الانتخابات الفلسطينية المقبلة: مجلس تشريعي أم مجلس وطني؟
بعد لقاءات ومشاورات عدة بين عدد من قيادات فصائل العمل الفلسطيني، يبدو أن هناك توجها لإجراء انتخابات مجلس تشريعي جديد وانتخابات رئاسية خلال ستة أشهر. هكذا اتفق الفصيلان الرئيسيان فتح وحماس في لقاء أخير تم في اسطنبول. هذا الحراك جاء في أعقاب انسلاخ دولتي الإمارات المتحدة والبحرين عن الموقف العربي الذي تم التوافق عليه في قمة بيروت عام 2002 على ركاكته، والذي نص على التطبيع بعد قيام الدولة الفلسطينية.
وبما أن قطار الانتقال للتحالف مع إسرائيل، وليس التطبيع، لأن التطبيع يكون بين دول متحاربة، سيتوقف في عواصم عربية أخرى لالتقاط مزيد من الركاب، شعرت القيادات الفلسطينية أن الانهيار العربي متواصل وأن الحاضنة العربية، على برودتها، في طريقها إلى التفتت. قد يبقى بلد أو بلدان أو ثلاثة دون انتقال للصف الإسرائيلي، فعلى القيادات الفلسطينية إذن أن تستعد لمرحلة لن تجد حولها أحد ولا بد إلا أن تعود لشعبها الذي أهملته وهمشته وحولته إلى جيش من الموظفين والأجهزة الأمنية بعد أن فككت منظمات المجتمع المدني وحولت النقابات والاتحادات إلى ديكورات لتأييد القائد وعطلت العملية الديمقراطية تماما، فلم يعد هناك تجديد لا على مستوى القيادات العليا للسلطة الوطنية أو لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية. كما جمدت انتخابات المجلسين التشريعي والوطني وبقيت الأمور تتآكل وتتقلص معها الشرعية الحقيقية للفصيلين الكبيرين، حتى وجدت السلطتان نفسيهما أمام استحقاق تاريخي في ظل الانهيار العربي الذي ظهر جليا في الاجتماع العادي للجامعة العربية يوم 9 ايلول/سبتمبر والذي فشل في إدانة اتفاقيتي الإمارات والبحرين مع إسرائيل بل ولم يتورع أحمد أبو الغيط عن تأييد صفقة القرن بناء على تعليمات من مديره وسيد نعمته عبد الفتاح السيسي.
أمام هذا المأزق الوجودي طرح الفصيلان الأساسيان مبادرة إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية خلال ستة أشهر من دون التشاور مع بقية الفصائل أو الاستماع إلى آلاف الأصوات والعرائض والبيانات والندوات التي تطالب بعقد انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني. وسنحاول التفريق بين المبادرتين. الأولى تتعلق بأزمة السلطتين، والثانية تتعلق بأزمة القضية الفلسطينية.
انتخابات المجلس التشريعي
تنبثق شرعية المجلس التشريعي من اتفاقية أوسلو. فبعد قيام السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة عقدت انتخابات المجلس التشريعي لأول مرة عام 1996 وفق أسلوب الدوائر الانتخابية. وقد قاطعت حركتا حماس والجهاد الانتخابات باعتبارها تجري تحت سقف أوسلو المرفوض من الفصيلين. وهيمنت حركة فتح على نتائج الانتخابات بشكل أساسي. كما جاءت الانتخابات الرئاسية مفصلة على مقاس ياسر عرفات حيث حصد نسبة 87 في المئة أمام المرشحة سميحة خليل التي اختارها بنفسه لاستكمال عملية الديكور.
أما الانتخابات الثانية التي جرت تحت سقف أوسلو أيضا فهي الانتخابات الرئاسية عام 2005 والانتخابات التشريعية عام 2006. فاز محمود عباس بنسبة 62 في المئة أمام منافسه القوي مصطفى البرغوثي الذي جمع نحو 32 في المئة من الأصوات. أما المجلس التشريعي الذي تم توسيعه لـ 120 مقعدا واعتمد صيغة الدوائر 50 في المئة والتمثيل النسبي 50 في المئة، فقد فازت فيها حركة حماس التي عادت ونقضت مواقفها السابقة من عدم العمل تحت سقف أوسلو. لقد كانت مشاركة القدس في المرتين ضئيلة جدا، حيث استخدام البريد للإدلاء بالأصوات، بعد أن عملت إسرائيل على تعطيل المشاركة المقدسية بكافة الوسائل.
انتخابات المجلس التشريعي التي بشرنا بها محمود عباس في خطابه أمام الجمعية العامة عام 2019 لم تكن جادة عندما قال إنه طلب من السلطات الإسرائيلية أن تأذن لأهل القدس بالمشاركة في الانتخابات وهو يعرف الجواب سلفا. ولذلك لم تجر الانتخابات ونكاد نجزم أن هذه الانتخابات أيضا ليست جادة وقد تنتهي مثل سوابقها وذلك لعدة أسباب:
– التلويح بالانتخابات عملية دعائية لتجديد شرعية متآكلة أصلا لدى الفصيلين وهي إن حدثت ستعيد إنتاج “نفس الخمرة في كأس جديد” كما يقول المثل الأمريكي.
– الانتخابات التشريعية تعني أن السلطة وحماس ما زالتا ملتزمتين باتفاقيات أوسلو وأن إعلان التحلل من الاتفاقيات السابقة غير صحيح، إذ من غير المنطق أن تتحلل السلطة الفلسطينية من شرعية تستند إليها ثم تعقد انتخابات تحت السقف نفسه الذي منحته تلك الشرعية.
– الانتخابات الشرعية تهرب من المطالبة الجماهيرية الواسعة بعقد انتخابات لمجلس وطني جديد يعيد الحياة لمنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت أولى ضحايا أوسلو.
– إن تمديد الفترة لمدة ستة أشهر لا يعني إلا انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية والمراهنة على فوز جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأمريكية والذي وعد بأن يعيد تمويل السلطة والأونروا وقد يجس نبض الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني للعودة للمفاوضات وهو ما سترحب به السلطة من دون شروط مسبقة وستدير ظهرها لحماس والفصائل جميعها.
– إذا عاد ترامب للحكم فقد تهرب السلطتان إلى الأمام بعقد تلك الانتخابات وتجديد شرعيتهما بدون أن يكون لديهما برنامج تصدي لصفقة القرن يأخذ بعين الاعتبار المقاومة الحقيقية على الأرض.
باختصار الانتخابات التشريعة قد تحل مأزق السلطة الفلسطينية وسلطة حماس مؤقتا إلا أنها لا تحل الأزمة الوجودية التي تمر بها القضية الفلسطينية بمجملها والتي تواجه خطر التصفية بعد انهيار الوضع العربي العام.
انتخابات مجلس وطني جديد
المطلوب الآن وبسرعة الخروج من هذا الوضع المزري والتوجه نحو فتح المجال الفعلي لانتخابات مجلس وطني جديد على أساس ميثاق منظمة التحرير لعام 1968 قبل تشويهه ليتساوق مع استحقاقات أوسلو وأهمها “التخلي عن العنف والإرهاب” كما نصت رسائل الاعتراف المتبادل بين رابين وعرفات الموقعة يوم 9 ايلول/سبتمبر 1993 قبل مهرجان البيت الأبيض.
– المجلس الوطني يشمل كل أبناء الشعب الفلسطيني في كل مكان وليس فقط سكان الضفة والقطاع.
– المجلس الوطني الفلسطيني يعتمد السردية التاريخية الأصلية التي تعتبر الاحتلال الصهيوني لفلسطين كل فلسطين باطلا من أساسه ولا يموت بالتقادم. يعتمد سردية حقيقية قائمة على أن فلسطين كل فلسطين أرض واحدة لا تتجزأ وأنها أرض محتلة من نهرها إلى بحرها من عدو استعماري استيطاني إحلالي تفريغي عنصري لا يقبل أنصاف الحلول ووجوده نفي لوجود الشعب الفلسطيني وما فتئ يعمل على الاستيلاء على مزيد من الأرض وتفريغ المزيد من السكان. وكما أن الأرض واحدة فالشعب الفلسطيني واحد ولا يقبل القسمة لا بالخطوط الخضر ولا الزرق ولا الهويات الزرقاء أو الخضراء ولا بالأسلاك الشائكة أو الجدران العنصرية ولا بمناطق السكن أو اللجوء أو المهاجر.
– المجلس الوطني الفلسطيني لا يقوم على المحاصصة الفصائلية بل يعتبر كل فلسطيني عضوا في منظمة التحرير الفلسطينية ومن حقه وحقها الترشح والانتخاب. إن توزيع المقاعد بإرادة الرئيس على الفصائل والمستقلين لم يعد مقبولا في ظل التكنولوجيا الحديثة التي تمكن جميع أبناء الشعب الفلسطيني من المشاركة بدون حواجز ومغافر وأجهزة أمنية.
– المجلس الوطني الفلسطيني الحالي ترهل كثيرا، فمن بين أعضائه الـ 714 لا تجد نصفهم في وضع يسمح لهم بممارسة العمل الجاد إما لموت أو خرف أو هرم. المجلس الوطني الجديد يجب ألا يتجاوز عدد أعضائه 350 عضوا، 150 من فلسطين التاريخية و 200 من بلاد اللجوء والشتات كي يكون فاعلا.
– المجلس الوطني الفلسطيني المنتخب يقوم باختيار لجنة تنفيذية جديدة تمثل الطيف الفلسطيني سياسيا وجغرافيا وجنسانيا وعمريا ولا يقتصر أعضاؤها على رجال في الثمانينيات من العمر. سبعون في المئة من الشعب الفلسطيني دون سن الثلاثين، فبأي حق لا يكون لهم أي تمثيل في أي مؤسسة فلسطينية تقوم على الانتخابات؟
المخرج من المأزق
المطلوب الآن إذن أن يعيد الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده تجديد حركة تحرره الوطني القائمة على النضال من أجل كل الأرض وإقامة دولة العدل والسلام والديمقراطية والتعددية والقانون دون نفي أو طرد أو استحواذ أو إقصاء لأحد من جميع المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات ودون تمييز قائم على العرق أو اللون أو الدين أو المذهب أو الجنس أو اللغة أو الموقع الاحتماعي. لقد أضاع الأوسلويون أكثر من ربع قرن وهم يعدوننا بدولة الوهم وتبين لهم الآن سراب الوعد بقيام الدولة المستقلة المترابطة القابلة للحياة وعاصمتها القدس الشريف. لم يعد هناك وقت نضيعه لدخول الجدل العقيم: دولة واحدة أم دولتان، المعروض علينا الاستسلام بالجملة أو الاستسلام بالتدرج. ليس أمامنا إلا النضال بكافة الوسائل المتاحة والممكنة والشرعية لتغيير موازين القوى وتحويل الاحتلال والعنصرية والحصار إلى مشروع باهظ الثمن ماديا ومعنويا واقتصاديا وأخلاقيا. والبداية تكون من انتخاب مجلس وطني جديد ينتخب لجنة تنفيذية مستعدة لحمل المشروع الوطني كما ثبته ميثاق منظمة التحرير لا كما شوهه الباحثون عن دولة الوهم.
القدس العربي