البطش المتوحّش في القدس أيضاً

في وقت يحاول المبعوثون الدبلوماسيون والسياسيون التوصل إلى وقف لإطلاق النار في لبنان، وربما لاحقاً في غزّة، تستغل الحكومة الإسرائيلية اليمينية هذا الانشغال في الشمال والجنوب لتعزيز نفسها في الوسط.
تشهد القدس، جوهرة التاج عند الفلسطينيين، حملةً غير مسبوقة وغير معلنة إلى حدّ كبير لجعل البلدة القديمة والمناطق المحيطة بها أكثر إسرائيلية. وفي حين يتطلّع المتطرّفون المتدينون اليهود إلى وضع أقدامهم في مجمّع المسجد الأقصى (ربّما بالاستيلاء على منطقة مسجد باب الرحمة)، تجري الحملات الأكبر في سلوان والمصرارة.
أكبر تحرّك يجري في منطقة سلوان، وبالذات حي البستان، أقرب منطقة سكنية فلسطينية مكتظّة بالسكّان إلى المسجد الأقصى، هدفاً لحركة الاستيطان سنوات. حيث تُهدم المنازل والمراكز الفلسطينية ويستبدل بها المستوطنون والمؤسّسات اليهودية. وبطبيعة الحال، مع كل منزل يستولي عليه المستوطنون، يجري إنشاء جيش من الحرّاس والكاميرات والأسوار، والاستيلاء على المزيد من الممتلكات.
يركز الاحتلال هدف الاستيلاء على تلك المنطقة باستخدام مجموعة متنوّعة من الوسائل القانونية والإدارية. ومن بين المنازل والمراكز التي هدمتها قوى الاحتلال باستخدام مبرّر قانوني مختلف المركز الثقافي في سلوان، والمدعوم من الحكومة الفرنسية منذ سنوات. وقد أثار تدميره الأسبوع الماضي ردَّ فعل فرنسياً سريعاً وقوياً. وأعرب المتحدّث باسم وزارة الخارجية الفرنسية كريستوف لوموان عن مخاوفه بشأن هذا الإجراء، ووصفه بأنه “جزء من سياسة الاستعمار الإسرائيلية التي تعدّ غير قانونية بموجب القانون الدولي، وتهدّد حلّ الدولتين ووضع القدس”. في حين أن المواقع الأخرى التي كانت هدفًا لنشاط المستوطنين الإسرائيليين منطقة التسوق في المصرارة خارج باب العامود. تلقت هذه المنطقة هزّةً عندما أخلت السلطات الإسرائيلية مقهىً صغيراً كان يعمل في الموقع نفسه منذ عقود.
أصبح مقهى كاسترو في حي المصرارة المتواضع عند كثيرين رمزاً لنضال الفلسطينيين من أجل هُويَّة المدينة وطبيعتها المتسامحة والتعددية، على النقيض من الطابع المتجانس المتعصّب الذي يهيمن. يقول محمد عودة كاسترو، صاحب المشروع الصغير في حي المصرارة منذ عام 1954، عندما استأجره من الحكومة الأردنية، إن السلطات الإسرائيلية أصدرت، في عام 2010، أمر إخلاء. وبعد استئنافه الإخلاء، أصدرت المحكمة المركزية الإسرائيلية أمراً يسمح له بالبقاء، بينما حرمته من حقوق حماية المستأجرين التي تنطبق على القدس. ولكنّ المستوطنين، إلى جانب السلطات الإسرائيلية، واصلوا الذهاب إلى المحكمة لطرده من المقهى، وحصلوا، في النهاية، على ما أرادوا عندما أصدرت المحكمة العليا قراراً بطرده.
مع مرور الوقت وظروف الطقس العامة، أصبحت جدران المقهى متداعية. ومن دون أن يدرك أنه في حاجة إلى الحصول على تصريح لإصلاح الجدار، وقع كاسترو في ثغرة قانونية. اعتُبر قيامه بأعمال ترميم من دون إذن مبرّراً كافياً لطلب طرده.

يركز الاحتلال هدف الاستيلاء على حي البستان باستخدام مجموعة متنوّعة من الوسائل القانونية والإدارية

بعد عدة معارك قانونية، وافقت المحكمة العليا الإسرائيلية على قرار الإخلاء. وفي يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، جاءت الشرطة الإسرائيلية إلى المقهى الصغير، وأخذت محتوياته كلّها في شاحنات. ومن غير الواضح من سيتولّى الموقع، لكنّ المستأجر الجديد المحتمل سيكون مستوطناً، ما يسبّب نقطة استفزاز أخرى لجميع المحالّ التجارية الأخرى في المنطقة.
معروفٌ أن حي المصرارة الذي يعدّ المدخل الأول للبلدة القديمة عبر باب العامود تاريخي، ويعتبر من أوائل الأحياء التي بنيت خارج أسوار البلدة القديمة، بعد أن سمحت به الدولة العثمانية عام 1830، لذلك تتميّز مبانيه بالطراز المعماري العثماني، كما هو الحال في الأحياء الأخرى التي بنيت خارج البلدة القديمة، مثل القطمون والشيخ جرّاح. في العصر الروماني، استخدمت المنطقة سوقاً للعبيد، كما أطلق عليها في العهد العثماني طريق عقبة المنزل، إذ كانت تربط بين القدس والخليل.
لن يكون مقهى كاسترو آخر المحالّ والمنازل والمراكز التي تختفي من المناطق خارج أسوار المدينة، إذ تستبدل إسرائيل بحيّ فلسطيني مقدسي بالكامل المستوطنين اليهود.
وإلى جانب الحملة على سلوان، يسارع المحتلّ الإسرائيلي إلى تنفيذ أفعاله في حين ينشغل العالم بمحادثات وقف إطلاق النار في لبنان والحرب على غزّة. ومع هذه الأفعال، لن تختفي المباني المادّية فحسب، بل ستختفي أيضاً قصّة مدينة تكافح من أجل روايتها. وستفقد القدس قصّتها الأصيلة في مواجهة هذا الوحش القادم إليها بهدف واضح يتمثّل في تغييرها حرفياً، تحت أقدام الفلسطينيين وأمام أعينهم.
الأهداف الإسرائيلية الشاملة منفصلة تماماً عن التطوّر الطبيعي الذي تشهده أغلب المدن. والدرس موجّه في المقام الأول إلى الشعب الفلسطيني في القدس، أي إن المدينة التي يرغبون في رؤيتها عاصمةً لهم لن تكون لهم أبداً.

عن العربي الجديد

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *