الانتخابات الفلسطينية كممارسة للتفاهة

السلطات العربية، عندها قدرة هائلة على تفريغ الأشياء من معانيها، وتحويلها إلى قضايا شكلية بلا مضامين. وهذه تصبح أكثر سخرية وسخفًا في الحالة الفلسطينية. الانتخابات الفلسطينية المرتقبة هي المقصودة بهذا الكلام، هذا إذا جرت. تريد القوى التي اتفقت على إجراء هذه الانتخابات إقناعنا، أن القرار بإجراء انتخابات وفي هذه الظروف، هو منقذ للوضع الفلسطيني من عثراته الكثيرة، وممارسة للديمقراطية الفلسطينية. وكأن الديمقراطية هي صندوق اقتراع فحسب. نحن نعرف أن الديكتاتوريات في العالم العربي وأشباهه، قد فرَّغوا هذه الممارسة السياسية من أي معنى، باستخدام صندوق الاقتراع لانتخاب رجل واحد دون منافس، في احتلال هائل لسلطة الدكتاتور لكل الحقل السياسي، الذي يُفصله على مقاسه. في الحالة الفلسطينية، الموضوع أكثر تعقيدًا، لذلك الضرر أكبر، لأن الفلسطينيون يعانون من احتلالين، الاحتلال الإسرائيلي، القامع الرئيسي وسالب حقوق الشعب الفلسطيني، والمانع لممارسته الديمقراطية الحقيقية بممارساته الاستعمارية، التي تصلح الديمقراطية سلاحًا هائلًا، لمحاربة الاحتلال بها. وما يعطل استخدام هذه الوسيلة للنضال في مواجهة الاحتلال، وهي الممارسات السلطوية الاحتكارية والالغائية، لسلطتي الضفة الغربية وقطاع غزة، وممارساتهما القمعية للحفاظ على السلطة، بذلك بات الفلسطينيون يعانون من فائض سلطات قمعية على كاهلهم، إسرائيلية ومحلية.

الانتخابات في التجارب الديمقراطية، هي آلية لتجديد البنية السياسية والتشريعية لمؤسسات الدولة، من خلال عملية ديمقراطية، تعيشها هذه البلاد في حياتها اليومية، بحفظ حقوق الإنسان والحريات العامة، وعلى رأسها التعبير الحر والانتقاد والنقد للسلطة القائمة والمراقبة من مؤسسات أخرى في الدولة ومن المجتمع عبر حرية وسائل الإعلام، للحافظ على القيّم الديمقراطية والدفاع عنها على مدار الساعة. بمعنى أن الديمقراطية، هي وليدة الممارسات الديمقراطية اليومية، والتي تتوج بالانتخابات. وليست عملية معكوسة على ما نرى اليوم في التجربة الفلسطينية، سلطات مترهلة فقدت شرعيتها منذ زمن طويل، ولم تحرص على تجديدها، واستمرت تدير سلطاتها بحكم الأمر الواقع، وعبر ممارسات قمعية، وانتهاك مستمر ويومي لحقوق الإنسان. والآن، فجأة، سنتحول إلى سويسريين وسويديين، ونقوم بالعملية الانتخابية الديمقراطية. ومن المخزي، أن يصدر مرسوم تعزيز الحريات العامة، بمناسبة هذه الانتخابات، وكأننا لا نحتاج هذه الحريات سوى وقت الانتخابات، وقبل ذلك من المشروع انتهاك الحريات العامة. والنص على «حظر الملاحقة والاحتجاز والتوقيف والاعتقال وكافة أنواع المساءلة خارج أحكام القانون، لأسباب تتعلق بحرية الرأي والانتماء السياسي.» اعتراف بأن كل هذه الانتهاكات، كانت قائمة قبل قرار الانتخابات، وأنها ستقف خلال إجراء الانتخابات، وهذا مشكوك فيه. إن هذا الحظر يجب أن يكون ثابت يومي من ثوابت أي سلطة، وليس بحاجة إلى نص، إلا إذا أرادت أن تبرأ نفسها من سلوكيات قمعية قامت السلطتان بها في الضفة الغربية وقطاع غزة، يعرفها القاصي والداني.

تأمل الحالة الفلسطينية اليوم، يدفع إلى اليأس، الخراب هو العنوان الأساسي، القوى السياسة التي تحتل الساحة السياسية اليوم، كبيرها وصغيرها، هي عنوان المشكلة الفلسطينية، وليس عنوان للحل. فقدت هذه القوى مبرر وجودها الموضوع في مواجهة الاحتلال، والذي هو القضية الأساسية للتحرر الفلسطيني، والتعامل على أساس أن القرار الفلسطيني بإجراء الانتخابات هو قرار فلسطيني ذاتي وسيادي، هي صورة تدعو للسخرية، تغير التسميات في مراسيم تشريعية لا يغير في الواقع شيئًا، فأن يتم تغيير اسم رئيس السلطة إلى رئيس دولة فلسطين، لا يزيل ولا حاجز إسرائيلي في الضفة الغربية، ولا يوقف بناء أي حجر في المستوطنات، ولا يوقف جريمة حصار قطاع غزة.

لقد باتت القوى السياسية الفلسطينية، مشغولة بذاتها وبمكانها، أكثر مما مشغولة في مواجهة الاحتلال، وبهذا الانشغال عملت على احتجاز إي تطور فلسطيني، يمكن أن يشكل بارقة أمل في التعبير على المشروع الوطني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الذي لم يتوقف يومًا عن إعادة تكريس سلطته على الأراضي الفلسطينية والاستيلاء عليها. كل ذلك من أجل حماية سلطات الأمر الواقع ومصالحها وامتيازاتها وحتى ارتباطاتها الخارجية على حساب الوضع الفلسطيني، وتكريسًا للخراب الفلسطينية الذي باتت القوى الفلسطينية، وعلى رأسها القوتين التي تسيطران على الضفة الغربية وقطاع غزة جزءًا أساسيًا منه، وعنوانًا رئيسيًا له.

سواء جرت الانتخابات في موعدها، أم لم تجرِ، وأعتقد أنها لن تحصل، فهي لا تغيير شيئًا في الواقع الفلسطيني البالغ السوء، حتى أن هذه الانتخابات، لن تصلح لتجديد شرعية القيادة الفلسطينية الممسكة بالوضع اليوم، لأنها باحتكارها لهذا الإمساك وإنتاج سلطة قمعية، على شعب مقموع أصلًا من الاحتلال، جعلت من أي انتخابات تجديد شكلي، لا يقدم ولا يؤخر, لأن ما يجدّد الشرعية الوطنية اليوم ليس صندوق اقتراع شكلي يكرس المكرس, ما يجدّدها تجديد المشروع الوطني الفلسطيني المقاوم، وهذا التجديد يحتاج إلى دماء فلسطينية جديدة، وعقلية سياسية أخرى، وأداء سياسي مختلف، القيادة القائمة لا تملك الحد الأدنى منه. لقد أصبحت هذه القيادة بذاتها خطرًا على المشروع الوطني الفلسطيني المقاوم. وباتت مغادرتها ضرورة وطنية، ولن تستعيد بالانتخابات تاريخ قديم، لأن المقاومة ليست ماضي أو تاريخ، هي فعل وطني مقاوم ويومي. والانتخابات الموعودة لا تُحيي العظام وهي رميم. مهمتها تجدد هذا الخراب، الذي يريد تسويق نفسه عند الآخرين بوصفهم خيار الفلسطينيين الانتخابي. وإذا كانت هذه الانتخابات يمكن أن تسوق السلطة عند الدول المانحة والإدارة الأميركية الجديدة، فهي لا تصلح لتسويق هذه البضاعة الفاسدة في الداخل الفلسطيني. وحتى لن تصلح للإجابة عن أوهام حماس، بإمكانية فك الحصار عن قطاع غزة عبر هذا التجديد الشكلي.

الانتخابات تصلح لأن تكون أداة صراعية مع الاحتلال، لكن في شروط وواقع مختلف، شروط تطلق القدرات الكامنة للفلسطينيين في مواجهة عدوهم الأساسي، الاحتلال الإسرائيلي، ينظم صراعاتهم الداخلية، المحكومة بسقف الصراع مع الاحتلال، لا أن يكون الصراع الداخلي أهم من الصراع مع الاحتلال كما هو قائم. تجديد المشروع الوطني، بحاجة لكل طاقات المجتمع الفلسطيني، وليس قاصرًا على قوى سياسية عاجزة، ولا على نخب محدودة، إن معركة استعادة الحقوق الوطنية للفلسطينيين هي معركة الجميع وعلى الجميع أن يقرر فيها، لذلك، تبدو الانتخابات المقترحة عنواناً للتفاهة في الواقع الفلسطيني بالغ القسوة.

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *