الثائر كورتي وسفارة كوسوفو في القدس

التقيت رئيس وزراء كوسوفو السابق، ألبين كورتي، في مكتبه المتواضع في وسط العاصمة بريشتينا عام 2005، وكان وقتها القائد الشاب المدافع عن قيم الحرية والعدالة والكرامة، والذي جذب، بكاريزميته المتميزة، الجموع الكبيرة حوله من الألبان، لمقاومة الحكم الصربي للإقليم. كنت شاهداً على التظاهرات التي يقودها ألبين ضد الإدارة الدولية للإقليم بعد الانسحاب الصربي، رافضاً المساومة على حرية شعبه، برفضه استبدال الحكم الصربي بحكم آخر من الأمم المتحدة. هو المقاتل نفسه، الثائر المدافع عن قيم الحرية ومقاومة المحتل، غرّد، بعد إقامة حكومة بلاده علاقات دبلوماسية مع أعتى دول الاحتلال والتمييز العنصري، إسرائيل، الشهر الماضي (فبراير/ شباط): “نرحب بالأخبار الجيدة بتأسيس علاقات دبلوماسية بين كوسوفو وإسرائيل، ونتطلع إلى العمل معاً لتعميق علاقاتنا السياسية والاقتصادية والثقافية”. وفي الأسبوع الماضي، ذهبت الدولة الفتية، كوسوفو، التي حصلت على استقلالها عام 2008، إلى أبعد من ذلك بكثير، بافتتاح سفارتها في القدس، لتكون الثالثة في العالم التي تقترف هذه الخطوة، بعد الولايات المتحدة وغواتيمالا.
لقد أقدمت حكومة كوسوفو، برئاسة عبد الله هوتي، على افتتاح سفارتها في القدس، في مارس/ آذار الجاري، متحدّية بذلك ليس فقط شبه الإجماع الدولي على رفض هذه الخطوة، لكن أيضاً متحدّية جائحة كورونا، بإصرارها على عقد حفل توقيع افتراضي عن بعد لتبادل فتح السفارات مع دولة الاحتلال، الذي قد يكون الأول من نوعه في التاريخ الإنساني بالاحتفال افتراضياً، بفتح سفارات وإقامة علاقات دبلوماسية. ندّدت دول في منظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الأوروبي بالخطوة، واعتبرتها انتهاكاً لقرارات الأمم المتحدة حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وخرجت الرئاسة الفلسطينية بتصريح يتيم، ندّدت فيه بالخطوة، ووصفتها بأنّها مخالفة للقانون الدولي.

مجموعة من المكاسب السياسية المتخيلة تدفع سلطات كوسوفو إلى حسم موقفها من الصراع لمصلحة إسرائيل. وكذا المقاتل من أجل الحرية والعدالة، ألبين كورتي، إلى التحالف مع أعداء الحرية في فلسطين. أولاً، كانت الولايات المتحدة من قادت التدخل العسكري عام 1999، الذي أدّى إلى انسحاب حكومة صربيا من كوسوفو. لذلك، يمكن مشاهدة تمثال بيل كلينتون في أهم شوارع بريشتينا، وكذلك تسمية شوارع باسم جورج دبليو بوش في تيرانا عاصمة ألبانيا. وهناك أيضاً لوبي ألباني فاعل في الولايات المتحدة، وتحديداً في نيويورك، كان له دور أيضاً في المساعدة بقرار التدخل العسكري ذاك، إلا أن كوسوفو اليوم تأمل إيجاد حالةٍ من الاصطفاف لمصالحها، مع تلك التي تحرّك التحالف العضوي الأميركي – الإسرائيلي. ومن أجل ذلك، فإنّ بريشتينا مستعدّة للذهاب إلى أقصى الحدود، كفتح سفارة لها في القدس المحتلة.
قد تستطيع كوسوفو فعلاً تحقيق بعض المكاسب السياسية من جرّاء هذا التحالف، لكنّها ستدفع ثمناً استراتيجياً كبيراً مقابله، مثل انسلاخها عن محيطها الثقافي ومخزونها الاستراتيجي، المتمثل بعلاقاتها مع دول العالم الإسلامي الذي، ولو لم يقدم الكثير لفلسطين، إلّا أنّ مسألة القدس، بالتحديد، أكبر بكثير من الحسابات القُطرية الفلسطينية – الإسرائيلية، إذ تمتد إلى فضاء المدينة الديني والثقافي والهوياتي أيضاً. بالدرجة نفسها من الأهمية، إلحاق كوسوفو بمعسكر اليمينية الترامبية، والاحتلال العسكري الإسرائيلي لأرض الغير، والتمييز العنصري في فلسطين، سيفرض، بالضرورة، إعادةً لتأصيل الصراع، وأيضاً إعادة تعريف المنظومة القيمية التي بنتها قيادات جيش تحرير كوسوفو الذي كان ألبين كورتي أحد قادته، وكان أيضاً مساعداً لمن كان يعرف بـ”مانديلا البلقان”، آدم ديماتشي، وكانت الصراع في كوسوفو يقدّم باعتباره ثورة حرية وكرامة ضد الاحتلال الصربي. لا يمكن أن تنتمي إلى مانديلا العدالة والحرية والثورة ضد الأبارتهايد، وتكون متحالفاً معه في الوقت نفسه. لقد رفض كورتي الاعتراف بشرعية المحكمة التي قُدِّم لها عام 1999، معتبراً نفسه مناضلاً من أجل الحرية، مخاطباً القاضي بأنّ كلّ شيء قلته وفعلته كان باختياري. قمت بذلك بكرامة وأنا فخور به. اليوم، سيجد كورتي نفسه، قد يضع يده بيد القاضي الإسرائيلي الذي يحاكم الثوار الفلسطينيين الذين ثاروا للكرامة والحرية التي ثار من أجلها كورتي عام 1999.

لكن، حتى لا يُحمَّل كورتي الإثم كله، أو حتى رئيس الوزراء، المندفع نحو التحالف مع المحتل الإسرائيلي، عبد الله هوتي، ينبغي السؤال عن دور القيادة الفلسطينية نفسها ودورها في تحمّل المسؤولية تجاه هذا التغير الراديكالي في موقف البلقان، أو يوغسلافيا السابقة من التضامن التاريخي مع القضية الفلسطينية إلى فتح السفارة في القدس. أقلّ ما يمكن قوله، أنّ إدارة السياسة الفلسطينية للعلاقات مع الصراع في كوسوفو كانت تقوم على الإهمال والتخبط والارتباك، فهي لم تعترف بكوسوفو منذ إعلان استقلالها عام 2008، ولم تستطع حسم موقف صربيا تجاهها أيضاً، المنفتحة أيضاً على العلاقات مع إسرائيل. أي إنّ الدبلوماسية الفلسطينية عملت على خسارة الطرفين، عوضاً عن أن تكسبهما كليهما أو أحدهما على الأقل. كذلك، اتهمت بعض القيادات في كوسوفو السلطة الفلسطينية بأنّها حرّضت ضدها على الساحة الدولية. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الموقف الفلسطيني من خبر فتح سفارة كوسوفو في القدس لم يتعدّ تصريحاً يتيماً للرئاسة الفلسطينية يندّد بذلك، مؤثرة عدم الاستثمار في الفضاء الإسلامي الواسع للتحرّك ضد بريشتينا، كما فعلت تركيا عوضاً عن الرئاسة الفلسطينية.
لقد أدّت انتخابات كوسوفو البرلمانية منتصف الشهر الماضي (فبراير/ شباط) إلى فوز حزب “حق تقرير المصير”، ما يوحي بعودة زعيمه كورتي قريباً إلى منصب رئاسة الوزراء في كوسوفو. التقطت القيادة التركية هذا التطور، واجتمع سفيرها في بريشتينا معه، وصرح بأنّ علاقات كوسوفو مع بلاده ستتضرّر إذا فُتحَت السفارة في القدس، ما جعل كورتي يقول إنّ حكومته المقبلة ستعيد دراسة أمر إقامة السفارة إلى القدس، بعد الاطلاع على أوراق الحكومة السابقة. هذا يفتح نافذة للأمل للتحرّك الدبلوماسي الفلسطيني الذي ربما آثر خوض ليس فقط معارك الانقسام بين حركتي فتح وحماس، بل أضاف إليها أيضاً معارك الانقسام الداخلي في حركة فتح ولجنتها المركزية لحسم منصب الرئيس الفلسطيني.
ستشهد الأيام المقبلة تغيراً مهماً على مستوى الحكومة في كوسوفو، ليشكل ذلك فرصة يمكن استثمارها باتجاه التغيير في الموقف من فتح السفارة في القدس، خصوصاً إذا تسلّم ألبين كورتي رئاسة الوزراء من جديد، والمطلوب تحرّك فلسطيني في هذا الاتجاه. فعلى الرغم من إدراكه ما يتطلبه عالم السياسة من التمسّك بالمصالح، والتخلّي عن المبادئ، فإنّ الثائر المناضل من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، ألبين كورتي، ربما لم يمت بعد، وما زال ينبض في داخله وبحاجة إلى من يوقظه. لقد غرّدت ردّاً عليه عندما رحّب بإنشاء العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، فقلت له: “ربما تحقق بعض المكاسب السياسية من هذا التحالف، لكنّك ستخسر نفسك في هذه العملية، ارجع إلى قيمك الإنسانية يا ألبين”. والأيام المقبلة وحدها ستكون كفيلة بحسم الصراع بين كورتي الثائر وكورتي السياسي.

عن العربي الجديد.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *