التحديات التي تواجه منظمات العمل الأهلي في غزة بسبب العدوان
نشأت بداية العمل الأهلي من فكرة ومبادرات العمل التطوعي والاجتماعي، وذلك في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وقد بدأت تأخذ الطابع الممأسس والمهني في إبان الانتفاضة الشعبية الكبرى وبعدها، وفي إثر تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية.
تعزَّز الطابع المهني للعمل الأهلي بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994،[1] إذ دمجت منظمات العمل الأهلي أعمالها بين توفير الخدمات وتعزيز مقومات الصمود، وبين برامج الحكم الرشيد والشفافية ومحاربة الفساد، ومراقبة عمل السلطة التنفيذية، وتعزيز مكانة المرأة والشباب، واحترام الحريات العامة، وتحقيق مبدأ استقلال القضاء.[2]
وقد حافظت المنظمات الأهلية على مبدأ استقلاليتها لتعزيز دورها الرقابي، وشكلت بعض الائتلافات والشبكات للغرض ذاته، وأبرزها شبكة المنظمات الأهلية عام 1994، والتي هدفت إلى العمل على منع الاستحواذ والسيطرة عليها من قبل السلطة التنفيذية، كما ناهضت التمويل السياسي المشروط، وخصوصاً شروط التمويل التي حاولت فرضها وكالة التنمية الأميركية USAID، وعملت على اعتماد ذلك بقانون الجمعيات الأهلية رقم 1/2000 في المجلس التشريعي.[3] وحافظت المنظمات الأهلية على دورها الوطني، وساهمت في نقل الرواية الوطنية الفلسطينية إلى منظمات التضامن الشعبي الدولي، وإلى المنابر والمحافل الدولية، ما انعكس إيجاباً في تقارير أكبر منظمات حقوق الإنسان، مثل أمنستي Amnesty وهيومان رايتس ووتشHuman Rights Watch ، التي وصفت نظام الاحتلال بنظام الأبارتهايد العنصري.[4]
وكان لمنظمات العمل الأهلي دور في توعية الرأي العام بأهمية وأولوية إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، فنظّمت العديد من اللقاءات وورش العمل والحملات لهذا الغرض إلى جانب عملها المهني المتخصص، بالإضافة إلى الترويج لثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية والدعوة إلى الانتخابات في إطار المؤسسات التمثيلية الفلسطينية.[5]
المنظمات الأهلية وعدوان الاحتلال بعد السابع من أكتوبر
كانت شدة العدوان صادمة لكل مكونات المجتمع، بما في ذلك منظمات العمل الأهلي، فقد جرى مسح مربعات سكنية كاملة، وشطب عائلات بأكملها من السجل المدني، وضرب البنية التحتية والمستشفيات والمدارس والجامعات ودور العبادة ومحطات معالجة المياه والطرقات.
وترافقت هذه الصدمة مع استجابة كل من الأونروا والصليب الأحمر لأوامر الاحتلال الذي طلب من المواطنين الانتقال إلى جنوب وادي غزة، إذ قامت المنظمتان الكبيرتان (الأونروا والصليب الأحمر) بنقل مقراتهما إلى رفح. وما عمّق من الصدمة والاضطراب والإرباك قيام الاحتلال بضرب مدارس الإيواء التابعة للأونروا ومخيمات النزوح في مواصي خان يونس ورفح، والتي كان يدعي أنها مناطق “إنسانية آمنة”.[6]
تفاعلت منظمات العمل الأهلي بديناميكية شديدة مع حالة العدوان الوحشي، إذ انبرت العديد من هذه المنظمات إلى تقديم المساعدات الغذائية والصحية للموجودين في مدارس الإيواء ومخيمات النزوح، وذلك عبر موظفيها ولجانها الطوعية، وعبر المنظمات القاعدية ذات العلاقة معها. وأبرز المنظمات التي عملت في الجانب الإغاثي هي: لجان الإغاثة الزراعية والطبية، واتحاد لجان العمل الزراعي، ومستشفى العودة، ومركز معاً التنموي، ومركز شؤون المرأة، ومؤسسة عائشة، وبرنامج غزة للصحة النفسية، ومؤسسة أجيال، ومؤسسة إبداع المعلم. وأبرز المنظمات الدولية كانت: الأونروا، وبرنامج الغذاء العالمي، ومؤسسة إنقاذ الطفل، وأنيره، والإغاثة الكاثوليكية.
وأسست عدة منظمات مقرات (موقتة) لها في المنطقة الوسطى والجنوبية، أي في دير البلح وخان يونس ورفح، أبرزها شبكة المنظمات الأهلية، ومركز شؤون المرأة، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، ومؤسسة عائشة، ومركز العمل التنموي. وقامت بتوزيع أدوات العمل على موظفيها، مثل أجهزة الكمبيوتر المحمول، ووفرت لهم الكهرباء والإنترنت، كما استضافت بعض المنظمات للعمل في مقراتها.[7] ولم يقتصر عمل المنظمات الأهلية على تقديم الخدمات الغذائية والصحية، بل تعداه ليشمل برامج التدخل النفسي والاجتماعي والتعليم ونشاطات ترفيه الأطفال، إلى جانب برامج التوعية والتدريب للتعامل وقت الأزمات وإدارتها بصورة فعالة، والعمل تحت الضغط، بالإضافة إلى البرامج المستمرة التي تُعنى بتمكين المرأة والشباب وصيانة السلم الأهلي. وأصدرت هذه المنظمات الأهلية العديد من المواقف والبيانات التي تندد بالعدوان وتأثيراته الكارثية في مرافق الحياة كافة، سواء من خلال تدمير القطاع الصحي أو النظام التعليمي، وناشدت المنظمات الدولية بالتدخل الفوري لوقف العدوان والسماح بإدخال المساعدات، وذلك رداً على سياسة التجويع المفروضة من قبل الاحتلال.[8]
كذلك انتبهت المنظمات الأهلية إلى حالة النسيج الاجتماعي الداخلي، فكان لها مواقف تجاه تجار الحرب والاستغلال وارتفاع الأسعار وعصابات السرقة، فدعت إلى الوحدة والابتعاد عن الاحتقان والصراعات، وإلى تحقيق التلاحم في بنية المجتمع. واستعادت هذه المنظمات مكانتها أمام منظومة العمل الدولي التي تعمل في قطاع غزة في إطار مكتب تنسيق المساعدات الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا)، ودفعت في اتجاه تعزيز مكانة وتمثيل المنظمات المحلية، واتباع الأجندة المحلية في إطار التجمعات العنقودية (clusters). كذلك أصدرت مواقف مشتركة مع تجمع المؤسسات الدولية غير الحكومية (AIDA)،[9] وخصوصاً في المجال الإنساني والإغاثي، وبشأن أهمية إزالة القيود التي يفرضها الاحتلال على القطاع في إطار حرب التجويع والتعطيش والصحة، كجزء من حرب الإبادة الجماعية.
وتواجه المنظمات الأهلية العديد من التحديات، أبرزها استمرار العدوان البربري بما يترتب عليه من شهداء وجرحى ومعوقين، وحالة من الخوف والقلق والإرباك، بالإضافة إلى النزوح الكبير إلى جنوب الوادي، وتدمير المستشفيات والبنية التحتية والمنازل، واستمرار سياسة العقاب الجماعي عبر الحصار المشدد المفروض، والذي اشتد بعد احتلال معبر رفح ومحور فيلاديلفي -صلاح الدين.[10]
وتعاني المنظمات الأهلية من وجود عشرات المنظمات الدولية التي تعمل في الكوارث، والتي لا تنسق بالضرورة مع أجندة العمل الأهلي المحلي، الأمر الذي يؤثر سلباً في عمل المنظمات المحلية، وخصوصاً في سياق استقطاب الكفاءات من المنظمات الأهلية. كما تواجه تحديات ذات طبيعة مجتمعية من خلال تجار الحروب، وغلاء الأسعار، وعصابات السرقة، وبروز شريحة مستفيدة من حالة الإرباك والاضطراب الداخلي الناجم عن العدوان المستمر لأكثر من عام.
منظمات حقوق الإنسان وحرب الإبادة
أدت منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية دوراً مهماً في تسليط الضوء، منذ بداية العدوان، على حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال على شعبنا في القطاع، وعلى أجزاء من الضفة الغربية، وخصوصاً في شمالها. وقد أصدرت سلسلة من البيانات وأوراق الموقف والسياسات، إلى جانب عمليات التوثيق المهنية من خلال الباحثين الميدانيين، بخصوص جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، عن طريق المقابلات والرصد والشهادات.
وتناولت بيانات المنظمات الحقوقية تشخيص وإدانة ممارسات الاحتلال التي انتهكت مبادئ حقوق الإنسان ووثيقة جنيف الرابعة،[11] من خلال إزاحة مربعات سكنية كاملة، وقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، وشطب عائلات بأكملها من السجل المدني، وتدمير المستشفيات وتحويلها إلى مقابر جماعية، إلى جانب قصف المنازل والجامعات والمدارس ودور العبادة والأماكن الأثرية ومحطات المياه وفرق الإسعاف والدفاع المدني والشرطة المدنية وفرق الإغاثة والمتطوعين. كما دانت عمليات النزوح القسري، وزج الناس بقوة النار في مخيمات النزوح تحت ادعاء كاذب أنها أماكن إنسانية آمنة، إذ جرى استهدافها عدة مرات، بالإضافة إلى حرب التجويع، وحرب التعليم، والصحة، والتعطيش، والعقاب الجماعي، والاعتقالات، وتقسيم وتجزئة القطاع، واستمرار عمليات التطهير العرقي، وخصوصاً في شمال القطاع، والتي عُرفت بخطة الجنرالات، والتي ترمي إلى تفريغ المنطقة من السكان وبسط السيطرة العسكرية والسياسية عليها وإعادة الاستيطان فيها، وأعمال التوغل داخل قرى ومخيمات شمال الضفة الغربية، واستمرار العدوان على المسجد الأقصى ومدينة القدس.
وهدفت البيانات والمواقف والأوراق أيضاً إلى تبديد الرواية الصهيونية الكاذبة، وتفكيك مفاهيم معاداة السامية والضحية، وحق الدفاع عن النفس، كمرادفات تهدف إلى تعزيز الدعاية الصهيونية لحكومة الاحتلال وإضفاء الشرعية على عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني. وكان لمنظمات حقوق الإنسان دور مهم في الضغط وممارسة النفوذ من خلال التشبيك والشراكة مع العديد من منظمات حقوق الإنسان والتضامن في دول مختلفة في جميع أنحاء العالم،[12] وأيضاً في حركة دولة جنوب أفريقيا، وعبر تقديم قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية. وكان بعض نشطاء حقوق الإنسان الفلسطينيين جزءاً من الوفد القانوني لدولة جنوب أفريقيا، وقدموا مساهمات قيّمة في تطوير الاستراتيجيات المدعومة بالأدلة والقرائن وروايات شهود العيان من أقارب الضحايا وموظفي المؤسسات العامة. وكان لمنظمات حقوق الإنسان تأثير كبير في مسار محكمة العدل الدولية بإصرارها على أن إسرائيل، كقوة احتلال، ارتكبت أعمال إبادة جماعية، وتأكيدها ضرورة اتخاذ إجراءات لمدة شهر لوضع حد لها والسماح بإدخال المواد الغذائية والإنسانية إلى القطاع، وذلك إلى جانب قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الذي وجه قضاة المحكمة إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق وزير الدفاع آنذاك، يوآف غالانت، ورئيس وزراء حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، على الرغم من أن دولة الاحتلال لم تبدِ أي اهتمام بهذا الأمر، بل أكثر من ذلك، اتهمت المحكمة ورئيسها بمعاداة السامية.
ودار جدل بين أوساط الشعب الفلسطيني، بما في ذلك بين النخب والمثقفين، في شأن جدوى التمسك بمبادئ حقوق الإنسان في ظل شلل المنظومة الدولية وعدم استطاعتها وقف المجزرة المستمرة بحق الشعب الفلسطيني، على الرغم من القرارات الصادرة عن محكمتي الجنايات والعدل الدولية، ومنها القرار الاستشاري القاضي بعدم شرعية الاحتلال وممارساته منذ حزيران/ يونيو 1967، بما في ذلك الاستيطان، وفرض الوقائع على الأرض، وتهويد القدس، وبناء جدار الفصل العنصري، وتدشين نظام من المعازل والبانتوستانات بحق الشعب الفلسطيني. ويشار إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرت عدة قرارات لصالح حقوق الشعب الفلسطيني، ومنها إمهال الاحتلال مدة عام لتنفيذ انسحابه من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967،[13] الأمر الذي تم بفضل عدة جهود، أبرزها الجهد الحقوقي والمهني لمنظمات حقوق الإنسان الفلسطينية.
وفي الوقت الذي أثبتت عملية الإبادة الجماعية ضعف المنظومة الدولية التي تستند إلى موازين القوى العسكرية، وإلى استمرارية الهيمنة الأميركية الداعمة بلا حدود لدولة الاحتلال، أفشلت الإدارة الأميركية العديد من قرارات مجلس الأمن الرامية إلى وقف إطلاق النار من خلال استخدام حق النقض (الفيتو)، ولم تسع في اتجاه تنفيذ القرار 2735،[14] التي هي صاحبته، في تواطؤ سياسي ودبلوماسي وقانوني واضح مع دولة الاحتلال، مؤكدة شراكتها لها في أعمال الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، في إطار استمرار الدعم السخي، مالياً وعسكرياً واستخباراتياً ولوجستياً، من جانب الإدارة الأميركية لدولة الاحتلال.
وقد دفع تسييس القانون الدولي، واعتماد سياسة المعايير المزدوجة من خلال المقارنة بين أوكرانيا وفلسطين، وشلل المنظومة الدولية، قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني إلى عدم الإيمان والاقتناع بالقانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، والتي لا يستخدمها النظام الغربي الاستعماري إلاّ لمصالحه، في حين يهملها ولا يكترث بها إذا كانت الانتهاكات لا تتعارض مع مصالحه الخاصة، في ظل الترابط العضوي بين إسرائيل والصهيونية والقوى الاستعمارية العالمية.
إن التشخيص السياسي المبني على لغة المصالح، وما يترتب عليه من تواطؤ وازدواجية معايير، يجب ألاّ يدفع الشعب الفلسطيني بكل مكوناته إلى إهمال مبادئ حقوق الإنسان، وإنما يجب الاستمرار في التمسك بها بوصفها أحد إنجازات البشرية، وخصوصاً الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أُعلن في كانون الأول/ديسمبر 1948 كنتاج للحرب العالمية الثانية، وكحجر أساس لتأسيس هيئة الأمم المتحدة، وكذلك بوصفها أحد الأسلحة القانونية المهمة بيد الشعب الفلسطيني في إطار الكفاح القانوني الذي يساهم في تفكيك الرواية الاستعمارية الاحتلالية، وتعزيز الرواية الوطنية الفلسطينية. فقد شكل إخفاق المجتمع الدولي في وقف حرب الإبادة الجماعية أحد التحديات الرئيسية التي واجهت، وما زالت، منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية.
المنظمات الأهلية وتحدي التمويل
كانت المنظمات الأهلية المحلية تعاني من نقص في التمويل، وكذلك من شروط التمويل المسيس الذي بدأته وكالة التنمية الأميركية،[15] إذ يوجد في قطاع غزة عشرات المنظمات الدولية غير الحكومية التي تنافس المنظمات الأهلية المحلية على مصادر التمويل، وهناك آلية تحكّم في عملية التمويل من خلال القطاعات العنقودية التابعة للأمم المتحدة (الأوتشا)، والتي تهيمن عليها، غالباً، المنظمات التابعة للأمم المتحدة أو المنظمات الدولية غير الحكومية.
لقد حاولت المنظمات الأهلية اعتماد قيادة مشتركة في بعض القطاعات العنقودية تتقاسم بها القيادة بين المنظمة الأممية أو الدولية من جهة، والمنظمة الأهلية من جهة أُخرى. وتبنت العديد من هذه المنظمات مفهوم توطين المساعدات، بمعنى أن تكون قيادة القطاعات العنقودية من المؤسسات المحلية (localization). وقد نجحت في قيادة بعض القطاعات، كما استطاعت خلق قيادة مشتركة تقاسميه مع بعض القطاعات الأُخرى. وثمة العديد من القطاعات العنقودية، مثل الصحة، والمياه، والبيئة، والأمن الغذائي، والحماية، والتعليم، كما تم تأسيس قطاع عنقودي جديد خلال العدوان سُمّي القطاع التغذوي. وتأثر بعض الممولين بالدعاية الاحتلالية بشأن مكافحة الإرهاب ومحاولة شيطنة نضال الشعب الفلسطيني ووصمه بالإرهاب؛ فقد حاولت حكومة الاحتلال السابقة برئاسة نفتالي بينيت العمل على إدراج بعض المنظمات الأهلية في دائرة الإرهاب، علماً بأن هذه المنظمات تعمل في مجالات حقوقية وإنسانية.[16]
المنظمات التي تم إعلانها كمنظمات “إرهابية” بقرار من وزير الأمن الداخلي السابق بني غانتس هي:
- مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.
- مركز بيسان للدراسات والتنمية.
- مؤسسة الحق لحقوق الإنسان.
- اتحاد لجان العمل الزراعي.
- اتحاد لجان المرأة الفلسطينية.
- الحملة العالمية للدفاع عن الأطفال.[17]
لقد استطاعت منظمات العمل الأهلي إفشال هذا الإعلان الاحتلالي بخصوص المنظمات المستهدفة من خلال جهد قانوني وحقوقي، وعبر آليات الضغط والتأثير، إذ اعتبر الاتحاد الأوروبي قرار غانتس غير معتمَد من قِبَله.
وأعادت ماكينة الدعاية الصهيونية بعد السابع من أكتوبر2023 تفعيل ذاتها، وضغطت على العديد من الممولين بهدف وقف التمويل أو تعليقه، بالحد الأدنى، بحق العديد من المنظمات الأهلية الممولة بحجة التحريض أو الصلة مع منظمات سياسية تدعو إلى “الإرهاب”، وهو التصنيف الاحتلالي لكفاح الشعب الفلسطيني المشروع.
وقامت بعض الدول وصناديق التمويل الأجنبية بقطع التمويل، أبرزها سويسرا وألمانيا، والبعض الآخر وضع شروطاً على الممول شبيهة بشروط التمويل الأميركي، أبرزها الاتحاد الأوروبي وأستراليا. ويشار إلى أن آلية التمويل عبر الأوتشا من خلال القطاعات العنقودية وضعت شروطاً هي الأُخرى للتمويل، الأمر الذي يعكس خضوع العديد من الممولين لضغوط دولة الاحتلال بهذا الشأن.[18]
إن معاناة المنظمات الأهلية جراء شروط الممولين تزامنت مع هجوم عشرات الجمعيات الدولية في القطاع، والتي زاد عددها مؤخراً أثناء العدوان، ومنها التي تعمل تحت عناوين خيرية وإن كانت ليست بعيدة عن أهداف سياسية، مثل المطبخ المركزي العالمي الذي كان له دور في تدشين اللسان البحري على شاطئ بحر غزة بحجة تأمين المساعدات الإنسانية لأهل القطاع عبر البحر، علماً بأن هذه المحاولة فشلت لعدم تجاوب المجتمع الدولي معها، وإصراره على الطلب من دولة الاحتلال فتح المعابر، كما لم تنجح أيضاً عمليات الإنزال الجوي للمساعدات. ويُذكر أن العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية تعمل من دون التنسيق أو الشراكة مع منظمات العمل الأهلي، الأمر الذي سيشكل خطراً على المنظمات الأهلية، ويساهم في تحقيق سياسة الاستبدال والإحلال (replacement policy)، أي استبدال عمل المنظمات الأهلية بالدولية.[19]
المنظمات الأهلية وتحدي الاضطراب الداخلي
تعرّض المجتمع الفلسطيني لحالة من الفوضى والاضطراب الداخلي جراء سياسة العدوان وإحكام الحصار وتقنين دخول المساعدات الإنسانية، فقامت دولة الاحتلال باستهداف الأونروا، وهي المزود الأكبر للمساعدات والخدمات في قطاع غزة، إذ صدر تشريع عن الكنيست الإسرائيلي بأنها منظمة إرهابية وغير شرعية، واتُخذت إجراءات لتفكيكها.[20] كذلك فإن شدة العدوان والحصار، واستهداف الأونروا وفرق المتطوعين، سواء العاملين لدى المؤسسات الوزارية أو الدفاع المدني أو فرق الإسعاف، كلها أمور أدت إلى خلق حالة من الفوضى في ظل النقص الشديد في المواد الغذائية والصحية والمياه الصالحة للشرب.
وبرزت في القطاع بعض الإشكاليات والاحتقانات العائلية والاجتماعية، وفي مخيمات النزوح ومدارس الإيواء، وذلك بسبب شدة العدوان وانعكاس ذلك على نقص الفرص والخيارات والتزاحم على الموارد الشحيحة.
كذلك أدى العدوان إلى ضعف قوة ونفوذ السلطة المركزية، كما أن استمرار الانقسام، على الرغم من عدد الشهداء والجرحى الكبير وشدة المأساة وحالة النكبة، منع تشكيل لجان موحدة لإدارة شؤون المساعدات. وسادت حالة من الإرباك برزت أكثر مظاهرها من خلال تجار الحرب، وعبر الاستيلاء على المساعدات وسرقتها، وغلاء الأسعار بصورة كبيرة، وشح المواد الغذائية، ونقص الأدوية وغيرها من الأمور التي فاقمت سوء الأوضاع، وعمّقت من حالتها الكارثية.
كل هذه الأمور أضافت تحدياً جديداً وكبيراً أمام منظمات العمل الأهلي التي حاولت عبر البيانات والنداءات جذب انتباه الرأي العام وصنّاع القرار إلى أهمية معالجة هذا الاضطراب، والتصدي لتجار الحرب، والحد من غلاء الأسعار، والدعوة إلى وحدة وتضافر الجهود لتحقيق العدالة من خلال عملية توزيع المساعدات وتشكيل أجسام وحدوية من القوى السياسية والمجتمعية كافة، من أجل تجاوز حالة الانقسام والإرباك وتحقيق عملية مساعدات ناجعة وعادلة بالمنظور النسبي.[21]
يحتاج القطاع إلى ثقافة التكافل والتضامن التي كانت سائدة في إبان الانتفاضة الشعبية الكبرى، وإلى تشكيل جسم وطني ميداني مهني يدير المساعدات، ويحارب جشع التجار، ويساهم في توطيد روابط السلم الأهلي وتعزيز وحدة النسيج الاجتماعي الداخلي، وخصوصاً إذا أدركنا أن الاحتلال لم يستهدف المباني والبنية التحتية فحسب، بل استهدف أيضاً الإنسان الفلسطيني وتدمير حالة التماسك والتعاضد المجتمعي.
إن منظمات العمل الأهلي بحاجة إلى رفع صوتها أيضاً في وجه المخاطر السياسية التي تظهر معالمها فيما أعلنه نتنياهو بخصوص اليوم التالي، والرامي في أحد أبعاده إلى تشكيل إدارة مدنية مطواعة للحكم العسكري الاحتلالي، الأمر الذي يتطلب زيادة المطالب الرامية إلى إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة والوحدة الوطنية، وتنفيذ إعلان بكين من خلال تشكيل حكومة تكنوقراط توافقية موحدة تمنع فصل القطاع عن الضفة، وتُفشل مخطط الإدارة المدنية، إلى جانب تفعيل الإطار القيادي الموقت لمنظمة التحرير الفلسطينية لتعزيز البعد الديمقراطي والتشاركي فيها.
التوصيات:
- منظمات العمل الأهلي بحاجة إلى الاستمرار في عملها الإغاثي والخدماتي، وخصوصاً في مجالات الغذاء والصحة والإيواء والتدخل النفسي والاجتماعي والتعليم والاعتناء بالأطفال، ولا سيما الأيتام منهم.
- منظمات العمل الأهلي بحاجة إلى تعزيز التعاون والشراكة فيما بينها لتعظيم الأثر وفرض الأجندة المحلية على أجندة التمويل الدولي.
- من المهم الاستمرار في رفض التمويل المشروط سياسياً، والذي يصنّف كفاح شعبنا بالإرهاب.
- من الضروري تعزيز التمويل التضامني والانخراط في الحملات لاستقطاب التمويل المناصر لكفاح شعبنا.
- التوجه إلى الرأسمال الفلسطيني في دول الشتات، وحثه على دعم وتمويل منظمات العمل الأهلي كجزء من إسناد كفاح شعبنا وتعزيز صموده.
- تنظيم حملات للضغط على صنّاع القرار والتأثير فيهم، وخصوصاً أمام البرلمان الأوروبي ومؤسسات الأمم المتحدة.
- من المناسب أن تقترح منظمات العمل الأهلي آليات للتشبيك مع أطباء ومعلمين وصحافيين حول العالم لأهداف تضامنية وتمويلية، وبهدف منع تحويل القطاع إلى بيئة طاردة تنفيذاً لمخطط التهجير.
- الانخراط الفاعل في حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات وتعزيز الرواية الوطنية بدلاً من رواية الاحتلال، والعمل على إعادة تعزيز مساواة الصهيونية بالعنصرية وبأعمال الإبادة الجماعية أمام المحافل الدولية.
- تفعيل الدور المجتمعي للعمل الأهلي عبر الدعوة إلى العمل على تشكيل إطار أهلي وسياسي ميداني موحد يعمل على تأمين المساعدات وفق معايير الاحتياج والعدالة، ومكافحة تجار الحرب وغلاء الأسعار، والتصدي للإدارة المدنية التي أعلن نتنياهو نيته تشكيلها في القطاع في إطار تصوره لما يسمى باليوم التالي، وفي سياق تأكيده رفض كل من “حماسستان” أو “فتحستان”، أي في محاولة لاستنساخ تجربة روابط القرى التي شكلها الاحتلال في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، والتي أفشلتها الحركة الوطنية آنذاك.
- استمرار المناداة بالعمل الفوري لإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية لمنع فصل القطاع عن الضفة، وإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس ديمقراطية وتشاركية.
- ضرورة الحذر من المنظمات الدولية ذات الأهداف الربحية، والتي تتواجد في الكوارث والأزمات وتخفي أهدافاً سياسية.
- العمل على تعزيز الدور القيادي للمنظمات الأهلية في تجمعات ومنابر التمويل الدولية.
- ضرورة تعزيز التعاون والتكامل بين المنظمات الأهلية العاملة في القطاع ذاته، والابتعاد عن المنافسة الضارة لصالح التكامل، وبهدف زيادة الأثر الإيجابي تعزيزاً لصمود شعبنا.
[1] “الواقع والتحديات في عمل المنظّمات الأهلية في ظلّ حرب الإبادة على غزة“، أمان، آب/ أغسطس 2024.
[2] فراس جابر، “العمل التطوعي في الأرض المحتلة: انطلاق التراث إلى الفعل السياسي والمؤسسي“، بديل – المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2024.
[3] مركز جنيف لحوكمة قطاع الأمن، “الإطار التشريعي للمجتمع المدني“.
[4] “نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين“، منظمة العفو الدولية، 1/2/2022.
“تجاوزوا الحد: السلطات الإسرائيلية وجريمتا الفصل العنصري والاضطهاد“، هيومن رايتس ووتش، 27/4/2021.
[5] “الواقع والتحديات في عمل المنظمات الأهلية في ظل حرب الإبادة على غزة”، مصدر سبق ذكره.
[6] “ʾالأونرواʿ تنقل مركز عملياتها وموظفيها الدوليين إلى جنوب غزة“، صحيفة “الشرق الأوسط”، 13/10/2023.
[7] “الواقع والتحديات في عمل المنظمات الأهلية في ظل حرب الإبادة على غزة”، مصدر سبق ذكره.
[8] المصدر نفسه؛ “ضغوط وقيود متزايدة، تقليص فضاء عمل المنظمات الأهلية في قطاع غزة“، مركز الميزان لحقوق الإنسان، 22/9/2019.
[9] Therese Nordhus Lien, “AIDA statement: One year of devastation, marking the unprecedented atrocity crimes and suffering in Occupied Palestinian Territory and Israel,” Norwegian People’s Aid, 4/10/2024.
[10] “ضغوط وقيود متزايدة، تقليص فضاء عمل المنظمات الأهلية في قطاع غزة”، مصدر سبق ذكره.
[11] “إسرائيل والأرض الفلسطينية المحتلة: يجب احترام قانون الاحتلال“، اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 19/7/2024.
[12] “ضغوط وقيود متزايدة، تقليص فضاء عمل المنظمات الأهلية في قطاع غزة”، مصدر سبق ذكره.
[13] “كل ما تحتاجون معرفته عن قرار الجمعية العامة بشأن عضوية فلسطين في الأمم المتحدة“، أخبار الأمم المتحدة، 12/5/2024.
[14] “مجلس الأمن يعتمد قراراً بشأن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس“، أخبار الأمم المتحدة، 10/6/2024.
[15] “الواقع والتحديات في عمل المنظمات الأهلية في ظل حرب الإبادة على غزة”، مصدر سبق ذكره.
[16] “شبكة المنظمات الأهلية تنظم ورشة عمل لعرض دراسة حول بيانات التمويل الدولي لفلسطين (2017-2021)“، شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، 14/6/2023.
[17] مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، بيان صحفي عاجل، 22/10/2021.
[18] “القيود التمييزية التي تفرضها الحكومات الأوروبية المانحة على تمويل المجتمع المدني الفلسطيني تهدد بتفاقم أزمة حقوق الإنسان“، منظمة العفو الدولية، 28/11/2023.
[19] “عدسة الاقتصادي ترصد أعمالاً متواصلة لبناء رصيف بحري في غزة“، “الاقتصادي”، 18/3/2024.
[20] “رسائل فلسطينية للأمم المتحدة حول الإبادة بغزة واستهداف الأونروا“، “الجزيرة نت”، 6/11/2024.
[21] “الواقع والتحديات في عمل المنظمات الأهلية في ظل حرب الإبادة على غزة”، مصدر سبق ذكره.
1
عن المؤلف:
محسن أبو رمضان: كاتب ومحلل سياسي مختص بشؤون التنمية والمجتمع المدني، مدير مركز د. حيدر عبد الشافي للثقافة والتنمية في غزة.
عن ورقة سياسات – مؤسسة الدراسات الفلسطينية