التشجير والتهجير في النقب-بئر السبع
“جعل الصحراء مزهرة”، “جعل فلسطين مزهرة”، “تطوير النقب”، أو “سلطة القانون” – كلها ذرائع تاريخية وحاضرة مستمرة لشرعنة المجهود الصهيوني في استعمار فلسطين. وكما جرى في مناطق فلسطينية أخرى، يجري هذا المجهود في السنوات الأخيرة وبوتيرة عالية نسبياً في جنوب فلسطين –بئر السبع، وهي المنطقة التي غدت تُعرف بالنقب. يقود ذلك المجهود الحكومة الإسرائيلية ومعها الصندوق القومي اليهودي، حيث يقومون بتحريش الاراضي ليفتخروا بخُضرة أرض إسرائيل وبجعل “صحراء النقب مزهرة”. كيف؟ يقومون بزرع الشجر مكان البشر، يقومون باقتلاع أشجار وعروق الزيتون، يقومون بمصادرة الأراضي ومحاولة محو تاريخها، يقومون بتهجير أناسها، يستمرون في تجريف مساحات شاسعة من المزروعات والحقول الخضراء التي يرعاها أهل بئر السبع الفلسطينيون، وفوق كل ذلك ينكرون المصادرة ويجادلون بقانونية أعمالهم، وبعضهم يستكفي بوعد الله لهم في أرض الميعاد.
لشرعنة نشاطها ووجودها، تُنكر اسرائيل فعل المصادرة. فمن منظورها هي لا تقوم بأي مصادرة للأرض، لأن الأراضي هي “أراضي دولة”، وترتكز بذلك على القانون، وبالأساس القانون العثماني لتجادل بأن الأرض في مناطق بئر السبع أو النقب هي “أرض موات” بحسب القانون العثماني: وهي أرض ميتة خالية ليست بحوزة أحد ولا يزرعها أي شخص ولا حق لأحد عليها غير الدولة. وترى فيمن سكنها مئات السنين عابر سبيل، رُحّلٌ مروا من هناك، أو ربما زرعوها لكنهم كانوا مخالفون للقانون مُعتدين على تلك الاراضي حتى ولو سبق ذلك كله تأسيس الصندوق القومي اليهودي وسبق الصهيونية بمئات السنين، وأن عمر من فلح تلك الأرض ورعاها أطول من عمر إسرائيل بقرون.
أراضٍ خالية؟
سكنت العشائر البدوية ديرة بئر السبع وبلاد غز لمئات السنين وبلغ عدد أفرادها عشرات الآلاف. كانت تفلح وتزرع وترعى الغنم وتتاجر وتتجول وتؤسس علاقات اجتماعية وتجارية مع غزة والخليل وحُج والعريش والعقبة وسيناء ومدن وقرى وعشائر مختلفة. سكنت في عشرات القرى والمضارب والاحياء في غزة وبئر السبع.
أراض موات وصحراء قاحلة؟
في أقل تقدير وحتى بحسب التقارير السرّية للجمعيات الصهيونية، فقد فلحت العشائر البدوية العربية في بئر السبع بين 2.5 و3.5 مليون دونم. غالبيتها من الشعير وغيرها من القمح والبطيخ والذُرة والأشجار. اشتهر شعير جنوب فلسطين بجودته وكان يتم تصدير اغلبه لأوروبا. كان يصل عدد السفن التي تصل إلى غزة لنقل الشعير الفلسطيني من بئر السبع وتصديره بالأساس لبريطانيا نحو 40 سفينة يوميًا منذ نهاية القرن التاسع عشر. حيث كانت ديرة بئر السبع وكانت غزة البوابة الجنوبية لفلسطين، تنسج علاقات في العمق الفلسطيني وفي الحلقات الاقتصادية التجارية العالمية. وصلت تقديرات صادرات الشعير مثلًا حتى الحرب العالمية الأولى إلى 60 ألف طن. مساحات خضراء وكميات من الحبوب والشعير لم تضاهيها الكيبوتسات والمشاريع الزراعية الإسرائيلية حتى اليوم.
هي أراض سكنتها العائلات، عرفت حدودها، باعتها واشترتها، وورِثتها وورّثتها لمن بعدها، أرهنتها، دفعت ضرائبها أو لم تدفعها.، وكلها لها أسماء وتاريخ وتضاريس. هي أراضي العشائر والعائلات بالفطرة وبالحق وبالقانون أيضا: حيث ينص قانون الأراضي العثماني على أن من يفلح الأرض عشر سنوات له الحق عليها، ومن يُحيي أرض الموات – أي يزرعها – له الحق بها أيضاً. حاول العثمانيون، على الأقل منذ سنة 1891 وبحسب قرار مجلس الشورى العثماني، تسجيل ما قدروه بخمس مليون دونم عثماني للعشائر البدوية. وقدّر البريطانيون في آخر تقرير رسمي لهم قبل مغادرة فلسطين بأنه إذا ما وصلت عملية تسوية الاراضي قضاء بئر السبع فأنه سيتم تسجيل 2 مليون دونم على الأقل بإسم اصحابها عرب بئر السبع.
نشر تقرير سري لهخشرات هييشوف سنة 1919 المساحات والاراضي التابعة لكل عشيرة، المساحات المزروعة ومساحات الرعي، عدد رؤوس الغنم ونوع الزراعة، العائلات ومشايخها. يعرفون أكثر من الكل خضرة وجودة الأراضي وأصحابها. وفي سنوات الثلاثينات، عندما بدأت الصهيونية والصندوق القومي اليهودي الاهتمام أكثر بالاستيطان في قضاء بئر السبع، بدأوا بالاهتمام أكثر في شراء الاراضي هناك من اصحابها. في الثلاثينات، اشترى الصندوق القومي اليهودي قطع أرض من أصحابها العرب، إما عرب بئر السبع أو عرب غزة أو الخليل أو غيرهم، إذ كان أصحاب الاراضي يحملون السندات القانونية. وفي حال لم يكن في يدهم تلك السندات كانوا يتوجهون لمكتب تسجيل الطابو في غزة وبئر السبع لتسجيلها ومن ثم بيعها إذا ما رغبوا في ذلك.
وصلت المساحات التي اشتراها الصندوق القومي اليهودي وغيره من الأفراد والمؤسسات اليهودية والصهيونية إلى نحو 100 ألف دونم. كان هذا الشراء قبل 1948، وهو ما أحرج لجنة خاصة أسسها وزير القضاء الاسرائيلي سنة 1952 للنظر في مسألة ملكية الاراضي لبدو النقب. كان من بين أعضاءها الثلاثة “يوسف فايتس” – في حينه مدير قسم الاراضي والتحريش في الصندوق القومي اليهودي والمشهور بدوره في سياسة هدم القرى الفلسطينية والترانسفير. خلُصت اللجنة في تقريرها المختصر السري في 20 أكتوبر 1952 بشأن الاراضي المفلوحة والمزروعة لبدو النقب الذين بقوا داخل اسرائيل بأن:
” فالحقيقة المعروفة أنه خلال حقبة الانتداب، سُجلت مساحات شاسعة من الأراضي باسم البدو، على أساس الدليل القائل إنهم كانوا يزرعون تلك الأراضي طيلة فترة التقادم، ونُقلت ملكية مساحة معتبرة من هذه الأراضي، بعد تسجيلها، إلى الصندوق القومي [اليهودي]، وإلى شركات يهودية أخرى وإلى أفراد يهود. ولذلك، تنطوي هذه المسألة على المئات من السوابق، ونحن نرى أن حكومة إسرائيل لا تستطيع أن تتجاهلها، وينبغي لها ألا تتجاهلها… فمن الممكن تمامًا أن البدو يملكون الدليل الذي يثبت حيازتهم لمساحات كبيرة أخرى…
وفي نتيجة نقاشنا، توصلنا إلى النتيجة التالية:
*نرى أن ينبغي للمرء ألا يتحاشى الاعتراف بحقوق البدو في ملكية تلك الأراضي التي يستطعون أن يقيموا الدليل على أنهم كانوا يتعهدونها بالزراعة على مدى فترة طويلة (فترة التقادم).”
أجّلت اسرائيل وراوغت في مسألة الاعتراف بملكية اراضي أهل بئر السبع أو تسجيلها، ونقلت وطردت الأهالي من منطقة لأخرى، واعترفت وحاولت تعويض البعض، وعبرت عن استعدادها في التطوير أو التطهير، ولعبت سياسة “فرّف تسُد” وتلاعب بتعيين المشايخ وعزل البعض وضرب العشائر وتقسيمها. وأعلنت في السبعينيات بداية تسوية الاراضي وتسجيلها، لكنها رفضت القرار في ال 3220 دعوى ملكية قدّمها أهل النقب بين 1970-1979 على مليون دونم زراعي ونصف مليون دونم مراعي، عدا عمّا صادرته اسرائيل “كأملاك متروكة” للاجئين السبعاويين. بدل الاعتراف جمّدت اسرائيل الفحص وحاولت الضغط والترهيب والترغيب تجاه المدّعين من أجل قبول تعويض بسيط والتنازل عن الدعوى لكنها فشلت وحلّت اقل من 20% من الدعاوى على مدى عشرات السنين وتحت تهديد الطرد والهدم. ومن ثم بدأت بدعاوى مضادة ضد السكان في المحاكم مدّعية أن الأرض هي أرض موات وأن زارعي الأ{ض وأهل ألسبع ما هم سوى “معتدون على أراضي الدولة.”
في ظل كل ذلك، وصلت الحكومة الإسرائيلية اليوم إلى مرحلة لا تريد المراوغة أكثر بل تلعب اللعبة بوضوح أكثر، معتبرة أن لها كل القوة والغطرسة، وليست بحاجة إلى مفاوضات أو إرضاء بعض المشايخ. ونتانياهو “أبو يائير” يغيّر موقفه بحسب الأهداف السياسية. ذهب السياسيون الاسرائيليون ليزرعوا شتلات الشجر في أرض اسرائيل تحت حراسة مئات عناصر الشرطة والسلاح والآليات العسكرية والآليات الثقيلة، بعد أن ضربوا واعتقلوا الأطفال الفلسطينيين الذين يعرفون تراب ورائحة أرض سعوة وخشم زّنة والعراقيب ووادي النعم وكل ديرة بئر السبع أكثر مما يطرحه ويشرحه القانون الاسرائيلي وخرائط ألصندوق القومي اليهودي.
للمزيد: أحمد أمارة، قراءة في الموجة الثانية من “الخلاص/ التخليص” الصهيوني للأرض الاستيلاء على الأراضي في قضاء بئر السبع، مجلة استشراف، العدد 4، 2020، https://istishraf.dohainstitute.org/ar/issue004/Pages/Art007.aspx
أحمد أمارة، الكساندر كيدار وأورن يفتحئيل، “الأراضي المفرغة: جغرافيا قانونية لحقوق البدو في النقب”، مركز مدار للدراسات الاسرائيلية،2020ـ
عن موطني 48