التغريبة الثانية لفلسطينيي سورية
أحدث الواقع السوري تغييرا جوهريا لدى فلسطينيي سورية، سواء من حيث تعرضهم للعنف الممنهج من قبل النظام وأطراف أخرى، أو في التغييرات الديمغرافية التي مست وجودهم، ودمرت أماكن تواجدهم في مخيماتهم الفلسطينية في سورية.
ولعل الكتاب الذي بين أيدينا (فلسطينيو سورية بين انتهاك الحقوق وتحديات الهوية) لمؤلفه أيمن أبو هاشم، يقدم مقاربات في غاية الأهمية عن أوضاع فلسطينيي سورية، مستندا إلى جملة من المعطيات والمعلومات، ومستخدماً العديد من المناهج البحثية، بهدف توصيف ما اصطلح على تسميته بالنكبة الثانية لفلسطينيي سورية، في تماهٍ واضح يعادل أو يفوق النكبة الأولى.
بالطبع لم يكتف مؤلفه أيمن أبو هاشم بتحليل تفكك الحالة العامة للاجئين الفلسطينيين في سورية بالبعد السياسي والقانوني والديمغرافي ، من خلال تناول العلاقة بين الأونروا ومؤسسة اللاجئين، و موقف منظمة التحرير الفلسطينية المعيب بحقهم، بل قدّم العديد من التوصيات للعمل على الانتقال إلى دائرة الفعل والمبادرة وأبرزها: العمل على تحفيز ضحايا المقتلة السورية من اللاجئين الفلسطينيين لطرق أبواب المحاكم، في الدول التي تتيح قوانينها مقاضاة مرتكبي جرائم الحرب.
إضافة إلى المطالبة بالعمل على تشكيل لجنة أو هيئة خاصة بالدفاع عن أملاك اللاجئين الفلسطينيين في سورية، ومطالبة دول اللجوء كافة والجهات المعنية بإدارة شؤون فلسطينيي سورية للاعتراف بحقهم في تثبيت جنسيتهم الأصلية، في كافة الوثائق والسجلات والبيانات، لكن النقطة اللافتة في توصية أبو هاشم هي ضرورة تمثيل اللاجئين الفلسطينيين في منظمة التحرير، فهو من وجهة نظره تمثيل ناقص وقاصر. بيد أنه غاب عن بال المؤلف، أن المنظمة التي يطالبها أصبحت جسدا بلا روح بعد أوسلو، وبعد أن تحولت المقاومة إلى سلطة لا تحسن إلا التنسيق الأمني مع إسرائيل.
ما يلفت النظر أن المؤلف حاول جاهدا ربط السياق السياسي مع القانوني أثناء البحث في مسألة اللاجئين الفلسطينيين في سورية، وهو ما تم تجاهله في الكثير من الأبحاث ، إذ بقيت هذه المسألة خارج إطار المعالجات القانونية المتعلقة بحماية حقوقهم الأساسية، وهي كما يعتبرها المؤلف، حقيقة صادمة دالّة على افتقاد اللاجئين الفلسطينيين لنظام الحماية الدولية.
الكتاب يركز بالجوهر على ما تعرض له اللاجئون الفلسطينيون في سورية بعد اندلاع الثورة السورية، فالنظام السوري استكمل سياساته الإقصائية تجاه اللاجئين الفلسطينيين،عبر سياسات العنف والتغييب والقتل والتغيير الديمغرافي بحجة التنظيم العمراني، ناهيك عن سياسات مصادرة أملاك اللاجئين والعبث بأشكال الملكية ، مما دفع بأعداد مهولة إلى الهجرة والبحث عن ملاذات آمنة.
يستعرض المؤلف التطور التاريخي لتشكل الكتلة اللاجئة من الفلسطينيين في سورية بعيد نكبة فلسطين، فبعد لجوء قرابة 90 ألف فلسطيني إثر نكبة فلسطين إلى سورية، أضحى عددهم 560 ألفا (2015) وهم يمثلون 2.8 بالمئة من السوريين، وأكثر من 13 بالمئة من اجمالي اللاجئين الفلسطينيين في الشتات. ويتوزعون على 15 مخيما، أغلبها دمّره النظام السوري.
وبعد اندلاع الأحداث في سورية هرب أكثر من 200 ألف فلسطيني خارج البلاد. ولا تستند هذه التقديرات إلى معطيات دقيقة، لأنه يصعب إجراء مسح في الحالة السورية ، ولربما نفاجأ بأرقام أكبرمن ذلك في حال كشفت الدول المستقبلة للاجئين عن أعدادهم.
على العموم يمكن التأكيد على ما جاء في الكتاب وابداء العديد من الملاحظات في سياق مناقشة ما جاء في الكتاب:
أولا، على الرغم من صدور العديد من التشريعات، أهمها القانون 260 لعام 1956، القاضي بتنظيم حياة اللاجئين في مجال العمل والتعليم، لكن هذه التشريعات حرمتهم الحقوق السياسية، وقيدت حركتهم السياسية، سيما بعد صدور قانون الطوارئ 1963، بالمقابل كان اللاجئون الفلسطينيون في سورية متمسكين بهويتهم ويرفضون أي مساومة للتخلي عنها، ويعتقدون أن هوية اللجوء هي هوية المقاومة وهي صانعة الوعي والإحساس بالانتماء إلى الوطن، وأن العودة عبر بوابة التحرير ليست بعيدة.
ثانيا، أدرك فلسطينيو سورية صلف النظام البعثي في سورية، وأن هدفه كان احتواء الورقة الفلسطينية، لتحقيق مكاسب إقليمية ودولية، وليس بغرض دعم نضال الشعب الفلسطيني ومقاومته. إذ ليس خافيا على أحد أن هذا النظام قد استثمر القضية الفلسطينية لتحقيق مصالحه.
ثالثا، سعى النظام البعثي إلى التحكم في مصائر اللاجئين الفلسطينيين في سورية، فكل تحرك سياسي أو نشاط اجتماعي أو مساهمة اقتصادية أو تملك عقار يقتضي الحصول على موافقة أمنية حصراً، عدا عن الشروط الأخرى التي وضعت بوجه اللاجئين لإبقاء سيف الأمن مسلطاً على رقابهم، وجعل حركتهم السياسية تحت عين الرقيب الأمني. وليس خافيا على أحد أن تحركات الفصائل الفلسطينية في سورية كانت تحت عين الضابطة الفدائية، وفرع فلسطين وهي من أقذر الفروع الأمنية التابعة للنظام السوري.
رابعا، تأرجحت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في سورية، تبعا لميزان الصراع بين قيادة منظمة التحرير مع النظام . فكان اللاجئون عرضة للقمع والاعتقال حينما تتدهورهذه العلاقات، فيعمد النظام لاعتقال أفراد هذا التنظيم أو ذاك، ودكهم في السجون، والتعامل معهم كأعداء.
خامساً، بالمقابل اندمج اللاجئون الفلسطينيون في سورية في بنية المجتمع السوري، وأسهموا في تطويره وتعزيزه تعليميا واقتصاديا وثقافيا، وعمقت علاقات المصاهرة بين الشعبين من لحمة الشعبين.
سادسا، ينبغي التوضيح أن القانون 260 لم يعامل كل اللاجئين الفلسطينيين في سورية على قدم المساواة، فهناك تصنيفات للاجئين الفلسطينيين في سورية: لاجئو 48، لاجئو 67، لاجئو 56، لاجئو 70، لاجئو 82، لاجئو العراق2003. هذه التوصيفات لم يسعَ النظام السوري لاستصدار أي تشريع يساعد على معالجة أوضاعهم القانونية المعقدة، بل فرض مزيدا من الإجراءات الأمنية والبيروقراطية، لجعل أي معالجة لأوضاعهم خاضعة لأجهزته الأمنية.
سابعا، على الرغم من محاولات الفلسطينيين اتباع سياسة النأي بالنفس، إلا أن النظام اتخذ قرارا بالعمل على زجهم في أتون الصراع في سورية، وووظف تنظيمات فلسطينية :(الصاعقة والقيادة العامة وجيش التحرير الفلسطيني على سبيل المثال وليس الحصر) لقمع الثورة السورية واللاجئين الفلسطينيين.
ثامنا، دفع فلسطينيو سورية أثماناً باهظة، تقريبا أربعة آلاف ضحية، جلّهم لاقوا حتفهم بسبب القصف والقنص والتعذيب والخطف. كما وثق اعتقال ما يقارب 1768 في فروع الأمن التابعة للنظام، وفقدان 328فلسطيني. وقضى 568 معتقلا فلسطينيا نحبهم في سجون النظام، و 205 فلسطيني جراء الجوع والحصار في مخيم اليرموك، وتم تدميرالكثير من المخيمات الفلسطينية (مخيم اليرموك مثلا).
تاسعاً، أصدر النظام السوري القانون رقم 10 وتعديلاته بهدف تجريد السوريين ومن في حكمهم (اللاجئون الفلسطينيون) من ممتلكاتهم، وأتبعه بالعديد من المشاريع بهدف تغيير جغرافية الأمكنة التي عاش فيها الفلسطينون، وإلى الأبد.
أمام هذا التوصيف يقترح الباحث أبو هاشم ضرورة تفعيل مبدأ المسؤولية الجنائية الفردية، انطلاقا من ضرورة تحديد هوية الأطراف المسؤولة عن الانتهاكات التي تعرض لها فلسطينيو سورية. من هنا يأتي هذا الكتاب ليشرح أهمية التوثيق وتقديم الدلائل على ما فعله النظام السوري، والتأكيد على أن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.
كما تناول الباحث أبو هاشم التغييرات التي حدثت في سياق الصراع في سورية المتعلقة بوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين. واعتبر أن العلاقة التي حكمت بين الأونروا ومؤسسة اللاجئين الفلسطينيين، لم تخرج عن أدوات الضبط والسيطرة التي حددها النظام السوري، وبذلك لم تصل خدمات الأونروا إلى أعداد كبيرة من اللاجئين، سواء الفلسطينيين الذين حوصروا في المخيمات أو من نزحوا إلى المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام. واعتبرالكاتب أن الخطوة الأكثر خطورة تمثلت في محاولات إلغاء الصفة القانونية الدولية عن اللاجئين، وغياب نظام الحماية الدولية عنهم.
بالمقابل فإن دور منظمة التحرير باعتبارها مرجعية وطنية فلسطينية في زمن المحنة السورية، حكمها التوافق في العلاقة السياسية مع النظام السوري، على حساب حقوق اللاجئين وقضاياهم، فلم تكن ممثلة حقيقية لهم ولهمومهم وآلامهم، فكأن ما جرى لفلسطيني سورية مجرد أزمة عابرة، هذا عدا عن التقصير الكبير للمنظمة في تقديم الدعم الإنساني لهم.
في الواقع نحن أمام كتاب يجمع بين دفتيه بحث استقصائي مشغول بمنهجية علمية، وهو أيضا بحث سياسي لا يدعي الحياد في البحث، بل يحدد ويجدد موقفه من القضية، ويعلن صراحة أن الانحياز كان لصالح حرية الشعب السوري، وهو انحياز أغلبية فلسطيني سورية، انحياز لا مراء فيه ولا تذبذب، فمن كان مع فلسطين وحريتها فهو بلا شك مع حرية الشعب السوري في نيل حريته وكرامته، وهوية اللاجئين الفلسطينيين في سورية قد امتزجت بمفهوم السورنة وفلا انفصام ولا تعارض بين السورنة والفلسطنة، بل هي تكامل بين الجانبين، لأنه لا انفصال بين الحرية والتحرر.