الإعلام الإسرائيلي وحرب الإبادة: الإخفاء والتحريض ونزع الإنسانية

لطالما لعب الإعلام دوراً مركزياً في الحروب بشكل عام، وخصوصاً في تعبئة الرأي العام الداخلي وتجنيده لخدمة أهداف الحرب. وهناك الكثير من الأمثلة عبر العصور على هذا الدور في صوغ الرواية الداخلية والخارجية على حد سواء. هذا حين الحديث عن الحروب، أما في حالتنا فالأمر ليس حرباً عادية بل حرب إبادة، ودور الإعلام في الإبادة يتعدى الدور التقليدي الذي يلعبه الإعلام عادة أثناء الحرب أو الاستقطاب. فالإبادة، كما تعرفنا عليها وما يحصل في قطاع غزة بالبث الحي والمباشر، تحتاج إلى مفردات وآليات وخطاب مختلف ينزع الإنسانية كلياً، وتختلف عن تلك المستعملة في الحروب التقليدية. الهدف هنا ليس تغيير نظام أو إسقاطه، إنما إبادة شعب وطموحات قومية وصولاً إلى إزالته كلياً بالمفهوم المادي الحرفي — وهو ما بيضه الإعلام الإسرائيلي على شاشات التلفاز وفي الصحف من خلال تحويل قضية تهجير الفلسطينيين إلى موضوع نقاش “شرعي” يمكن أن يناقش في الاستوديوهات بكل أريحية، على سبيل المثال لا الحصر.

تقدم هذه الورقة قراءة في التحريض الإعلامي الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وبالأخص على الإبادة في قطاع غزة، والدور الذي لعبته وسائل الإعلام المركزية — الـ«Mainstream» — في هذه الحرب. وسيتوزع الحديث عن دور الإعلام في إسرائيل على ثلاثة محاور أساسية: التحريض على الإبادة عبر نزع الإنسانية وبث مضامين تشير إلى استحالة وجود حل سياسي؛ إخفاء المعاناة الفلسطينية في قطاع غزة مقابل إعادة تكرار مشاهد 7 تشرين الأول/أكتوبر للتحريض على استمرار الحرب؛ التحريض على الإعلاميين الفلسطينيين وتبني رواية الجيش إلى درجة باتت فيها رواية الدولة والمؤسسة العسكرية ورواية الإعلام رواية واحدة — على الرغم من أن الإعلام الرئيسي في إسرائيل هو إعلام خاص لا يتبع للدولة. ومن المهم الإشارة منذ البداية إلى أن دور الإعلام في إسرائيل لم يكن بسيطاً، فجسامة دوره لا تقل خطورة — بل يمكن إيجاد خط يربط بين تجربة “راديو وتلفزيون التلال الألف الحرة — RTLM”[1] التي حرضت على الإبادة في رواندا، والتي حوكم مسؤولوها بتهمة التحريض على الإبادة الجماعية، وتجربة الإعلام في إسرائيل وحرب الإبادة في قطاع غزة، وخصوصاً القناتين “12” و”14″. لذلك، لن ترصد هذه الورقة كل أشكال التحريض الإعلامي لاعتبارات المساحة المخصصة للكتابة، لكنها ستسجل أبرز اتجاهات هذا التحريض.

يلعب الإعلام دوراً مركزياً في رسم حدود المقبول وغير المقبول من الخطاب في المجال العام، سواء من خلال طرحه للنقاش أو امتناعه عنه ونبذه. فما يناقَش في الاستوديوهات بطبيعية وأريحية، يناقَش أيضاً في الصالونات والشارع وبين الرأي العام، وخصوصاً أننا نتحدث هنا — في إسرائيل — عن إعلام يمتلك قوة تأثير كبيرة ازدادت بشكل لافت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر. وتشير الاستطلاعات إلى أن الإسرائيليين اتجهوا إلى الإعلام التقليدي بوصفه مركز المعلومات الأساسي، إذ إن 75٪ من المجتمع اليهودي يعتبر التلفاز مصدر الأخبار الأول، كما ارتفعت نسبة الذين يخصصون نحو ساعتين يومياً لمتابعة الأخبار من 15.67٪ قبل الحرب إلى 63.75٪ بعدها، في حين انخفضت نسبة من كانوا يخصصون أقل من ساعة يومياً من 64٪ قبل الحرب إلى 29٪ بعدها.[2] وهذا لا يقتصر على وسيلة إعلامية واحدة، بل يشير إلى ارتفاع عام في استهلاك الجمهور للإعلام، إلاّ إن أكثر المستفيدين من هذا الارتفاع هما “القناة 12″ — الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشاراً في إسرائيل — و”القناة 14” المعروفة بانتمائها إلى اليمين المتطرف.

إعلام “مستقل” عن السياسة… وملتزم بالأيديولوجيا

يعمل الإعلام الإسرائيلي في سياق مختلف عن أي سياق آخر، وذلك بسبب النموذج الفريد للدولة التي يعمل ضمنها. فهي من جهة دولة تمتلك مؤسسات، ولا يزال فيها فصل للسلطات ومنظومة قضائية غير خاضعة بعد — مع التشديد على كلمة “بعد” — للحكومة والنخبة السياسية، مع ضرورة الإشارة إلى أنها تشكل جزءاً لا يتجزأ من منظومة السيطرة الصهيونية. ومن جهة أُخرى، يعيش هذا كله تحت مظلة الإجماع الصهيوني بوصفه مشروعاً استعمارياً غير مكتمل بعد ولا يزال نشطاً.

وبين منطق “الدولة” — أي المؤسسات والحكم — ومنطق “المشروع” حيث تسكت القوانين لإدامة السيطرة على الفلسطينيين واحتلالهم، يتأرجح الإعلام الإسرائيلي: فهو فتاك داخلياً في قضايا الفساد ونزاهة الحكم والدفاع عن المؤسسات، لكنه ملتزم كلياً بالأيديولوجيا الموجهة ضد الفلسطينيين. فتجده يتبنى الرواية الرسمية بإخلاص مطلق، ويظهر ولاءً تاماً لمبدأ “يهودية الدولة” ورفض أي رواية تتحدى هذا المبدأ، على الرغم من الخلافات حول شخص رئيس الحكومة أو تركيبة السلطة أو توازنها. لتبدو الخلافات داخل هذا الإعلام كأنها خلافات حول مصلحة المشروع الصهيوني، لا حوله بحد ذاته.

وتاريخياً، كانت اللحظات المفصلية في تاريخ الإعلام الإسرائيلي هي نفسها اللحظات المفصلية في تطور المشروع الصهيوني، وقد أثرت في الاقتصاد والقضاء والجيش، وكان الإعلام جزءاً منها: بدءاً من مرحلة ما قبل تأسيس الدولة حين بدأت المؤسسات الإعلامية بالتكون تحضيراً لها، مروراً بمرحلة التأسيس، وهزيمة عام 1973، والانتفاضتين، واتفاق أوسلو، وصولاً إلى 7 أكتوبر — إذ مثلت كل واحدة من هذه المراحل تحولاً تاريخياً في بنية الإعلام وخطابه وروايته وموقعه.[3]

لا شك في أن 7 أكتوبر كان حدثاً تاريخياً ذا تأثير على إسرائيل والعالم والإقليم. وفي هذا السياق تشير ورقة صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي — وتعتبر أول مراجعة داخلية وذاتية لأداء الإعلام في إسرائيل خلال الحرب تنشر علناً، وهي نتاج لقاء مغلق جمع المعهد فيه كبار الإعلاميين والمحررين الإسرائيليين — إلى أمرين: الأول أن 7 أكتوبر كان حدثاً تاريخياً واستثنائياً بالنسبة إلى الإعلام في إسرائيل، والثاني أن الإعلام، مباشرة بعد الهجوم، “تحول في إسرائيل إلى جزء لا يتجزأ من آلة الحرب الإسرائيلية.” وتسرد هذه الورقة هذا التحول في ثلاثة أبعاد: أولاً، عدم نقل صور الكارثة الإنسانية في قطاع غزة إلى المجتمع الإسرائيلي، وهو ما كان من شأنه أن يضر بتجند الرأي العام؛ ثانياً، قيادة خطاب توحيدي في المجتمع الإسرائيلي للتعبئة الداخلية؛ ثالثاً، التبني الكامل للرواية الرسمية والعسكرية من دون أي انتقادات، ومن ضمن ذلك تبني مصطلحات مثل “النازية — داعش” لوصف حركة “حماس” وكل من يدعمها. حتى إن إحدى المحررات في إحدى وسائل الإعلام المركزية قالت خلال اللقاء إن “القناة تجندت للحرب منذ اليوم الأول، واتخذت قراراً واعياً بأن تكون منبراً للمتحدث باسم الجيش من دون أي تحرير، وأن تخفي عن المجتمع ما يحصل في غزة، وألاّ توجه انتقادات حادة إلى قيادات الجيش وضباطه بهدف دعم الجنود في الجبهة.”[4]

وفي هذا السياق من المهم الإشارة إلى نقطتين مركزيتين: الأولى أن عملية الإخفاء التي قام بها الإعلام للمأساة في غزة لا تعفي المجتمع الإسرائيلي من دعمه لحرب الإبادة، إذ يقول الإعلاميون أنفسهم إن ذلك جاء لعدم استفزاز مشاعر الجمهور عبر نقل صور مؤلمة من غزة. وانتشر مؤخراً استطلاع رأي يفيد بأن 64٪ من الجمهور في إسرائيل يرى أنه لا حاجة إلى تغطية أخبار سكان القطاع ومعاناتهم.[5] والثانية أن هذا الإخفاء رافقه إعادة تكرار دائم لما حصل يوم 7 أكتوبر، إلى درجة أن الإعلام في إسرائيل حافظ على شعور صباح السابع من أكتوبر لدى الإسرائيليين لأكثر من عام. المزيج بين الأمرين جدد الرغبة في الانتقام يومياً، من دون نقل أي صور من غزة يمكن أن تثير تساؤلات حول سير هذه العملية “الانتقامية”.

ومن الجدير بالذكر التوضيح منذ البداية أن خريطة الإعلام في إسرائيل متشعبة. فهناك إعلام بديل مثل موقع ״سيحا ميكوميت״ الذي نشر العديد من التقارير التي كشفت عن جرائم حرب في قطاع غزة وانتقد بشدة الرواية الرسمية، ومواقع أُخرى مثل “المكان الأكثر سخونة في الجحيم” و”العين السابعة” المختصة بنقد الإعلام. ويمكن الإشارة إلى صحيفة “هآرتس” بوصفها صوتاً يسارياً نقدياً؛ فقد غيرت خطابها مع مرور الوقت وطالبت بوقف الحرب ونقلت معاناة سكان القطاع، إلاّ إنها التزمت بالخط العام التحريضي طيلة النصف الأول من الحرب. وهناك أيضاً ما تسميه هذه الورقة “الإعلام المركزي” وهو الإعلام المؤثر، وتتصدره “القناة 12” إلى جانب “القناة 13” وهيئة البث، والأبرز “القناة 14” التي كانت قناة اليمين المتطرف وحرضت بشكل فج أكثر من أي قناة أُخرى، حتى إنها ذهبت أبعد من ذلك ونشرت أعداد الشهداء في قطاع غزة — ومن ضمنهم الأطفال — ووصفتهم جميعاً بأنهم “مخربون قتلوا.”[6]

في الموازاة: نزع للإنسانية وتطبيع للجريمة

يمكن الإشارة إلى ثلاث مميزات انتشرت في الإعلام الإسرائيلي خلال حرب الإبادة ونزعت الإنسانية عن الفلسطينيين: الأولى استعمال مصطلح “حيوانات بشرية” الذي أطلقه وزير الأمن السابق يوآف غالانت، لكنه انتشر على نطاق واسع فتبنته وسائل الإعلام والإعلاميون وتكرر تداوله؛ الثانية هي “نزع الإنسانية عبر التجاهل”[7] — إذ تجاهل الإعلام الإسرائيلي، وخصوصاً خلال الأشهر الأولى حتى في العام الأول للحرب، كل ما يحصل من مآسٍ إنسانية في قطاع غزة، وحتى عندما نشر صوراً للهدم والقصف، كانت صوراً بعيدة لا تظهر المعاناة الإنسانية لسكان القطاع أو نتائج هذا القصف. وفي سياق التجاهل، من المهم القول إن الإعلام الإسرائيلي كان يذكر عدد الشهداء في قطاع غزة ويصفه في كل مرة بأنه “بحسب وزارة الصحة التابعة لحماس” — وهو ما ينزع الشرعية عن الرقم، وخصوصاً بعد عملية الشيطنة الواسعة والتشبيه بالنازية و”داعش”.[8] هذا ما اتبعته جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية، ومنها صحيفة “هآرتس” التي تعتبر على “يسار” الخريطة الإعلامية الإسرائيلية، لكنها غيرت تغطيتها لاحقاً مع الإشارة إلى أنها في النصف الأول من الحرب تبنت خطاً عدوانياً وتحريضياً ولم تنشر أي دعوة إلى وقف الحرب إلاّ بعد مرور نصف عام على بدئها، وبشكل خاص بعد بدء قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا أمام محكمة الجنايات الدولية.

هذا بالإضافة إلى التشبيه الواسع الذي هيمن على الإعلام وكان استمراراً لخطاب النخبة السياسية — بالتشبيه بالنازية — وأيضاً انتشار مقولة “لا يوجد أبرياء” في القطاع، وهو ما انتشر بشكل واسع جداً بين الصحافيين الإسرائيليين والضيوف من سياسيين وخبراء. كما شهد الإعلام تهديدات مباشرة، أبرزها تهديد الصحافي شاي غولدن في “القناة 14″، الذي قال للعرب: “أريد أن أعلمكم بأننا قادمون، ستشاهدون أرقام قتلى لم تشهدوها سابقاً في تاريخ الأمة العربية، قتل ومجازر لم تتخيلوها حتى.” وترافق ذلك مع مشاعر الكراهية والحقد التي رافقت التغطية الإعلامية، كما حصل مثلاً خلال تغطية صفقة التبادل وعودة الغزيين إلى شمال القطاع، وتعليق الإعلام المركزي على فرح الفلسطينيين، حيث تمنى داني كوشمارو — من أبرز الإعلاميين الإسرائيليين ومقدم برنامج “استوديو الجمعة” ونشرة الأخبار المركزية — أن “يختنقوا بالبقلاوة التي يأكلونها”، ووصفهم المحرر والكاتب في صحيفة “هآرتس” حاييم ليفنسون بأنهم “عصارة القمامة”.

وبموازاة ذلك، هيمن على الإعلام المركزي في إسرائيل، وبشكل خاص “القناة 12” و”القناة 14″، خطاب سياسي يعتبر أن 7 أكتوبر شكل لحظة نضوج سياسي وفهماً بأن لا حل مع الفلسطينيين. وقد أدى هذا الخطاب إلى فتح النقاش حول تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة بأريحية، على اعتبار أنه أحد “الحلول” التي يمكن أن يصل إليها المحاور أو الصحافي أو حتى الضيف بتسلسل منطقي، حتى بات نقاش طرد الفلسطينيين أمراً عادياً على شاشات التلفاز. المثال الأبرز على ذلك كان التقرير الذي أعده مراسل “القناة 12” أوهاد حامو، إذ قال خلاله: “أنا أيضاً تغيرت بعد 7 أكتوبر، لم أعد أؤمن بأي مستقبل”، ثم تساءل: “هل الحل هو فتح الباب ودفعهم إلى الخارج؟”[9] غير أن هذا المثال ليس سوى واحد من عشرات المقالات والخطابات الإعلامية التي ناقشت “الهجرة” بوصفها خياراً من بين الخيارات الممكنة، ما جعل الإعلام الإسرائيلي يطبع نقاش التطهير العرقي ويشرعنه في المجال العام.

وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى أن الإعلام في إسرائيل لعب دوراً مركزياً في تطبيع العمل العسكري في قطاع غزة، بدءاً من التفاخر به كما حصل في “القناة 14” التي كانت تستضيف الجنود، واستضافت في إحدى المرات حاخاماً كان يتفاخر بعدد المنازل التي هدمها في القطاع، ويروي برومانسية كيف كان يعزف على الجرافة وهو يعدّ المنازل التي يهدمها وسط تصفيق الجمهور في الاستوديو. أمّا صحيفة “هآرتس”، فقد نشرت تقريراً مطولاً في ملحقها عن “المطبخ الجديد” والأطعمة والتوابل التي يطبخها الجنود باستخدام المواد المتوفرة في مطابخ الفلسطينيين داخل المنازل التي يحتلونها ويحولونها إلى ثكنات عسكرية بعد طرد سكانها — وكأن وجود الجندي في مطبخ الفلسطيني، واستعماله مكوناته بعد طرده إلى الخيمة، أمر مثير لتطور المطبخ![10]

التحريض على الإعلاميين الفلسطينيين

استشهد حتى تاريخ كتابة هذه الورقة 254 صحافياً فلسطينياً في قطاع غزة منذ 7 تشرين أكتوبر. هذا العدد الهائل من الشهداء الصحافيين غير مسبوق في تاريخ الحروب، ويفوق بأضعاف عدد الصحافيين الذين قتلوا خلال الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال. والسؤال في هذا السياق: ما هو دور الإعلام والإعلاميين الإسرائيليين؟ إذ إن قتل هذا العدد من الصحافيين يحتاج إلى منظومة تبرر وتنتج الرواية، وكان الإعلام والإعلاميون في إسرائيل سباقين على صعيدين: أولاً، على صعيد التحريض الفعلي المباشر ضدهم؛ ثانياً، على صعيد تبني الرواية العسكرية والرسمية الإسرائيلية وتكرارها باعتبارها حقيقة، وإعادة ترويجها على هذا الأساس.

والمثير للاهتمام أن أول حملة تحريض واسعة على الصحافيين في قطاع غزة بدأت من الصحافي الأكثر تأثيراً في إسرائيل، عاميت سيغال، الذي حول تساؤلات وردت في تقرير نشره موقع هامشي إسرائيلي يعمل في مجال «الهاسبارا» ومجموعات الضغط الإسرائيلية — ويعرف باسم Honest Reporting، وهو موقع مختص بمراقبة المحتوى غير الداعم لإسرائيل — إلى “حقائق” بنى عليها حملة تحريض واسعة استمرت لأيام، وقادت إلى تهديدات من قبل السياسيين وتهديدات مباشرة للصحافيين.[11]

طرح “التحقيق” تساؤلات حول ما إذا كان المصورون الفلسطينيون على علم مسبق بهجوم 7 أكتوبر، وذلك لأنهم تواجدوا في المنطقة أثناء الهجوم، من دون أي دليل أو فهم للسياق أو لإمكانية نشاط الصحافي الذي وصل إلى السياج ودخل إلى الغلاف لأن السياج كان مخترقاً. فبدأ سيغال يعيد ترويج هذه التساؤلات باقتباسات تحريضية، كان من أبرزها تغريدة وصف فيها التقرير بأنه “خيانة الصحافة الكبرى”، مضيفاً: “يا للعار، وسائل الإعلام الكبرى التي كبرنا عليها تشغل مخربين نازيين.” وبذلك حوّل سيغال، بداية، التساؤلات الصادرة من موقعٍ يعدُّ جزءاً من منظومة الهاسبارا الإسرائيلية إلى حقائق، وحرّض عملياً على اغتيال الصحافيين بعدما وصفهم بـ”المخربين” و”النازيين”. ولم تكن حملة سيغال — الذي يتابعه الملايين — بلا أثر، إذ بدأ الساسة الإسرائيليون بتهديد المصورين وإيصال رسالة مفادها بأن حكمهم وحكم “المخربين” واحد، أي ما يعني الاغتيال أو اعتبارهم شركاء في جرائم حرب، كما قال بنيامين نتنياهو.

ومن أبرز هؤلاء الصحافيين كان حسن أصليح، الذي اغتالته لاحقاً قوات الاحتلال، ونشرت وسائل الإعلام خبر اغتياله بعد أن وضعت كلمة “صحافي” بين قوسين، معلنة: “تم اغتيال الصحافي الذي صور يوم الـ7 من أكتوبر من داخل غلاف غزة.” وكأن التصوير والدخول إلى مناطق الاشتباكات يستحقان الاغتيال، على الرغم من أن صحافيين إسرائيليين يدخلون مع الدبابة إلى قطاع غزة، ومن بينهم سيغال ذاته الذي دخل في جيب عسكري، وآخر تفاخر بأنه قصف منزلاً من داخل دبابة في القطاع.

الحالة الثانية البارزة كانت اغتيال مراسل قناة “الجزيرة” أنس الشريف، والذي جاء بعد حملة تحريضية إسرائيلية قادها الجيش اتهمته فيها بكونه ناشطاً في حركة “حماس”. وبما أن الشريف كان معروفاً وقد حرض عليه الجيش كثيراً قبل اغتياله، فقد أدى هذا الاغتيال إلى موجة من الردود في الإعلام، بدأت حين أعلنت مذيعة “القناة 12” دفنا ليئيل الخبر قائلة: “وبهذه المناسبة السعيدة”. أمّا سيغال، فكتب: “العالم مكان أفضل الآن؛ لقد انتظرت هذا الخبر كثيراً، أكثر مما ينبغي”، مردداً بذلك رواية الجيش بأن الشريف “مخرب في حركة حماس”. وهذا يعني أن سيغال لم يكتفِ بالمباركة على اغتيال صحافي فحسب، بل اعتبر أن هذا الاغتيال تأخر وكان ينبغي أن يحدث سابقاً.

وفي حالة الشريف صدر أيضاً تحريض من نوع مختلف عن التحريض التقليدي المبني على تبني رواية الجيش، فقد قال الصحافي تسفي يحيزكيلي: “إذا قررت إسرائيل اغتيال الصحافيين، فهذا جيد على الرغم من أنه متأخر. هؤلاء مخربون يختبئون في المستشفيات ويفتتحون غرف حرب من هناك ويبثون للعالم صورة مقلوبة كلياً. هؤلاء هم صحافيو النخبة. لذلك من الجيد أن إسرائيل اغتالتهم وأعتقد أن هذا قد جاء متأخراً، ولا يزال هناك الكثير منهم وهم يضرون بإسرائيل كثيراً على صعيد الصورة وفي المعركة على الوعي” — أي أنه يدعو صراحة إلى اغتيالهم بسبب دورهم في المعركة على الصورة والوعي. وتجدر الإشارة إلى أن يحيزكيلي كان من أبرز الصحافيين الذين حرضوا ضد قطاع غزة عموماً، فقد صرح سابقاً بعد هجوم 7 أكتوبر بأن على إسرائيل قتل مئات آلاف الفلسطينيين.

ومن الجدير بالذكر أن غالبية وسائل الإعلام المركزي في إسرائيل نشرت خبر الاغتيال ووضعت في العنوان رواية الجيش، ما يضع الخبر في سياقه الرسمي؛ موقع “واينت” مثلاً نشر خبراً بعنوان: “الجيش يقتل الصحافيين”: الانتقادات في العالم على اغتيال “المخرب — المخرب”، وفي نص الخبر لم يضع كلمة “المخرب” حتى بين قوسين.[12] أمّا صحيفة “إسرائيل اليوم” فنشرت الخبر بعنوان: “مخرب بغطاء صحافي: الجيش يصدق على اغتيال أنس الشريف” من دون الأقواس الاعتيادية التي تدل على نسبية الادعاء، بل تبنت الصحيفة الخبر على أنه حقيقة ونشرت “الوثائق” التي ادعى الجيش أنه حصل عليها من داخل قطاع غزة والتي تفيد بأن الشريف كان ناشطاً في الذراع العسكري لحركة “حماس”.[13]

المتحدث باسم الجيش: الضيف الدائم

في كل وسيلة إعلام إسرائيلية مركزية يوجد مراسل عسكري، وغالباً ما يكون على علاقة وثيقة بالمستوى العسكري، فيقدم رواية الجيش ويدافع عنها خلال البث الإعلامي. وبالإضافة إلى ذلك، خصص الإعلام المركزي المتلفز في إسرائيل مساحة واسعة لبيانات المتحدث باسم الجيش، ونقلها بالبث المباشر كاملة من دون أي انتقادات أو تعليقات تشكك في الرواية التي يقدمها. حتى إن المتحدث الرسمي باسم الجيش حصل على أعلى درجة ثقة من قبل الجمهور، إذ أشار استطلاع للرأي إلى أن 73.7٪ من الجمهور في إسرائيل يعتبر المتحدث باسم الجيش المصدر الأكثر موثوقية للمعلومات المتعلقة بالحرب.[14]

ولمدة عام كامل، كان المتحدث الرسمي باسم الجيش يعقد مؤتمراً صحافياً كل مساء، تنقله وسائل الإعلام بالبث المباشر، ما جعل شاشات التلفاز في إسرائيل ذات لون واحد، تكرر وتروج لرسائل الجيش، بما في ذلك الروايات التحريضية عن المستشفيات، مثلما فعل حين عرض صوراً مزعومة لقواعد عسكرية تحت المستشفيات، لم يُكشف منها شيء لاحقاً كما في حالة مستشفى الشفاء.

وذهبت “القناة 14” إلى أبعد من ذلك، إذ منحت منصة للجندي المتهم بارتكاب أفعال مشينة بحق الأسرى الفلسطينيين في سجن “سدي تيمان” ليعرض روايته ويبرر أفعاله. كذلك، خلال الحرب، كان الإعلاميون يشيرون عند نشر أي خبر إلى أنه “حصل على موافقة الرقابة العسكرية قبل النشر.” كما كان هناك حضور دائم لضابط من جهاز الرقابة العسكرية داخل استوديوهات الأخبار لمراقبة ما يقال وينشر في البث المباشر، ما جعل الإعلام الإسرائيلي في حالة اصطفاف كامل مع المؤسسة العسكرية، خاضعاً عملياً لرقابتها المباشرة.

لعب الإعلام الإسرائيلي دوراً مركزياً في كل جانب من جوانب الإبادة: رص الصفوف وبناء الرأي العام الداعم؛ إخفاء الجانب الإنساني لنتائج هذه الحرب وعدم نقله كلياً؛ الترويج للخدمة العسكرية والتغطية الإيجابية المستمرة للبعد العسكري؛ التحريض على الفلسطينيين واعتبارهم — في أحسن الأحوال — “أعراضاً جانبية” لا يستحقون الحياة في حالات التحريض الواسع؛ تبني رواية موحدة عسكرية-إعلامية أصبحت مهيمنة، وتحويل وسائط الإعلام إلى منابر للقيادات العسكرية. عموماً، يمكن العثور على هذه الجوانب مجتمعة — مع اختلاف بعض المفردات، مثل “الصراصير” في رواندا بدلاً من “الحيوانات البشرية” في غزة — في غالبية حالات الإبادة الجماعية التي رافقها إعلام منتشر وبروباغندا جعلتها ممكنة.

كل عملية إبادة حصلت في العصر الحديث رافقها إعلام وبروباغندا جعلتاها ممكنة. والحالة الإسرائيلية غالباً ستكون بارزة بين هذه النماذج لسببين: الأول تشعب الخريطة الإعلامية فلا توجد مؤسسة واحدة أو محطة واحدة أو “وزير بروباغندا” يتبناها كلها؛ والثاني أنه على الرغم من أن الإعلام في إسرائيل “مستقل” عن النخبة السياسية ونقدي تجاهها — ولم يتورع عن توجيه الانتقادات للحكومة — فإنه كان جزءاً من الآلة العسكرية التي نفذت الإبادة. هذه المميزات تجعل الإعلام الإسرائيلي نموذجاً فريداً: إعلاماً مأدلجاً وفاعلاً في المشروع الصهيوني وله مقولته الخاصة والمستقلة، لكن تحت سقف الإجماع على المبادئ العامة للمشروع والمرحلة التي تمر بها الدولة عموماً: اختلافات داخل سقف إجماع يقوم على إنكار الحقوق الجماعية والسياسية والقومية للفلسطينيين.

[1] تعدّ قضية مساهمة الإعلام في الإبادة الجماعية في رواندا من أبرز القضايا، ولمزيد عنها وعن دور الإعلام في الإبادة الجماعية، انظر:

Allan Thompson (ed.), The Media and the Rwanda Genocide. London: Pluto Press, 2007.

[2] للتوسع يمكن الاطلاع على استطلاع نقابة الإنترنت الإسرائيلية، متوفر على الرابط التالي (بالعبرية).

[3] لمزيد عن مراحل التحولات في الإعلام الإسرائيلي، انظر: “دليل إسرائيل العام 2020″، فصل “الصحافة والإعلام”، رئيس التحرير: منير فخر الدين (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2021).

[4] انظر “الإعلام الإسرائيلي تجنّد للحرب: استنتاجات بينية“، على الرابط التالي (بالعبرية).

[5] للتوسع، يمكن الاطلاع على الخبر في صحيفة “هآرتس”، متوفر على الرابط التالي (بالعبرية).

[6] انظر: “في القناة 14 يعرّفون جميع المدنيين على أنهم مخربون“، موقع “شاكوف”، على الرابط التالي (بالعبرية).

[7] لمزيد عن أداء الإعلام الإسرائيلي في موضوع التجاهل، انظر: ياغيل ليفي، “نزع الإنسانية عبر التجاهل“، موقع “هزمان هزيه”، على الرابط التالي (بالعبرية).

[8] حوّل الإعلام الإسرائيلي المركزي عدد الشهداء في قطاع غزة إلى قضية محل نقاش، فبعد إخفاء المأساة الإنسانية بات التشكيك في عدد القتلى تحصيلاً حاصلاً، ويمكن الاطلاع على هذا النقاش في إسرائيل من خلال قراءة عدد من المقالات التي تحاول إثبات عكس السائد في الإعلام، على سبيل المثال هذا المقال في “سيحا ميكوميت” (بالعبرية).

[9] يمكن الاطلاع على تقرير أوهاد حامو من جزأين، على الرابط التالي (بالعبرية).

[10] للاطلاع على التقرير (بالعبرية).

[11] للتوسع يمكن الاطلاع على تحليل بعنوان “هكذا قام عاميت سيغال بتحويل تساؤلات إلى حقائق في قضية المصورين في غزة“، صحيفة “هآرتس”، على الرابط التالي (بالعبرية).

[12] انظر الخبر (بالعبرية).

[13] انظر الخبر (بالعبرية).

[14] انظر استطلاع للرأي تحت عنوان “مؤشر الثقة لدى الإسرائيليين: المتحدث باسم الجيش في الأعلى، نتنياهو أسفل القائمة“، صحيفة “ماكور ريشون”، على الرابط التالي (بالعبرية).

1

عن المؤلف: رازي نابلسي: كاتب وباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

عن ورقة سياسات – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *