الاختراق الإسرائيلي للقارة الأفريقية من أبواب الأمم المتحدة


سيشهد القرن الواحد والعشرون صعود قوتين أساسيتين على مسرح القوى العالمية، الصين والقارة الأفريقية ممثلة بمنظمتها الإقليمية الاتحاد الافريقي. ليست هناك حاجة للتدليل على نهضة الصين الشاملة ووصولها إلى الموقع الثاني في سلم القوى الاقتصادية العالمية، وسيرها الواثق والمدروس نحو احتلال المركز الأول، ليس عام 2050 كما كان متوقعا، بل ربما بحلول عام 2030. أما القارة الأفريقية، السمراء منها على وجه الخصوص، فإنها تنهض بشكل شامل ومتكامل ولو بوتيرة بطيئة، بعد تبني الغالبية الساحقة منها النظام الديمقراطي القائم على تبادل السلطة وحرية الانتخابات والتعددية السياسة وسيادة القانون. ومن يشكك في هذا الكلام فلينظر إلى التنافس المحموم بين القوى الاقتصادية الكبرى على إقامة علاقات مميزة وواسعة، والعمل على استحواذ الأسواق الأفريقية، والتوصل إلى اتفاقيات تجارية وأمنية وزراعية وصناعية، وتنفيذ مشاريع بنى تحتية. فالتنافس ليس محصورا بين الولايات المتحدة وفرنسا، بل دخلت على الخط الصين وروسيا وتركيا وإسرائيل، كل واحدة تبحث عن أسواق ومناطق نفوذ.
لقد مضى الوقت الذي كانت تتعامل دول القارة الأفريقية مع العالم من خلال مواقفها المبدئية المتعلقة بتجارب مقارعة الاستعمار، ونظام الفصل العنصري وتجارة الرق ونهب الخيرات، بل تحولت الآن إلى اتباع سياسة المصالح، والاستفادة القصوى من التنافس الدولي بعيدا عن المبادئ والمواقف الثابتة.
تسللت إسرائيل عبر هذه الشقوق وتوغلت في القارة الأفريقية في الثلاثين سنة الماضية، مستغلة غياب العرب عن المشهد الدولي، حتى تكاد تخترق معظم إن لم يكن كل دول القارة الأفريقية. ولولا صمود جنوب أفريقيا في جنوب القارة، رغم اعترافها بإسرائيل، والجزائر في شمالها لتحققت شمولية الاختراق، بعد أن انضمت دول معروفة تاريخيا بتباعدها عن إسرائيل، لقافلة التطبيع وإقامة العلاقات وتوقيع الاتفاقيات مثل تشاد والسودان والمغرب.
الاختراق من مقر الأمم الأمم المتحدة
يوفر مقر الأمم المتحدة فرصة لكل دولة لديها قضية مهمة وحيوية أن تستخدم هذا المكان الفريد، الذي يضم في ثناياه وحوله ممثلون عن 193 دولة، إضافة إلى دولتين مراقبتين هما فلسطين والفاتيكان. المجال مفتوح لكل من يريد أن يجند أصدقاء أو يؤلف تحالفات أو يعزز علاقات أو يبني تجمعات. وقد استغلت المجموعة العربية، وهي في أوج قوتها بعد حرب 1973 هذا المنبر أحسن استغلال. فعملت مجتمعة على عزل إسرائيل وحرمانها من أي موقع أو منصب أو معاملة ح،سنة. فكان كلما يقف وزير أو سفير إسرائيلي ليتحدث من على منبر الجمعية العامة، كانت الوفود العربية وحلفاؤهم الكثيرون ينسحبون من القاعة، حتى تبدو وكأنها خالية. وفي تلك الفترة من سبعينيات القرن الماضي استطاعت المجموعة اعتماد قرارات تاريخية تتعلق بالحقوق الفلسطينية والعربية، وإدانة الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وأخطرها ذلك القرار الذي اعتمد عام 1975 والذي اعتبر «الصهيونية حركة عنصرية وشكلا من أشكال التمييز العنصري». لكن تلك المرحلة انتهت وأسدل عليها الستار منذ اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة عام 1979، وما لحقتها من حروب عربية عربية واختراقات إسرائيلية في الجسم العربي من أوسلو إلى وادي عربة إلى اتفاقيات إبراهيم. إسرائيل بدأت هجومها المضاد بعد أن ضمنت خروج مصر من الصف العربي المناهض للكيان الصهيوني، وتفرق العرب بعد احتلال العراق للكويت. وبدأت نتائج تلك الحملة تظهر بإلغاء ذلك القرار عام 1991، وغياب عدد من الدول العربية عن التصويت يومها، لأنهم لم يتجرؤوا أن يصوتوا ضد القرار الذي تبنته الولايات المتحدة وقدمه الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب بنفسه للتصويت العلني.
وقد ساعد إسرائيل انهيار مجموعة الدول الاشتراكية، فوجدت لها حلفاء جددا في دول أوروبا الشرقية، الذين تأكدوا أن الطريق إلى قلب واشنطن يمر بالحضن الإسرائيلي. وما لبث عقد الدول الأفريقية أن بدأ ينفرط هو الآخر، وانضمت دول للترويج للكيان الصهيوني وتعويمه في القارة مثل كينيا ورواندا وأوغندا والكاميرون وبينين وغانا وإثيوبيا وإريتريا. كما ساعد إسرائيل ضمها رسميا عام 2000 إلى مجموعة «دول أوروبا الغربية ودول أخرى» فأصبح لها انتماء جغرافي يحق لها أن ترشح للمناصب باسم تلك المجموعة، ومن هنا انتخبت للجنة الرابعة المعنية بتصفية الاستعمار واللجنة القانونية، ولجنة الفضاء الخارجي، كما أصبح انتخابها سنويا لمنصب نائب رئيس الجمعية العامة أمرا سهلا، بل إن دولا عربية صوتت لصالح المرشح الإسرائيلي في أكثر من مناسبة. وفي الوقت الذي أصبحت إسرائيل تحقق العديد من الاختراقات، تراجعت قوة العرب وهيبتهم وتأثيرهم، لدرجة أن التصويت على مشروع قرار في الجمعية العامة، تقدمت به سفيرة أمريكا السابقة نيكي هيلي عام 2018 لإدانة حركة حماس واعتبارها حركة إرهابية لم يفشل إلا بصوتين اثنين، ولأن التوصيت كان بغالبية الثلثين.
التقرب من الوفود الأفريقية
عرف ممثلو إسرائيل كيف يستغلون منبر الأمم المتحدة، وبعد أن كانت إسرائيل تعاني من عزلة خانقة عملت هجوما معاكسا لجلب الأفارقة ودول أوروبا الشرقية ودول أمريكا اللاتينية إلى صفها، أو على الأقل لإبعادهم عن تأييد فلسطين والوقوف على الحياد. لقد استخدام السفراء الإسرائيليون موقعهم في الأمم المتحدة لتمتين التقارب مع السفراء الأفارقة وعددهم 54 سفيرا، كانوا في غالبيتهم الساحقة يقفون إلى جانب الحق الفلسطيني ككتلة منيعة عيية على التفكك. لكن الأمور تغيرت كثيرا والتصويت مع فلسطين لم يعد آليا ومستمرا، بل متقطعا ومثيرا أحيانا للدهشة. لقد أقام سفراء الكيان أقوى العلاقات معهم، وعرضوا عليهم مجموعة من الحوافز والمشاريع والدعوات المغرية لتمتين تلك العلاقات وإبعادهم عن الفلسطينيين وقضيتهم العادلة. فقد نظم السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، يوم 9 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي دعوة للسفراء الأفارقة للقاء سيفان يعار صاحب مبادرة إسرائيلية «إنسانية» لمد يد العون للقارة الأفريقية، يهدف لربط 2000 قرية أفريقية في شبكة مياه نظيفة، ومصادر طاقة نظيفة متجددة. وقد لبى الدعوة 25 سفيرا أفريقيا بما يعادل نصف دول القارة جنوب الصحراء. من بينهم سفير كينيا عضو مجلس الأمن الحالي وسفير غانا عضو مجلس المنتخب للسنتين المقبلتين 2022-2023 الذي سيحل محل سفير كينيا. وأشار السفير إردان إلى أن هذه المبادرة تهدف إلى تعزيز التقارب بين إسرائيل والقارة الأفريقية من جهة، وحشد الجهود لتثبيت إسرائيل عضوا مراقبا في الاتحاد الأفريقي، بناء على قرار رئيس مفوضية الاتحاد التشادي، موسى فقي محمد في شهر تموز/يوليو الماضي. وقال السفير إردان في كلمة أمام السفراء الأفارقة: «الروح والطاقة الإبداعية نفسها التي جعلت من إسرائيل دولة ناشئة هي التي جعلت من أفريقيا قارة المستقبل. تستثمر إسرائيل باستمرار في توسيع علاقاتنا وإقامة علاقات جديدة مع تشاد والمغرب والسودان، وفتح سفارات وتجارة جديدة. ويعمل الإسرائيليون والأفارقة معا في عدد لا يحصى من المشاريع ونقوم بإنشاء مراكز زراعية، وبناء مراكز طبية، وتمكين المزارعين، والحفاظ على البيئة». كما أرسل السفير إردان نفسه وفدا مكونا من عشرة سفراء إلى الكيان يوم 15 يوليو الماضي بعد معركة «سيف القدس» في زيارة استطلاعية من بينهم سفراء أفارقة. وقال السفير إردان للوفد: «لا يوجد شيء أقوى من البصر. زيارة إسرائيل تكشف الحقيقة وتترك بصمة على كل من يأتي إلى هنا. لقد حددت هدفا لنفسي هو إحضار أكبر عدد ممكن من السفراء إلى إسرائيل لدى الولايات المتحدة والأمم المتحدة من أجل تعزيز مكانتنا في العالم». وقد بدأ هذا النوع من النشاط السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، داني دانون، الذي نظم عددا من الرحلات إلى الكيان، حيث بلغ عدد السفراء الذين دعاهم لزيارة إسرائيل أكثر من 60 سفيرا ما يعدل تقريبا ثلث الدول الأعضاء. لقد اتخذت إسرائيل قرارا استراتيجيا بزيادة حضورها في القارة، وتطوير علاقاتها مع دولها. فقد قام نتنياهو بأربع زيارات للقارة بين عام 2016 و2020 كان آخرها في شباط/فبراير 2020 عندما التقى باللواء السوداني عبد الفتاح البرهان تحضيرا للتطبيع.
ولإسرائيل الآن علاقات مع 46 دولة أفريقية من مجموع 54 وهناك 10 سفارات إسرائيلية رئيسية في كل من جنوب أفريقيا، وكينيا، ونيجيريا، والكاميرون، وأنغولا، وإثيوبيا، وإريتريا، وغانا، وساحل العاج. وتقدم إسرائيل الأسلحة والأجهزة التكنولوجية المتطورة لعدد من الجيوش الأفريقية وتشرف على تدريبهم مثل، إثيوبيا وإريتريا ورواندا وكينيا وغيرها. الأفارقة يحاججون قائلين: لماذا تريدون أن نكون ملكيين أكثر من الملك؟ ألم تعترف بعض الدول العربية بإسرائيل قبلنا؟ ثم انظروا إلى قافلة الدول العربية التي طبعت مع إسرائيل، أو تقف في المحطات بانتظار وصول قطار التطبيع لحملها إلى تل أبيب. فلماذا تلوماننا؟ سؤال ليس له جواب.
عن القدس العربي