البحث عن القاسم الوطني المشترك: هل ما زال ممكنًا في الحالة الفلسطينية؟

في ظلّ الانقسام السياسي الفلسطيني، ومع تصاعد الخطابات العدائية بين القيادات في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحتى بين الفلسطينيين في دول الشتات ، يبدو أن الفلسطينيين يبتعدون أكثر فأكثر عن ما يمكن أن يشكّل قاعدة جامعة أو قاسماً وطنياً مشتركاً.
وبينما تتعمق الفجوة بين فصائل المقاومة والسلطة، يضيع الخطاب الوطني الموحد، وتتآكل ركائز المشروع التحرري الذي لطالما شكّل مظلة لكل الفلسطينيين.
لكن، هل انتهى الأمل فعلاً في وجود قاسم وطني مشترك؟ أم أن الأزمة الحالية تفرض بالضرورة إعادة التفكير في هذا المفهوم، وإعادة صياغته بما يتماشى مع التحولات السياسية والمجتمعية الفلسطينية؟
أولًا: من الانقسام إلى التنازع على الشرعية
منذ الانقسام الفلسطيني في عام 2007 الذي بادرت إليه حماس بانقلابها على السلطة لم يعد الخلاف بين “فتح” و”حماس” مجرد تباين في وجهات النظر، بل تحوّل إلى تنازع حاد على الشرعية والتمثيل، بحيث بات كل طرف يُعرّف القضية من زاويته، ويتعامل مع الواقع الفلسطيني كأنّه ساحة نفوذ خاصة به. فالسلطة الفلسطينية ترى في مشروعها السياسي استكمالًا لمسار “الاعتراف الدولي” والدبلوماسية، بينما تعتمد حماس نهج المقاومة المسلحة كأساس للرد على الاحتلال . هذا التناقض، وإن كان من حيث المبدأ قابلًا للنقاش، تحوّل إلى خصومة مفتوحة، نشتم ترجمتها في الإعلام، وفي المؤسسات، وفي الشارع.
ولأن الشرعية لم تعد موحّدة، صار من السهل تخوين الآخر، وتهميشه، وحتى تبرير قمعه، وهو ما أدى إلى تراجع كبير في الثقة الشعبية، ليس فقط بالفصائل، بل بالمشروع الوطني ككل.
ثانيًا: القاسم المشترك… من الثورة إلى التفكك
في مراحل النضال الأولى، كان التحرر من الاحتلال هو العنوان الأبرز الذي التفت حوله كل مكونات الشعب الفلسطيني، من القوى الوطنية إلى الإسلامية، ومن الشتات إلى الداخل. لم يكن هناك خلاف جوهري على أن الاحتلال هو العدو المركزي، وأن مقاومته بشتى الوسائل هي الهدف المشترك.
لكن بعد توقيع اتفاق أوسلو، وظهور مؤسسات السلطة، بدأت ملامح القاسم المشترك بالتآكل، إذ لم يعد الفلسطينيون موحدين حول طبيعة المشروع الوطني: هل هو مشروع تحرر وعودة؟ أم مشروع دولة تحت الاحتلال؟
وازداد هذا التآكل بعد سيطرة حماس على غزة، وتحول الضفة والقطاع إلى “كيانين سياسيين”، لكل منهما رؤيته، ومموليه، وخطابه السياسي والإعلامي.
هذا التراجع في وحدة البوصلة السياسية لم يأتِ فقط نتيجة الانقسام، بل أيضًا بسبب عوامل إقليمية، وصراعات النفوذ، وتغير أولويات بعض النخب الفلسطينية، التي بدأت تبحث عن مكاسب سلطوية، أكثر من اهتمامها بإعادة تعريف المشروع الوطني.
ثالثًا: إعادة تعريف القاسم المشترك الوطني… هل هو ممكن؟
رغم كل التشظي السياسي والانقسام المؤسساتي، لا يزال لدى الفلسطينيين قاسم مشترك أصيل يمكن البناء عليه، وهو: الحق الجماعي بالتحرر من الاحتلال، والكرامة الوطنية، ورفض التبعية لأي قوة خارجية، سواء كانت إقليمية أو دولية.
هذا القاسم، وإن خفت صوته في الخطابات الرسمية، إلا أنه لا يزال حيًا في وجدان الناس. يظهر في تضامن الفلسطينيين مع بعضهم في المحن، ، في لحظات العدوان على غزة ، في مشهد الأسرى ، وفي محاولات التصدي للمستوطنين في الضفة ، وفي دفاع المقدسيين عن
الأقصى لكن تحوّله إلى مشروع سياسي موحّد يحتاج إلى شجاعة، وتواضع سياسي، واعتراف كل طرف أن لا أحد يستطيع أن يحتكر التمثيل أو الحقيقة.
إعادة تعريف القاسم الوطني لا تعني إلغاء الفروقات الفكرية، بل الاتفاق على حدود الخلاف، والتوافق على قواعد إدارة الصراع السياسي داخليًا، بدلًا من تحوّله إلى صراع وجودي. وهذا يبدأ من القبول بالشراكة، والعودة إلى الشعب كمصدر للشرعية.
الخاتمة: الطريق إلى المستقبل… عبر الوحدة والتفاهم
في النهاية، إن التمسك بالقواسم المشتركة بين الفلسطينيين (فلسطينيو الداخل ، الضفة الغربية وغزة ، الشتات ) ليس فقط ضرورة لمواجهة التحديات السياسية الحالية، بل هو الطريق الأمثل لبناء استراتيجية فلسطينية موحدة . يبدو أن الوحدة لا تتحقق فقط عبر الانتصار في جولات الصراع، بل من خلال إعادة بناء الركيزة المشتركة التي تجمع الشعب الفلسطيني بأطيافه المختلفة، بعيدًا عن سياسة الإقصاء والتهميش.
لا بد من إعادة النظر في التفاهمات الوطنية بعيدًا عن الصراع الشخصي أو الحزبي، وأن تُركز الجهود على تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني ككل، بدلًا من تمسك كل طرف بأجندته الخاصة. ولذلك، الوحدة الحقيقية ليست فقط شعارًا، بل هي العمل الجماعي والتعاون الفعلي على أرض الواقع، ضمن إطار سياسي عقلاني قادر على تجاوز الانقسامات الجغرافية والفكرية.
إذا تمكّن الفلسطينيون من بلورة هذه الوحدة على أسس وطنية متينة، فإنهم سيثبتون للعالم أن إرادتهم في البقاء والتطور هي الأقدر على تحديد مصيرهم في ظل المخططات الكبرى التي تحيط بهم، بما في ذلك الضغوط الدولية والإقليمية.
لذلك، على الفلسطينيين أن يكونوا على وعي تام بأن الوحدة هي الحل الأساسي، وهي السبيل الوحيد لإحداث التغيير الجذري في قضيتهم، وترسيخ وجودهم كقوة فاعلة على الساحة الإقليمية والدولية