الانتخابات النيابية بين مرحلتين

سأتناول موضوع الانتخابات للمجلس التشريعي التي لم تعقد ضمن إطار أوسع ينطلق من الحاضر إلى المستقبل، وسأثير مجموعة من الأسئلة التي ينبغي البدء بالتفكير بها الآن، حتى لو أن لها علاقة بالمستقبل؛ ذلك أننا الآن في مرحلة انتقالية لها جوانب عدة، منها وجود جيل في السلطة والمنظمة يجمع بين القديم والجديد، منهم أبو مازن نفسه، وأغلبية من أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح، وأغلبية أيضاً من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة.  أما الجديد فهو وجود حكم ذاتي في الضفة وغزة محدود الصلاحيات، في ظل الاحتلال الإسرائيلي كوضع دائم و/أو طويل الأمد، وأن حل الدولتين بالفهم الفلسطيني له قد انتهى أو شارف على الانتهاء.

ومن الجلي ما هي أهمية الانتخابات لمجلس تشريعي من منظور أغلبية من الجمهور.  ليس فقط لأنها مطلب ديمقراطي للمشاركة في الحكم، ولكن، وبشكل خاص، لوضع قيود على السلطة التنفيذية بعد تغولها على أكثر من صعيد، والأهم محاسبتها.  ليس فقط على الفساد، وليس فقط على تخريب الجهاز القضائي، وليس فقط على ما هب ودب من “القوانين” التي أعلن عنها كقرار من الرئيس.  لقد أحدث قتل نزار بنات جرحاً عميقاً في النفس الجماعية الفلسطينية.  لقد اعتدنا أن يسقط شهداؤنا على يد العدو.  فهل ارتقى شهيداً على يد السلطة “الوطنية”؟ أي تعارض في المفاهيم هذا؟ لقد شارفنا على بلوغ مرحلة ما بعد أبو مازن، وما بعد الجيل القديم في فتح.  ففي مقابلة مصورة في إحدى المظاهرات الأخيرة في رام الله، في لحظة غضب وانفعال عارم من جراء العنف العاري الذي استخدمته الشرطة والأجهزة، صرخ رجل في حوالي الستين من العمر، قائلاً: لدينا احتلالان الآن؛ احتلالان. أقول: لعل هذا الرجل قد أطل على المستقبل، ونحن الآن في مرحلة انتقالية.

تدرك السلطة تماماً وضعها وتعرف موقف الجمهور.  وتسعى جاهدة في وسائل إعلامها إلى استحضار تاريخ حركة فتح، النضالي والمشرف، بمناسبة وبغير مناسبة، تسعى إلى أن تتشبث وتتمسك بأهداب هذا التاريخ، لعله يسعف في ستر عيوب الحاضر.  وتستحضر أغاني الثورة أيضاً على صوت فلسطين.

نحن الآن في مرحلة انتقالية.  سنرى ما سيحصل في فتح، وما إذا كان في إمكان جيل آخر أن يستحوذ على اسم الحركة كما هو حاصل الآن؛ ذلك أن فتح ليست شيئاً واحداً؛ فلا أحد يعرف من هم جميع “الأعضاء”، ولا توجد قائمة بالعضوية، ولا بالأقدمية بسبب كثرة “الدخول” والخروج” من الحركة.  والمحاولات التي تمت لحصر العضوية، أولاً في العام 2005 استعداداً للانتخابات النيابية القادمة، وبعد ذلك في العام 2008 قبل عقد المؤتمر السادس الذي عقد في أواسط آب من العام 2009، وعندما كان أبو العلاء مفوض التعبئة والتنظيم، باءت هذه المحاولات بالفشل.  وقد يكون أن المغتربين من الحركة أكثر عدداً ممن تعتبرهم فتح السلطة من أتباعها.  ولعل الأدق من الحديث عن فتح الآن أو فتح السلطة، هو الحديث عن الحزب الجديد الذي تشكل عبر الأعوام الماضية، واسمه حزب السلطة.  فالبعض منه في القطاع العام، والبعض في القطاع الخاص، وفي المؤسسات المجتمعية، وفيه بعض المليشيات، ولم تعد عبارات “عائدين” و”مقيمين” تعني شيئاً محدداً واضحاً بعد نشوء حزب السلطة.  هذا ما تشكل في ظل السلطة، وما سنواجهه في المستقبل.  حزب له مصلحة في الوضع القائم الراهن، وبالإبقاء عليه، تقريباً بأي ثمن.  هذا بعض معاني قتل نزار بنات، وضرب المتظاهرين وسحلهم في رام الله.

نحن الآن في مرحلة انتقالية فيها عناصر تتداخل مع المستقبل.  لكن ما سنراه بوضوح في المستقبل هو سلطة تنفذ خطة روابط القرى، لكن كسلطة مركزية في ظل حكم ذاتي من النوع الحاصل الآن، في أفضل الأحوال.  هل ستعقد في المستقبل انتخابات لمجلس نيابي لسلطة الحكم الذاتي؟ هل ستشارك القوى الوطنية لغرض قلب الطاولة كما تم في انتخابات البلديات في العام 1976؟ هل سيسمح لها؟ هل ستتمكن سلطة الحكم الذاتي بالاستمرار بالادعاء أنها أيضاً منظمة التحرير الفلسطينية؟ هل ستتمكن سلطة الحكم الذاتي من الاستمرار في الاستحواذ على اسم فتح بعد غياب الجيل الحالي، بما في ذلك أبو مازن نفسه؟ هل ستظهر فتح متجددة تنازع سلطة الحكم الذاتي على اسم الحركة؟

هذه هي بعض من أسئلة المستقبل غير البعيد، وبعض منها معنا الآن.  ما معنى أن يتم تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى بسبب عدم ضمان الحصول على أغلبية في النتائج ولو ضئيلة؟ بعد قتل نزار بنات بسبب نقده الجارح والصريح لما هو قائم، وبعد الاعتداء على المتظاهرين في رام الله من قبل شبيحة فلسطينية الآن، هل أطل هذا الرجل الستيني على المستقبل عندما صرخ في لحظة غضب وانفعال أن لدينا احتلالين؟

إن السؤال عن الانتخابات هو سؤال أيضاً عن المستقبل.  لقد سعى عدد كبير من القوائم إلى الترشح للانتخابات في مسعى إلى اختراق النظام القائم حالياً، وشاهدنا بداية تشقق في فتح السلطة من خلال قائمة ناصر القدوة ودحلان أيضاً.  وشاهدنا ما حصل عندما بان أن حزب السلطة لن يحوز على أغلبية من المقاعد.  هل هذه سابقة للمستقبل أيضاً، ومن سيسمح له بالترشح وبأية شروط إن سمح بعقد انتخابات للحكم الذاتي، بعد أن يرى الجميع بوضوح أن حل الدولتين قد انتهى؟

لقد أشرت إلى انتهاء حل الدولتين أكثر من مرة.  وقد يختلف البعض مع هذا التحليل أو النظرة.  من ناحية المبدأ يمكن القول إن هذا الحل دائماً ممكن إن توفرت قوة ضاغطة بما فيه الكفاية لتجعل إسرائيل تقبل هذا الحل، وتخلي المستوطنات، وتنسحب من الضفة الغربية، وتتوقف عن تهويد القدس.  لا أعتقد أن الكثيرين في السلطة يعتقدون بوجود هذه الإمكانية فعلاً في المدى المرئي، بدليل أن الكثيرين منهم همهم الأساسي البقاء في السلطة والإفادة من مواقعهم وعلاقاتهم لأغراض شخصية.  هذا ما يحصل أحياناً مع البعض عندما ينهزمون داخلياً، أي من يتصرف على أنه مهزوم، فلا يبقى إلا المشاريع الشخصية والفردية والتربح ما أمكن من الموقع في السلطة.  أما في الجانب السياسي، فيتم التعامل مع الأمر الواقع كما هو، وأحياناً باسم “الواقعية السياسية”، حتى لو فيها تصفية للقضية، كما حصل مع من نصح أبو مازن “بالتعامل” مع صفقة القرن، وقد هاجمتهم وسائل إعلام السلطة في حينه لأن موقف الرئيس كان قطعياً وفي غاية الوضوح.  لكن ما بعد مرحلة أبو مازن من غير الواضح ما سيكون موقف السلطة من أي مسار سياسي ممكن إن نشأ، مع أنه لا يبان أنه سيوجد أي مسار سياسي في المدى المرئي.

إن السؤال الأساسي الآن في هذه المرحلة الانتقالية هو: ما هو المشروع الوطني الآن؟ ما هو المشروع الوطني المتجدد؟ أقترح أنه من منظور هذا المشروع المتجدد ينبغي أن ننظر إلى الانتخابات.  دون الربط مع المشروع الوطني المتجدد، ستكون الانتخابات فقط لغرض الحكم الذاتي في ظل السيادة الإسرائيلية.  فدون هذا المشروع وربط الانتخابات به، ستكون الانتخابات هدفها تحسين ما هو ممكن من شروط الحياة في نظام الحكم الذاتي محدود الصلاحيات.ومن غير الواضح أنه سيكون في الإمكان من خلال الانتخابات الإتيان بسلطة من نوع آخر، على سبيل المثال سلطة تدعم مقاومة الاحتلال، لأن معادلة سلطة علنية ومقاومة غير ممكنة تحت الاحتلال، لأن إسرائيل ستستهدفها وتحملها المسؤولية.  وهذا ما حصل مع حماس، مع الفارق أن حماس تمكنت من توفير قوة ردع فاعلة سياسياً أقنعت الحكومة السابقة بقيادة نتنياهو، وبناء على توصية الجيش والأمن، من تغيير الوضع المعيشي في غزة بشكل كبير.  وتبلورت هذه الخطة في الأعوام 2017-2018، إلى درجة أن نتانياهو نفسه بدأ الحديث عنها، وسميت في حينه بخطة مارشال لغزة، مقتبسة اسم خطة إنقاذ أوروبا مما حل بها من دمار اقتصادي وعمراني من جراء الحرب العالمية الثانية.

ولم تنفذ هذه الخطة حتى الآن لسببين: الأزمات السياسية الداخلية في إسرائيل، والانتخابات الأربعة التي تمت، والانشغال والاستغراق بها، وباب المزايدة السياسية مفتوح بينهم على مصراعيه.  والسبب الثاني لعدم تنفيذ خطة مارشال هذه هو عدم الاتفاق على تبادل الأسرى.  وأشير، أيضاً، إلى أن الخطة تتضمن “تنسيقاً أمنياً”، وإن كان من نوع مختلف عمّا هو في الضفة، جوهره أن حماس مسؤولة عن أية قذيفة تطلق من غزة على إسرائيل بغض النظر عمَّن قام بذلك.  وكما قال وزير الحربية الإسرائيلي خلال العدوان الأخير في أيار من العام الحالي مكرراً موقف الحكومة: “لدينا عنوان واحد في غزة”.

القضية الأساسية إذاً ليست الانتخابات بشكل مجرد عما نريد منها، وليس دون تصور واضح حول المستقبل انطلاقاً من مؤشرات موجودة في الحاضر، وليس دون مشروع وطني متجدد.  دون كل هذا، ستكون فقط مسعى لتحسين الحكم الذاتي تحت الاحتلال.

وأضيف، أيضاً، أن القضية الأساسية ليست الانقسام، إذ يوجد أمر آخر أسبق منطقياً عليه، أي يفترض وجوده أولاً، وبناء عليه يتم رأب الصدع.  وفي تقديري أن إنهاء الانقسام يمكن أن يتم فقط في حالتين: قيام دولة فلسطينية مستقلة، عندها سيتم إجراء مباحثات مكثفة لرؤية موقع حماس فيها، وهذا ليس في الأفق الآن.  والحالة الثانية تبلور مشروع وطني متجدد، الذي بالضرورة سيكون مشروعاً مقاوماً، وبتعدد أشكال المقاومة، وسيشكل هذا الأرضية لإنهاء الانقسام باشتراك حماس مع القوى الوطنية في هذا المشروع الوطني المتجدد.

في الوضع الراهن القائم، لن يتعدى إنهاء الانقسام تقاسم الحصص في ظل الحكم الذاتي تحت الاحتلال، لا غير، سواء كان ذلك في السلطة أو في المنظمة.

ختاماً، أكرر أنه ضمن هذا الإطار الأعم، أرى أنه يجب النظر إلى الانتخابات، وما نريد منها، وما هي الأولويات الآن، وما هو المشروع الوطني المتجدد في غياب حل الدولتين.

  • قُدمت كورقة في ندوة المنبر التقدمي الفلسطيني الديمقراطي المستقل، رام الله، 19/7/2021.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *