الانتفاضة الفلسطينية الشاملة لا بُدّ آتية

أصوات همهمة البركان يمكن أن تسمعها إذا أصغيت لإحباط الشعب الفلسطيني وقهره، ومحاولة إخضاعة بالقوة والإفراط في استخدامها. وأقصد بذلك كل الشعب الفلسطيني على كل أرض فلسطين من رأس الناقورة شمالا إلى رفح على الحدود المصرية، ومن عكا وحيفا وأم فحم والخضيرة غربا إلى أم الرشراش في خليح العقبة جنوبا. القضية الفلسطينية الآن تمر في فترة تحدٍ كبرى، فإما أن يكسر نظام الفصل العنصري الصهيوني إرادة هذا الشعب، أو أن يصمد على أرض آبائه وأجداده ويحمي وجوده ويحمي مشروعه الوطني الذي تمسك به أثناء مسيرته النضالية التي تجاوزت المئة عام.
صحيح أن هناك أخطارا كبرى يتعرض لها الشعب الفلسطيني وحيدا، تهدد قضيته العادلة كقضية تحرر وطني وتحويلها إلى مسائل تتعلق بالأفراد والتجمعات والمعازل المتقطعة تحت السيادة الإسرائيلية الدائمة، مع إمكانية تحسين ظروف حياتهم الاقتصادية، في ما أطلق عليه «السلام الاقتصادي» الذي يبدو أن السلطة الفلسطينية التي تؤدي دورها الوظيفي للاحتلال، متفقة مع الكيان على هذا التوجة. وتعود أسباب هذا المأزق الخطير الحالي إلى تجمّع عدة عوامل لم تكن كلها موجودة مجتمعة في فترة زمنية واحدة، مثلما هي عليه الآن، نذكر أهمها:
1ـ الانقسام الفلسطيني جغرافيا وأيديولوجيا وسياسيا، ووجود سلطتين واحدة في رام الله لا علاقة لها بالمشروع الوطني الفلسطيني، بل تحولت إلى جهاز أمني لخدمة الكيان ومستوطنيه وبرامجه. وسلطة في غزة تحولت إلى عبء على الناس وحرياتهم وقراراتهم وصادرت حق المواجهة أو عدم المواجهة. إنها تعرف أن المقاومة لا تعني فقط إطلاق المقذوفات البدائية التي في النادر تصيب أحدا، ثم تجرّ موجات من التدمير والقتل الجماعي لسكان القطاع. لقد تحول الانقسام إلى غطاء مناسب للتهرب العربي والدولي من الالتزام بقضية فلسطين من جهة، وإعطاء إسرائيل الذريعة المناسبة لابتلاع الأرض الفلسطينية وتهويد القدس وسرقة مواردها الطبيعية وحصار غزة وخنقها اقتصاديا، وشن الحروب الدموية المتكررة على القطاع، وانتهاك مناطق السلطة الفلسطينية والتنكيل بالشعب الفلسطيني.
2 ـ الانقسام الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية (الخط الأخضر) بين ثلاث مجموعات. فئة وطنية تمثلها القائمة المشتركة، تريد العمل من داخل المؤسسة الصهيوينة لتحسين الظروف المعيشية والحياتية للفلسطينيين في الداخل، وهناك فئة ثانية تريد أن تعمل حتى مع الأحزاب الصهيونية تحت مبرر أن العمل مع الحكومة قد يحقق أكثر إنجازات للقرى والمدن العربية، وهذه الفئة تقر بيهودية الدولة وهي تمثل اختراقا سياسيا خطيرا في الجسم الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية، وتمثل هذه المجموعة «القائمة الموحدة» ورئيسها منصور عباس. أما الفئة الثالثة فهي تلك المجموعات التي لا تؤمن بالعمل من داخل المؤسسة الصهيونية، وترى أن الشعب الفلسطيني في الداخل هو جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني، وأن نضال الداخل يجب ألا يكون منفصلا عن نضال الشعب الفلسطيني ككل، تأكيدا على وحدة الشعب ووحدة الأرض ووحدة القضية، وتمثل هذا التيار عدة أطياف سياسية من بينهم «أبناء البلد» وبعض تيارات الحركة الإسلامية في الشمال، وبعض رموز من حزب التجمع الوطني وغيرهم.

3 ـ عديد من الدول العربية دخلت، ليس مرحلة التطبيع مع الكيان فحسب، بل التحالف معه والاستقواء به وتوقيع اتفاقيات عديدة حول التبادل التجاري والصناعي والتكنولوجي والعسكري والاستخباراتي والسياحي. لقد بلغت ببعضهم المغالاة في تلك العلاقة لدرجة أنهم يشاركونه الاحتفال بنكبة الشعب الفلسطيني، الذي يطلقون عليه زورا وبهتانا «عيد الاستقلال» ولا نعرف أهو استقلال عن بريطانيا التي أنشأت الكيان أصلا. وما سمي «قمة النقب» وتشابك الأيدي والتحاضن وتبادل القبل والابتسامات إلا صورة عن تخلي هذه المجموعات عن القضية الفلسطينية. ولا يغرنك بعض التصريحات الخشبية حول التمسك بدعم الشعب الفلسطيني في إقامة دولته وعاصمتها القدس الشرقية. إنها لغة كاذبة وخادعة، فمن يؤيد الشعب الفلسطيني لا يرقص في حفلات قتلته.
4 ـ العالم العربي في أسوأ حالاته.. حروب بينية في ثلاث دول هي سوريا وليبيا واليمن. وتدخلات في الشؤون العربية من دول الجوار وغيرها مثل إيران وتركيا وإثيوبيا وروسيا والولايات المتحدة وفرنسا. هناك غياب لدور العراق القومي، ولبنان يحاول أن يقف على رجليه كدولة، وتونس ارتدت أو تكاد عن ثورة الياسمين والديمقراطية، وتتجه نحو نظام الاستبداد على الطريقة المصرية. مصر غائبة عن المشهد وأمنها القومي مهدد من سد النهضة الإثيوبي، الذي خفت الحديث عنه بعد فشل مصر في تدويل القضية. لقد تحولت مصر إلى دولة حامية للأمن الإسرائيلي وفك الكماشة الآخر لحصار غزة المحكم من المنافذ كافة. السودان الذي دفع ثمن القبول الدولي سلفا باتفاقية التطبيع مع الكيان، ثم تخلى الجميع عنه بعد أن بلع المكون العسكري للائتلاف المكون المدني، وعادت البلاد إلى حالة الجمود السياسي بعد استقالة عبد الله حمدوك في 2 يناير 2022.
5 ـ الأزمة الأوكرانية انعكست سلبا على الفلسطينيين كالعادة، فلدى الفلسطينيين قناعة بأن أي أزمة في العالم تحدث لا بد أن يدفعوا الثمن. فهناك عشرات الألوف من اليهود الأوكرانيين يتم ترحيلهم حاليا إلى الكيان تحت حجة «حق العودة لليهود فقط». الأعداد الصحيحة غير معروفة وحتى في ظل هذا التوتر وصل 12000 يهودي روسي ليضافوا إلى ملايين المستوطنين. كما أن الحرب الأوكرانية همشت كل الأزمات العالمية الأخرى، واستغلت سلطات الكيان هذا الانشغال لتمعن في قهر الفلسطينيين وتوسيع الاستيطان وتهويد القدس وإطلاق يد المستوطنين من دون رادع، وتسهيل ممارسة القتل «للصغير والكبير والمقمط في السرير» والعالم منشغل في أوكرانيا. هذه الأزمة شكلت تحديا لإدارة بايدن الأمريكية ليتهرب من كل وعوده لسلطة أوسلو حتى البسيطة منها مثل، فتح القنصلية في القدس الشرقية أو إعادة فتح ممثلية منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.
6 ـ المراهنة على المجتمع الدولي كالمراهنة على «وجود قطة سوداء في مغارة مظلمة ليست فيها أصلا» بالإذن من المرحوم محمد حسنين هيكل. إن حديث السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة، عن تأمين الحماية للشعب الفلسطيني، ما هو إلا ذر للرماد في العيون، وهو يعرف مثلما نعرف جميعنا أن هذا ضرب من الخيال. فلا الرباعية ولا جامعة الدول «التي كانت يوما ما» عربية، ولا مؤتمر التعاون الإسلامي ولا مجموعة الـ77 والصين ولا مجموعة دول عدم الانحياز كلها قادرة على وقف جرافة تتقدم لهدم بيت فلسطيني. وتكرار الأسطوانة المشروخة «بضرورة تحمل المجتمع الدولي لمسؤولياته» إنما هو التهرب من المسؤولية وتقبل حالة العجز وتجرع الهوان. العالم الآن يعيش مرحلة البراغماتية والشعبوية، وكل يبحث عن مصالحه بعيدا عن المبادئ وأخلاقيات الحق ورفض الظلم.
7 ـ الحكومة الحالية في الكيان آيلة للسقوط ولا يبقيها متماسكة قليلا إلا تطرفها وانصياعها لرغبات المستوطنين. إنها الأكثر دموية والأكثر تطرفا في تاريخ الكيان الصهيوني. وهي لا تخفي رغبتها أبدا في عدم التفكير حتى في المفاوضات مع سلطة أوسلو ولا تنكر عدم تقبل فكرة إقامة دولة فلسطينية، حتى لو لم يكن لديها صلاحيات. الكيان الآن في غالبيته الساحقة تحول إلى حكومة مستوطنين متطرفين مسلحا بقانون القومية لعام 2017 الذي يعني بكل بساطة إلغاء وجود الشعب الفلسطيني، إلا كأفراد واعتبار الأرض ما بين النهر والبحر أرضا يهودية يحق لليهود فقط حق تقرير المصير فيها.
الفلسطينيون في غالبيتهم الساحقة الآن يؤمنون بصرخة «يا وحدنا» التي أطلقها المحاصرون في بيروت عام 1982. لم يبق للفلسطينيين إلا الاعتماد على أنفسهم. فلن تصلهم جيوش العربان ولا صواريخهم. ولن تفتح الحدود لدخول ملايين المتطوعين، ولن يسمع في محطاتهم المرئية والمسموعة أغنية «وين الملايين، ولا أخي جاوز الظالمون المدى، ولا ومشيت في الشوارع شوارع القدس العتيقة». لقد أثبتت هبة سيف القدس في رمضان الفائت وهبة القدس في رمضان الحالي وصمود جنين ومخيمها وضواحيها واشتعال المشاعر حول ما يقوم به المستوطنون وحماتهم في الحرم الشريف وداخل المسجد الأقصى «الذي باركنا حوله» أن الفلسطينيين عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم، فلا السلطة ولا الدول العربية ولا المجتمع الدولي سيهرع لتقديم الحماية لهم. عليهم ألاّ ينشغلوا الآن بموضوع حل الدولتين أو الدولة الواحدة أو الفيدرالية القائمة على ثنائية القومية، فكلها أمور مستحيلة الآن في ظل موازين القوى الحالية. الفلسطينيون الآن في كل أرجاء الأرض في ساحة المواجهة. كم نتمنى أن يواجهوا خصومهم متحدين، الكل يريد أن يعلق هزيمته وتخاذله وانحرافه على الوضع الفلسطيني، فلنسد الثغرات وننطلق جميعا نحو حماية وجودنا والصمود في وجه مخططات أعدائنا وتعزيز مقاومتنا المتواصلة والمتراكمة حتى تغيير موازين القوى لصالح شعبنا. يومها ستلبي الجماهير العربية نداءنا وتنضم لمواجهة العدو في منازلة حاسمة لصون الشرف والكرامة والتحرير، بعد أن تكون أسقطت من حساباتها أي دور للنظام العربي البائس ومراهناته الخاسرة.

عن القدس العربي

About The Author

1 thought on “الانتفاضة الفلسطينية الشاملة لا بُدّ آتية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *