التحوّل في شعر محمود درويش.. الصوت الخفيض والبُعْد الإنساني
شهدت تجربة درويش الشعرية تحوّلاتٍ في الرؤية واللغة، ارتبطت، ظاهرياً، بالمنعطفات السياسية التي مرت بها القضية الفلسطينية، لكن في جوهرها، كانت ترجمةً إبداعيةً لوعي درويش النقدي حول ماهية الشعر وحيوية القصيدة، إذ إن الشعر، ومن خلال تتبُّع حركته، ينتصر للتحول مقابل الثبات، وللتعددية مقابل الأحادية، والتجديد ثمرة مرغوبة لدى المبدعين لبرهنة قدرتهم على اجتراح المختلف، وإن بدا مرتبكَ البدايات، غامض النهايات.
امتاز درويش (1942 ـــ 2008) بقدرته الدائمة على الظفر بذهول القارئ ودهشته مع كل إصدار جديد، ولكل مرحلةٍ صوتُها الخاص وشروطها الإبداعية التي تتوافق مع المزاج العام، وظروفها الواقعية، مرهفة السّمع لهواجس الذات وأسئلتها.
وعليه، هل بوسعنا أن نفرز مرحلتين عريضتين زمنياً وإبداعياً من حياة درويش بناءً على صوته الشعري، كما يفرز اللغويون الأصوات في العربية إلى أصوات اللين (الصوائت)، والأصوات الساكنة (الصوامت)؟! هل امتازت المرحلة الأولى من تجربة درويش الشعرية بما تمتاز به الصوائت من خاصيَّتَيْ الوضوح والجهر، الأمر الذي أدّى إلى شيوعها في كثير من الكلمات العربية، وعليه أيضاً يمكن القول إن انتشار درويش، في هذه المرحلة الأولى، كان بسبب وضوح صوته الشعري الأحادي في القصيدة؟ ثم أخذ صوته الشعري، كالأصوات الساكنة (الصوامت)، في المرحلة الأخيرة، يجنح نحو الهمس والترقيق، مطلقاً لغةً شعريةً جديدةً؟!
للصوت اللغوي، في القصيدة، وظيفة دلالية، إذ إنه يختلف باختلاف تجربة الشاعر، فشِعْر “القضية الفلسطينية” بمعناها السياسي العام والمشترك استلزم صوتاً شعرياً منبريّاً، غير الصوت الخفيض الذي عبَّرَ من خلاله الشاعر عن رؤيته للحب والمرأة وأسئلة الوجود وانشغالات الذات. هذا المقال المتواضع ليس دراسةً لغويةً في علم الأصوات، أو مقاربةً لدلالاتها المتواشجة مع توجُّهات الشاعر، إنما محاولة للإشارة إلى تحوّل كبير حدث في شعر درويش، بعد انتهاء مرحلة امتدَّتْ بين عامَيْ (1964 و1983) مع “مديح الظل العالي” (1983) وخروج المنظمة من بيروت، هذه القصيدة التسجيلية، كانت بمثابة تلويحة وداعٍ لمرحلة شعرية اتَّسَمَتْ بالإنشاد القائم على الغنائية المفرطة في صوتها المرتفع، وفاصلة بين مرحلتين عريضتين في مسيرة درويش الشعرية، ليترجَّلَ “شاعر القضية الفلسطينية/البطل الطروادي” من على صهوة جواد البلاغة والخطابة، نحو أرض قصيدته القلقة، المتغيّرة، الضبابيّة.
بذلك، شكَّلَتْ “مديح الظل العالي” نقطة تحول في رحلته الشعرية، ليشرع “صاحب الصوت الخفيض” في بداية حقيقية مع “لماذا تركت الحصان وحيداً؟” (1995)، مشتغلاً على لغة ورؤية مختلفتين، برزت في الحقبة الأخيرة من حياته الشعرية، تمثَّلَتْ بالتخفف من الحمولة الأيديولوجية التي تثقل القصيدة، عادةً، باليقين، والضجيج اللغوي، والألفاظ الحماسيّة، والمواقف الحادّة، والانفعال في ذروة الصراع، ليخلّق قصائد جديدة تسللت إليها روح النثر ورهافة الشاعر في التقاط تفاصيل الحياة اليومية/العادية/الهامشية، والاتّكاء على سياقٍ قصصيٍّ، ما استولَدَ أيضاً، بُنَى إيقاعية جديدة، متخففة من الرصانة العروضية التقليدية، فيرد حوارٌ بسيطٌ بين أبٍ وابنه حول تفصيلة البيت: “لماذا تركتَ الحصان وحيداً/ لكي يؤنس البيت، يا ولدي/ فالبيوت تموت إذا غاب سكّانها”.
هكذا، تحوّل صاحب “سجِّل أنا عربي” من الصوت العالي والخطابي والمباشر، في قصيدة أشبَه ما تكون بوثيقة سياسية، متورطاً في المسألة الفلسطينية من بابها السياسي المحض، على حساب الشعر، مدفوعاً بثقل الالتزام الوطني بتعريفه الضيق والملتصق بالأيديولوجيا أحادية النظرة، والالتزام البديهي للإنسان بوطنه، ببُعْدِها التربوي، وما يتبع ذلك من عبارات شعرية رنانة، والاحتفاء الحماسي بـ”البطولة” كجوهر بدلاً من الانشغال بروح القضايا في محاولة لفهمِها ومساءلتها، إلى صاحب “لا تعتذر عمّا فَعَلْت”، و”أثر الفراشة”، و”لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي”، إذ فتح الشاعر نافذةً على الطاقات الهائلة الكامنة في النثر، واستثمر في بُناه وإيقاعاته الداخلية، لتشييد قصيدةٍ عربيةٍ أكثر حيوية وانسيابية، من تلك المحاصرة بالبِنْيَة العروضية التقليدية، والتشكيل الهندسي شديد الرصانة.
في ديوانه “كزهر اللوز أو أبعد” (2005)، ينشغل درويش بأسئلة الذات المتشظّية، فينكفئ نحو الداخل حافراً طبقاته، إذ ينصهر العام بالخاص، والكوني بالذاتي، “هل كان ذاك الذي كُنْتُهُ – هو؟/ أم كان ذاك الذي لم أكُنْهُ – أنا؟”. لتأتي الإجابة: “أنا اثنان في واحدٍ/ أو واحدٌ يتشظّى إلى اثنين”. تتجلّى في عباراته الشعرية النبرة الهادئة المتأملة، التي تختلف تماماً عن نبرة دواوين المرحلة الأولى، كما تتأرجَح اللغة في أرض حائرة قلقة، لا إجابات حاسمة فيها، تطغى عليها الذاتية والحدس.
هذا التحوّل من الصوت العالي إلى الخفيض، ومن العام/ الجماعي إلى الخاص/ الفردي، ومن الإنشاد الخطابي المشبع بالأيديولوجيا إلى غنائية مفرطة في ذاتيتها، واستغراقاً في الهاجس الجمالي وانشغالات الذات، ما دفع بهذه الذات، على نحوٍ عفويٍّ، إلى الإشعاع والانفتاح على الإنساني والكوني. من هنا، نلاحظ اهتمام الشاعر بالأسئلة الوجودية الكبرى المنبثقة من قلق الذات الهشّة وتشظياتها، في عبارات شعرية متحررة من البلاغة، ذلك ما يبرُزُ بشكلٍ جليٍّ في دواوينه الأخيرة، ثم التحوّل من اليقين والوضوح إلى الشك والغموض، التحول من التغني بقدسية الثورة وسطوع المعنى إلى جرأة المقاربة الشعرية لمفاهيم فلسفية شائكة وغامضة كالعدمية والعبثية والوجودية، ووعيٍ حادٍّ بأطروحة موت السرديات الكبرى، الذي عبَّرَ عنه في قصائده الأخيرة مثل لاعب النارد والجدارية، بصوت إنساني حائر ومكلوم، أكثر صدقاً، حيث التشظّي سِمَةُ العصر، والمأساة فردية قبل كونها جماعية، مسدلاً الستار على البطولة الفردية، في عالمٍ أضاعَ البوصلة والهدف، وانهارت فيه اليوتوبيات الثورية، وتبدَّدَ الحلم بعالم أكثر عدالة.
لقد رافقَ هذا التحرُّر من إكراهات الشعر التعبوي والمعطى السياسي الجاهز، انفتاحاً على البُعْد الإنساني والهموم الوجودية، بعد تجاوز المرحلة الشعرية الأولى، مبتعداً عن الصوت الثوري في قصيدته، ثم مواصلة التجديد عبر التثوير في اللغة، والمساءلات النقدية للحالة الفلسطينية سياسيّاً وثقافيّاً، وخلَقَ التواشج الإبداعي ما بين همِّهِ الفلسطيني والهَمّ الإنساني والكوني، والتحرر من صورة الفلسطيني الثائر/البطل إلى صورة الفلسطيني الإنسان/الهشّ، فلم يَعُدْ الوطن يقتصر على كونه حيزاً جغرافياً، سياسياً، اجتماعياً، وإنما الأشياء الحميمة التي تطل على البعد الإنساني المرتبك في الشاعر، “لا تقولي أنا غيمةٌ في المطار/ فأنا لا أريد/ من بلادي التي سقطت من زجاج القطار/ غير منديل أمي/ وأسباب موتٍ جديد”.
عن منصة الاستقلال الثقافية
مقالة جد رائعة شكرا للقائمين على الموقع