التطبيع الديليفري: عبرة العرب من هزيمتهم*
هكذا هو العنوان المضلل للإعلانات العربية المتتالية لاتفاقات ” السلام” بين الأنظمة العربية ودولة المجتمع الاستعماري في فلسطين المحتلة، وهو في الحقيقة يقع في صميم العقيدة الصهيونية لتطبيع إسرائيل، أي جعلها “طبيعية” في نظر الآخر، لاسيما خصومها أو أعدائها، وتستهدف إسرائيل من التطبيع مع العرب:
-إعادة تشكيل العقل العربي “الرسمي والشعبي” بما يجعله مستعداً للاعتراف والقبول بإسرائيل دولة “يهودية” وفقاً للمقولات الصهيونية عن فلسطين كأرض ووطن قومي مدعوم بحق إلهي لليهود (على الأقل على الجزء الأكبر منها).
-تصفية المسألة الفلسطينية “جغرافياً و قومياً بشرياً” وتحويلها إلى مجرد مشكلة بين إسرائيل و”جيران” مزعجين (يمكن للإسرائيليين تقديم بعض التنازلات البراغماتية ” المؤلمة” بهذا الخصوص على حد قولهم, بتسمية الطرف الآخر كفلسطينيين). وقضايا وضع نهائي وهيك قصص
-تنصيب إسرائيل كدولة رائدة في المنطقة تكون هي الحكم والفيصل في أي نزاع قد ينشب مستقبلاً.
-فتح الأسواق العربية أمام إسرائيل, فالسلام المناسب والمرغوب إسرائيلياً هو السلام الاقتصادي (شمعون بيريز 2000).
علماً أن مصطلح “التطبيع” كمقولة سياسية ظهر أول مرة تقريبا بعد حرب 1967, وأول من استخدمه هو آبا إيبان (أحد قادة حزب العمل في إسرائيل آنذاك ووزير خارجيتها). وطالما الأمر كذلك فلاشك أنه لم يكن يعني سوى مقترح إسرائيلي لقطف ثمار النصر عبر إقامة علاقات “طبيعية” مع “الجيران” خارج أجواء الحرب وبتأثير منها (والتلويح بها كلما دعت الحاجة) لخلق فرص سلام وفقاً لوجهة النظر الصهيونية.
وآبا إيبان هذا هو نفسه الذي كتب سنة 1965 في مجلة “فورين بوليسي”: (ليس من السخف أن نتصور قادة العرب، وهم يطالبون مستقبلاً، بإلحاح، بالعودة إلى حدود العام 1966، أو إلى حدود العام 1967، تماماً مثلما يطالبون اليوم بالعودة إلى حدود العام 1947، التي رفضوها في الماضي”
وما انفكت إسرائيل منذ ذلك الحين “تطالب” العرب بتطبيع العلاقات معها كمسار حيوي وحتمي في معركتها الوجودية ضد الفلسطينيين، دون أن تكلف نفسها عناء استكشاف طرق مناسبة لتغيير سياساتها أو أهدافها أو مواقفها من فلسطين والفلسطينيين، بل تدحرجت سلّة مطالبها لتصل إلى اعتبار مفتاح السلام هو القبول بـ “يهوديتها” دون أي اعتبار لا للتاريخ ولا للجغرافيا ولا للبشر ولا للحجر, ولا لشي, وأن يتحول كورونا من وباء إلى بوابة سلام.
طيب؛ يجوز لنا (كي لا نغرق في مستنقع “منظومة التفاهة” Mediocratie على حد قول الفيلسوف الكندي ألان دونو)، أن نهمس في أذن النيوليبراليين بأنه ممكن لأحدنا أن يكون كتيييير كيوت وبنفس الوقت ضد التطبيع (بدناش نقول ضد إسرائيل مؤقتا لدواعي النقاش)، وهذا لا يدخل في باب “النرجسية ومتلازمة الضحية” كما يحلو لهم أو لبعضهم القول بأن الموقف ضد التطبيع هو محض هراء “ثقافوي” زائد عن حاجته. (على مبدأ إنه سعيد عقل شاعر عظيم بس من الناحية السياسية عنصري, وأن أمين معلوف حدا كتير محترم ومبدع وكويس ولقاءه مع محطة إسرائيلية لا يدخل في باب التطبيع لأن المحطة قال شو مقرها باللوكسمبورغ أو ناديا مراد مسكينة مش عارفة الله وين حطها، وغيرهم وغيرهم، إسه هدول اللي تذكرتهم)**
طيب مرة ثانية. يستطيع من هو مثلي تمييز ما يمكن أن يعنيه سلوك أولئك الأفراد ويعتبره يدخل في باب التطبيع دون مواربة, باعتبارهم جزء من المشكلة والحل, أي من أبناء هذه المنطقة بصرف النظر عن الانتماء المذهبي والإثني، وطبعاً واضح أنني لا أستطيع على صعيدي الشخصي مثلاً سحب هذا الموقف على جاري السويدي الذي علاقته مع إسرائيل من طبيعة مختلفة لا يكون مفهوم ومعنى التطبيع الذي نعرفه نحن أحد مخرجاتها و تعريفاتها. حتى حملات حركة المقاطعة BDS ليس هدفها الوقوف بوجه إسرائيل كدولة عضو في الأمم المتحدة و لا ضد أن تقوم دولة ما بإقامة علاقات دبلوماسية معها، فجميع الدول الأوروبية وغير الأوروبية التي تنشط فيها حملات المقاطعة لها علاقات “طبيعية” مع إسرائيل، ولا يوجد عندهم شيء غير طبيعي حتى يجعلوه طبيعي.
لكن الحكاية لا تتوقف هنا..
في الحقيقة, لا يملك أمهر سياسي غربي مهما بلغت براعته أن يقنعنا, نحن العرب أبناء الشرق الأوسط, بأن إسرائيل ليست وكيلاً للغرب وليست مقاولاً هاماً ضمن منظومة الناهب الدولي, ويستند هذا النمط من التفكير ” التآمري” المقولب إلى اعتقاد لاعقلاني يزعم أن حفنة من الناس قادرة أن تُحدث تغييراً جوهرياً في العالم أو تؤثر على مسار أحداث معينة في التاريخ بصرف النظر عن المكان والزمان. وميل بعضنا للإيمان ولو جزئيا بنظرية المؤامرة يعدّ سمة عامة من سمات وعينا, حين تنسلّ مقولات المؤامرة لتعبر عن ذاتها عندما تتعارض قناعاتهم الشخصية مع الرواية الرسمية.
كيف يعني؟
تقول الحكاية أنه في آذار \ مارس 1991 (قبل مؤتمر مدريد بقليل، وقبل نحو عامين من اتفاق أوسلو ) تناهى إلى مسامع الحسين بن طلال ملك الأردن عزم الولايات المتحدة طرح مبادرة سلام، ومن أجل قطع الشك باليقين طلب جلالته من عدنان أبو عودة وزير إعلامه ومستشاره للشؤون الفلسطينية الذهاب إلى أمريكا لمعرفة ما يخطط له الأمريكان, ولكي لا تلفت زيارته الأنظار اصطحب معه أحد أعضاء الديوان الملكي ليحضر اجتماعاً لمجلس العلاقات الخارجية في سان فرانسيسكو, ثم عاد إلى واشنطن, دون أن ينتبه له أحد, ليتوجه مباشرة إلى مكتب وزير الخارجية جيمس بيكر, ويقول أبو عودة أن ساعة الحائط في مكتب الوزير بيكر كانت مضبوطة مع ساعة موجودة في مكتب سكرتيره, وكانت ترن كل خمسة عشر دقيقة, كأنها إشارة للسكرتير كي يدخل و يصطحب الضيف إلى خارج المكتب.
المهم.. بدأ اجتماع الوزيرين كالعادة بالترحيب البروتوكولي ثم استهل الوزير بيكر كلامه بلطف شديد (كما يلاحظ الوزير أبو عودة) عن الاستعدادات الجارية للمؤتمر الدولي القادم [ يقصد مؤتمر مدريد]،ولم يكد ينهي كلامه حتى رنّت الساعة معلنة نهاية اللقاء، فقام بيكر لوداع أبو عودة وهو يقول ” هل كنتُ واضحاً معك؟” فأجابه أبو عوده: “لا.” فعاد بيكر إلى مكانه وتنهد وأومأ لسكرتيره بالمغادرة, وتابع حديثه مع الوزير أبو عودة حتى انقضت خمسة عشر دقيقة أخرى فظهر السكرتير من جديد, إلا أن أبو عودة أصرّ على عدم المغادرة وسأل الوزير بيكر “لماذا علينا أن نذهب إلى مثل هكذا مؤتمر؟ ومن أجل ماذا؟” فطلب بيكر من سكرتيره الخروج والتفت صوب الوزير الأردني قائلاً: “دعني- يا مستر عودة- بصفتي وزير خارجية الولايات المتحدة, أخبرك بما يلي: لن تكون ثمة دولة فلسطينية, سوف يكون هناك كيان.. كيان فقط, وهو أقل من دولة لكنه أكثر من حكم ذاتي, هل كلامي الآن بات مفهوماً؟ ولتعلم يا مستر عودة أن هذا أفضل ما استطعنا التوصل إليه مع الإسرائيليين”. وهكذا حصل أبو عودة على الجواب الذي أتى من أجله.
تتابع الحكاية القول أن ما يشبه هذا الكلام كان قد سمعه أبو عودة من السوفيات قبل كلام بيكر بعشر سنوات حين قال له الرفيق يفغيني بريماكوف سنة 1981 ” يا رفيق عدنان, إنسَ الموضوع, لن تكون هناك دولة فلسطينية”
….
*”عبرة العرب من هزيمتهم” عنوان دراسة بالعبرية أعدها الجنرال يهوشافاط هركابي أحد الآباء الروحيين لحزب العمل والذي عمل رئيساً لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية ” أمان” ما بين 1955-1959 إلى جانب عمله كأستاذ في الجامعة العبرية
**على فكرة موقف سعيد عقل من الفلسطيني لم يكن سببه الزهايمر أو هذيان، بل عن سابق إصرار وترصد ومن باب التعصب العنصري ضيق الأفق، وعلى فكرة أيضاً اللي برجع لكلمة ناديا مراد بالكنيست يدرك أنها تعي تماماً ما تقول وعارفة وين الله حطها وشو بدها. وكمان على فكرة، أمين معلوف كان ضمن وفد أمين الجميّل للتفاوض مع إسرائيل عندما كان مجرد الاتصال مع الإسرائيلي جريمة, أما الآن فهو كاتب مرموق لا يحتاج لأن يطلّ على العالم من النافذة الإسرائيلية، إلا اذا كانت عينه على أهداف أخرى.