لثرواتها ولكن بطرق جديدة؟ هذه كلها وكثير غيرها هي جوانب سؤال او تخوف مركزي يردده كثيرون إزاء الثورات، ازاء النهر المندفع والمصائر التي يمكن ان يحمل إليها المجتمعات. يدفع هذا التخوف المشروع كثيرين للتجروء واعلان الانحياز الى الوضع القائم (المُستبد والطاحن والفاشل)، لأن الحفاظ على ما نعرفه رغم شروره، أي المستنقع مع تعفنه، افضل من المقامرة بالانحياز إلى ما نجهله. بعض من هؤلاء يرددون تلك التخوفات بحسن نية وخوف على حاضر باهت ومستقبل مجهول، وبعض آخر بسوء نية بكونهم من المنتفعين من العفن المقيم، وحرصا على من تبقى في سدة الاستبداد ودفاعا عنه.
التخوفات تلك وربما غيرها كثير مشروعة، إذ ليس ثمة ضمانات مسبقة على المستقبل. لكن في المفاضلة بين النهر والمستنقع الآسن يجب ان ننحاز إلى النهر. مستقبل المستنقع المتعفن معروف: المزيد من الاستنقاع والمزيد من التعفن، ليس هناك نهاية سوى إنتظار النهر القادم والمحتوم. مسألة إندفاع النهر في ومن بطن المستنقع ذاته مسألة وقت: إنها تحوم حول سؤال متى سيندفع النهر وليس في ما إن كان سيندفع ام لا. في المقابل، وبعكس المستقبل المغلق للمستنقع فإن مستقبل النهر وجرفه للمستنقع مفتوح … مفتوح على كل الاحتمالات. صحيح ان حس المقامرة عال في الاحتمالات تلك، لكن لا مناص عن المقامرة. إنها المرحلة التي لا بد لمجتمعاتنا ان تمر فيها حتى تنتقل إلى مرحلة النضج والتسيس والاجتماع الصحي. إذا بقينا خائفين من القيام في هذه النقلة بسبب ضريبتها المحتومة، سنظل نغوص في مستنقعاتنا للأبد. وإن كان لا بد من ترميز إضافي لجلاء الصورة اكثر فإن ما يعيننا فيها هو التأمل في مثال الطفل الذي يبدأ المشي للتو. كم عثرة وسقطة يواجها وهو في طريقة لتعلم المشي والانطلاق إلى ما بعدها؟ كم مرة يبكي، وربما كم مرة يُدمى انفه؟ لكن لا بد له من المرور بتلك المرحلة رغم صعوبتها، ذلك ان بقاءه في مرحلة الحبو مسألة ضد طبيعة الاشياء.
عليه، فإن الانحياز للثورات العربية، برغم كل ما فيها من اختلالات، ومغامرات، ومخاطرات، هو انحياز لإفق المستقبل ضد انسداد الحاضر المستنقعي، وضد احلام العودة للماضي المحنط. انحياز للحرية والكرامة، ضد الاستبداد والذل المستديم. وهو ايضا، وبوعي كامل، انحياز مُقامر في ذات الوقت. إذ ليس هنا اي قدر من السذاجة او التساذج يتغافل عن الصعوبات الهائلة التي تواجه مجتمعات مع بعد الثورات في المنطقة العربية. فإسقاط انظمة الاستبداد هو الشوط الاسهل، رغم صعوبته واحيانا دمويته وأكلافه الهائلة، خلال مسيرة بناء مجتمعات ديموقراطية وصحية وفاعلة. الشوط الاكثر صعوبة هو عملية التأسيس والبناء بعد عقود الخراب الطويل. الانحياز هنا يعني الاصطفاف مع التغيير ضد رتابة التكلس وجمود الاوضاع الآسنة. الثورة هي النهر الذي يجرف البرك الراكدة التي عشش العفن في قلبها، رغم ان ركوب النهر نفسه والتسليم بقياده مخاطرة ومقامرة ايضا.
* * *
من رُهاب الحاضر الى افق التاريخ
انجراف المستنقع لا يعني ظهور واحات خضراء مكانه على الفور. لهذا فإن الذين توقعوا او لا زالوا يتوقعون ان تتحول بلدان الثورات إلى جنان عدن بين عشية وضحاها كانوا ولا يزالون غارقين في الوهم. فالفساد والاستبداد الذين دمرا تلك البلدان على مدار عقود طويلة لا يمكن اصلاح آثارهما في وقت قصير. والشعوب نفسها التي حُرمت من الحرية والتعايش المشترك في بينها على مبدأ الندية والمساواة، وليس تفوق شريحة معينة واستبدادها ببقية الشرائح، هي شعوب تحتاج بدورها زمنا لا غنى عنه كي تتقن ممارسة الحرية من دون اعتداء على الآخرين ومن دون الانزلاق الى مهاوي استبداد جديد. صحيح ان لحظة “ميدان التحرير” ولحظات ميادين التغيير الاخرى مثلت التتويج المثالي لالتفاف الشعوب حول بعضها وتضامنها واسقاطها للدكتاتور الخاص بها هنا او هناك. لكن تلك اللحظة لا تستديم بكونها مغرقة في المثالية. روعتها تكمن في قدرتها الخارقة على توحيد الشعب على هدف مرحلي واحد هو اسقاط النظام الفاسد. وبعد سقوطه يتلاشى ذلك التلاحم وتعود التنافسات الطبيعية بين المجموعات المختلفة للظهور وطبع المشهد بصراعاتها. بل اكثر من ذلك، تأخذ هذه التنافسات والصراع بين المجموعات والاحزاب المختلفة اشكالا اكثر حدة لانها تتم الآن في مناخ الحرية وليس القمع، وهذا كله شيء طبيعي. لكنه بالنسبة للغالبية الكاسحة من الرأي العام تحول مُحبط، مُربك، ومثير للخوف على الحاضر والمستقبل، ويدفع جزءً من ذلك الرأي العام إلى الترحم على ايام الُمستبد حيث كانت الحياة “مستقرة”! “مستقرة” نعم، لكنه كان استقرار الاستبداد وليس استقرار الحرية. إنه “استقرار القبور” بإستعارة توصيف صادق جلال العظم لحال الامن والاستقرار التي تفاخرت بها انظمة الاستبداد العربي طويلا.
الحاضر المُباشر لما بعد الثورة هو الارتباك والفوضى المؤقتة. الاقرار بهذا يخفض من سقف التوقعات ويعقلن فهم التغيرات السياسية والاجتماعية الحادة ويضعها في اطار التحول التاريخي طويل الامد وليس انتظار النتائج يوما بيوم. ولهذا فإن الامر بالغ الاهمية في فهم واستيعاب حاضر الثورات العربية هو موضعتها في سياق التحولات التاريخية العريضة والمؤسسة لمرحلة جديدة تقتضي بدايات طويلة وصعبة وربما دموية. وهذه الموضعة تعني ايضا الانفكاك من اللحظة الراهنة وأسر التعثرات والتخوفات العديدة والتي يضخمها حلفاء الاستبداد المنقضي او الذي ما زال قائما، ويبثون الخوف عند الناس كي ينحازوا ل “استقرار الاستبداد” مرة اخرى.
تسببت عقود الاستبداد الطويلة في توليد طبقات من العفن المريع في مجتمعاتنا وبلداننا وحرمتها من التطور الطبيعي ومواجهة واقعها ومشكلاتها وجها لوجه. كانت الآلية الوحيدة للاستبداد في حل المعضلات هي كنسها واخفاؤها تحت السطح والتظاهر بأن كل الامور على ما يرام. ليس هناك شعب او مجتمع او مجموعة بشرية يتمتع بهذه الخدعة الكبرى وان “الامور على ما يرام”. تاريخ الاجتماع البشري والانساني قائم على ان “الامور ليست على ما يُرام” وان سيل المشكلات التي يواجهها البشر لا ينقطع. وتعريف السياسة يأتي من انها الآلية المُستديمة التي تحاول حل ما يستجد من مشكلات اولا بأول. طبعا لن تُحل كل مشكلات البشر وإلا لتحولت الارض إلى جنة مثالية. لكن السياسة الناجحة هي تلك التي تعمل على تفكيك اكبر المشكلات واخطرها على امن المجتمعات وتعايشها المشترك، وتحقق اكبر اقدار ممكنة من العدالة الاجتماعية والكرامة والمساواة.
المواجهة المباشرة مع المشكلات المركبة التي تضرب في بنية المجتمعات وحلها اولا بأول ليس من سمة الدكتاتوريات المنشغلة بالمهمة الاولى والاخيرة وهي الدفاع عن بقائها في الحكم. لهذا فإن ما يتم على مدار حكم الاستبداد هو تراكم المشكلات ودخولها حقبا طويلا من التعفن الطويل الذي يأتي على البنية التحتية للشعوب والمجتمعات، ويعمل على مفاقمة المعضلات الكبرى وتسعيرها. لذلك فإن ما يحدث فور سقوط النظام المُستبد، وهو ما نراه الآن في عدد من الحالات، هو انفجار تلك المعضلات دفعة واحدة بما فيها القبلية والطائفية والجهوية والتعصب الديني. تثير هذه الانفجارات احباطا وخوفا عميقا ومبررا، لكنها انفجارات لا بد منها. إنها القيح الذي لا مناص عن إسالته من الجرح حتى يتطهر ويتعافى. وفي النظرة إلى هذه الانفجارات وتقيحاتها يميل المزاج الشعبي في بلداننا الى النفور والرهبة والهروب الى الامام وعدم الاعتراف بواقع الاختلاف العميق، وهي سمات جماعية من مواريث الحقب الاستبدادية الطويلة. وهذه كلها تعبيرات عن الغرق المباشر في اسر اللحظة الراهنة والحاضر المرير على حساب الانحياز للتاريخ والمستقبل الذي تفتحه هذه الثورات واسقاطها لواقع القمع والجبروت الذي يخفي المشكلات ولا يواجهها.
كل ما نراه الآن من فوضى وعدم استقرار هو نتاج طبيعي ومرحلة لا بد من المرور بها إن اردنا الوصول إلى بلدان ومجتمعات قائمة على استقرار الحرية وتوافقات متكافئة بين الشرائح والمجموعات المختلفة داخل كل مجتمع. وليس هناك آلية سحرية يمكننا ان نستخدمها لحرق المراحل في هذه الحقبة. كان بالإمكان عبر عقود الاستقلال الطويلة ان تعمل الانظمة التي ورثت الاستعمار على نقل المجتمعات والبلدان تدريجيا الى مرحلة بلدان المواطنة والقانون والدستور وبذلك توفر على نفسها وعلى مجتمعاتها مقامرة الانخراط في ثورات شعبية عارمة كالتي رأيناها. الشعوب والمجتمعات تميل، كما أُشير في مقدمة هذه السطور، وبالطبيعة والتعريف والتجربة التاريخية الى آليات التغيير التدريجي والنمو والتطور الطبيعي إن كان ملموسا وحقيقيا ومقنعا للغالبية. لكن في غياب ذلك كله، وفي سقوط الاستبداد في كل اختبارات بناء البلدان واحدا تلو الاخر، وعقدا زمنيا بعد الآخر، تضيق خيارات الشعوب وتدفع دفعا نحو الخيارات والآليات القصوى، وتصبح الثورة مسألة حتمية، ومسألة حياة بالنسبة لهذه المجتمعات. حياة كريمة لكنها تأتي بعد مراحل صعبة ومريرة، او البقاء في موت سريري مستديم تحت لافتة الاستقرار الموهوم. رهان الثورات العربية القائمة هو على المستقبل، ويجب ان لا يعني هذا الهرب من الواقع، بل هو رهان يدرك أن جذر الوصول الى مستقبل صحي هو مواجهة مشكلات الواقع بشجاعة وعقلانية وعدم الهروب منها. من دون المقامرة مع النهر يبقى المستنقع مستعمرا لحاضر العرب ومستقبلهم.
* * *
إذا وضعنا انصار ومنظري الانظمة القائمة او تلك التي انهارت جانبا، هم ومقولاتهم ودفوعهم عن هذا النظام او ذاك، ننتهي إلى ثلاثة اتجاهات تجمل النظرة إلى الثورات والانتفاضات العربية في العام 2011، كل منها يضم طيفا من الرؤى والآراء. الاتجاه الاول هو التأييد التام والذي يندرج فيه “مديح الثورة” معتبرا أن التغيير مهما كان ستكون ايجابياته بعيدة الامد افضل بكثير من الوضع القائم وقتامته. الاتجاه الثاني يؤيد هذه الثورات في بعض البلدان ويعارضها في بلدان اخرى، متمترسا بمقولة اولوية الاستقرار وان المقامرة بتأييد الثورات كل البلدان تؤدي إلى فوضى سلبياتها ومآلاتها اسوأ من الوضع القائم. وبشكل أساسي نجد عند هذا الاتجاه التأييد التام للثورات في “الجمهوريات العربية”، من تونس ومصر، إلى ليبيا وسوريا واليمن، لكن التحفظ والوقوف ضدها في “الملكيات العربية” مثل السعودية، والبحرين، والاردن، والمغرب، وعُمان. أما الاتجاه الثالث فقد تبلور، او ربما انشق، عن الاتجاه الاول خاصة بعد الثورة الليبية والثورة السورية بزعم ان القوى الغربية اصبحت هي المُوجه الرئيس لهذه الثورات بشكل او بآخر، وان هذه القوى تحالفت مع انظمة عربية موالية للغرب، خاصة دول الخليج وتركيا بهدف تعزيز السيطرة الغربية في المنطقة. ولهذا فقد اصبح الرأي الغالب عند هذا الاتجاه هو الوقوف ضد هذه الثورات في ليبيا وسوريا حتى لو أدى ذلك إلى تأييد الاستبداد في هذه البلدان.
كل من هذه الاتجاهات يسوق مقدمات وتنظيرات ودفوعات عن موقفه. وكذا هي مقاربات “في مديح الثورة” إذ هي في تنوعها بين المعالجة الموضوعية، والتحليل السياسي والسوسيولوجي، والتأطير التاريخي لحالات الثورات العربية، تنحاز إلى الاتجاه الاول وتدافع عنه: اتجاه المقامرة مع جريان النهر على حساب البركة الآسنة.
*مقدمة كتاب “في مديح الثورة: النهر ضد المستنقع”، الصادر حديثا للمؤلف عن دار الساقي، بيروت (2012).