الإسرائيلي ينتقد دولته ومجتمعه… ونحن نتحسّر!

ثمة خلط لدى البعض بين نقد إسرائيليين سياسات دولتهم الداخلية، ونقد سياساتها تجاه الفلسطينيين، وهما أمران مختلفان، ما يظهر في عسر التمييز، أيضاً، بين المستويين: السياسي والأخلاقي، أو المصلحي والقيمي.

“طريق المقاومة هي الوحيدة المفتوحة أمام الفلسطينيين من أجل مصيرهم. الطريق لتذكير إسرائيل والدول العربية والعالم بوجودهم… إذا لم يستخدموا العنف سيتم نسيانهم”.

“ولد رعد حازم في مخيم جنين في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1993، في الذكرى السنوية لقرار الأمم المتحدة بإقامة دولتين في فلسطين. ولد على أمل اتفاقية أوسلو… ونشأ في فترة تدمير مخيم جنين… كان في التاسعة عندما اجتاحت الدبابات الإسرائيلية مخيمه للاجئين… وفيما كانت الجرافات تسوي وسط المخيم بالأرض، جلس رعد، على مقعد في شارع ديزنغوف الراقي في تل أبيب، ثم نهض وباشر بإطلاق النار على الأشخاص الذين كانوا جالسين بـ(انبساط) في حانة… قتل اليهود الثلاثة: تومر مراد طالب هندسة ميكانيكية، وإيتام ماجيني طالب علم الأعصاب، وبراك لوفان مدرب قوارب تجديف، وهم شباب مثله… يمكن أن نفترض أن حازم أراد أن يعيش حياة ضحاياه، هو لم يحصل على فرصة، ربما هو أيضاً يرغب في دراسة علم الأعصاب أو الهندسة أو تدريب التجديف، وبـ(ساعة انبساط)… لكنه وُلد في واقع يستحيل الهروب منه، إنه مسجون في مخيم للاجئين، هذه هي القصة كلها، لا شيء سواها”.

“17 قتيلاً فلسطينياً في أسبوعين… نشر عنهم جميعاً بأنهم مخربون… هي بوتشا صغيرة بدون حرب. عملية كبيرة دون أن تطلق عليها صفة إرهاب”.

تلك لم تكن فقرات لكاتب فلسطيني، أو لكاتب من محور المقاومة والممانعة، وإنما هي للكاتب والصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي، (نشرت في “هآرتس” أيام 31/3، و13/4 و19/4).

المغزى هنا أن نقد الإسرائيليين اليهود دولتهم ومجتمعهم، لا يقتصر على نقد نظام الحكم، أو مظاهر الفساد، أو الخيارات الاقتصادية والسياسية والخدمية، فتلك أمور طبيعية عندهم تبعاً لثقافتهم وطريقة إدارتهم أوضاعهم، وهذا عامل قوة وتميز لمصلحة دولتهم بالقياس إلى الأنظمة البالية التي تتحكم في العالم العربي، حيث كل تلك الأمور محرمة، أو باهظة الثمن. بيد أن الأهم، أن ذلك النقد يتجاوز كل ما سبق، فثمة إسرائيليون ينتقدون طريقة تعامل دولتهم أو جيشهم مع الفلسطينيين، وهم أعداؤهم، وبعض منهم يصل في نقده حد تقويض الرواية الإسرائيلية ذاتها، ونزع شرعيتها، بل إن بعضهم يصل حد شرعنة المقاومة الفلسطينية المسلحة، وهذا هو الأهم، وما يجب تمييزه أي ملاحظته.

في المقابل، عندنا، ثمة خلط لدى البعض بين نقد إسرائيليين سياسات دولتهم الداخلية، ونقد سياساتها تجاه الفلسطينيين، وهما أمران مختلفان، ما يظهر في عسر التمييز، أيضاً، بين المستويين: السياسي والأخلاقي، أو المصلحي والقيمي، وهو ما نشهده في طمس العلاقة بين الاستبداد والاحتلال، أو نبذ الجمع بين رفض الاثنين ومقاومتهما، وضمن ذلك تأتي ظواهر مثل استنكار تمرد الشعب السوري على نظامه، أو التنكر لمأساته أو مطالبه، بدعوى أن النظام مقاوم، أو السكوت عن مشاركة “حزب الله” في قتل السوريين بدعوى أنه حزب مقاومة. لذا وفي السياق ذاته، فمن البدهي أن من لا يرى مأساة الشعب السوري لن يرى مأساة الشعب الأوكراني، أيضاً، وسيقف مع الاحتلال الروسي لأوكرانيا، أو لأي جزء من الدول المحيطة لأن ذلك جزء من الصراع “الجيوستراتيجي”، عند هؤلاء، الذين يرون الدنيا صراعات سياسية، وجيوبولوتيكا، كأن لا شعوب في تلك الدول! أو كأنه لا توجد قيم إنسانية، فوق السياسة والمصالح، يفترض التمسك بها، كالحرية والكرامة والعدالة!

المعنى أن الأمر عندنا لا يتوقف عند نبذ التفكير النقدي، فقط، بدعوى أنه يجب ألا نجلد أنفسنا، أو بدعوى عدم نشر غسيلنا الوسخ، وهما حالتان تكرسان الواقع البائس السائد، وتغطيان أوجه الخلل والقصور، في انتهاج السياسات وتحديد الخيارات، وإنما يصل الأمر الى الانزياح عن القيم الأخلاقية، أو المبادئ الأولية (الإنسانية)، ذلك أن الأنظمة نجحت في تعميم العمى الأخلاقي، بتعميمها خصائصها في المجتمع، وضمنها ثقافة الاستبداد، والحرمان من الرأي، والافتقاد إلى التفكير النقدي، وضياع القيم.

هكذا، ثمة مجال في المجتمع الإسرائيلي لظهور شخصيات، خارج الإجماع العام الإسرائيلي، وتتحداه، مثل جدعون ليفي، وإيلان بابيه، وعميرة هس، وإبراهام بورغ، واسحق ليئور، وأمنون راز، وثمة منظمة “بتسيليم” اعتبرت إسرائيل دولة استعمارية، في نظام أبارثايد، وأن التمييز العنصري لا يقتصر على فلسطينيي الأراضي المحتلة (1967)، وإنما هو يشمل كل فلسطين التاريخية، أي يشمل الفلسطينيين في إسرائيل.

 في المقابل نفتقد في صراعاتنا “الأهلية”، إلى مثقفين أو كتاب، أو صحافيين، من الذين يقفون على ضفة هذا النظام أو ذاك (ولنأخذ الحالة السورية مثلاً)، ينتقدون النظام الذي يحابونه، برغم معرفتهم به كنظام استبدادي، حول البلد إلى مزرعة خاصة للعائلة الحاكمة، وبرغم القمع غير المسبوق الذي واجه به المطالبات الشعبية، وتشريده الملايين، للأسف لم نرى بما يكفي حالات كهذه تعتبر القيم الإنسانية، أي قيم الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، أعلى من أي صراع سياسي وأهم من أي نظام، ومن أي أيديولوجيا

يفيد أن ندرك أن تلك نقطة تميز، أو تفوق، أخرى لإسرائيل، الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والمصطنعة والمتوحشة، تتحمل مسؤوليتها تلك الأنظمة التي أوصلت مجتمعاتنا وثقافتنا السياسية إلى هذه الدرجة من الموات، إزاء إسرائيل، وإزاء العالم بأسره.

طبعا ربما أن إسرائيل بسبب شعورها بقوتها، أو طمأنينتها لأحوالها، بالقياس لأحوال العالم العربي، لا تزجر معارضيها، أو ناقديها، ولا تشهر بوجههم اتهامات بالية وسخيفة مثل: “وهن عزيمة الأمة”، أو إثارة نعرات من هذا الشكل أو ذاك، في حين إن وجود هذا النمط من الأنظمة هو الوهن بذاته. أيضاً، فإن ثقافة المجتمع الإسرائيلي، كامتداد للغرب، وحاجة إسرائيل لأقصى قدر من الإجماع الداخلي، وطبيعة نظامها السياسي، كدولة ديموقراطية نسبة لمواطنيها من اليهود، عوامل تعزز من تلك الاتجاهات، أو يسهل عليها.

مع ذلك فهذا لا يقلل من أهمية الشجاعة الأخلاقية التي يتمتع بها هؤلاء، لا سيما في مجتمع إسرائيلي ينزاح نحو اليمين، ونحو التطرف القومي والديني. وهذا إسرائيل شامير يقول: “إجرامنا تجاوز إجرام روسيا في الشيشان، وأفغانستان، وإجرام أميركا في فيتنام، وإجرام صربيا في البوسنة، وعنصريتنا – ضد الفلسطينيين- ليست أقل انتشاراُ من عنصرية الألمان”. (هآرتس 14/7/2011).

مؤلم أنه لا يوجد عندنا، في الضفاف المحابية للأنظمة، من يتحدث على هذا النحو، مع فارق غاية في الأهمية، يجب إدراكه، إذ هؤلاء يتحدثون عن الفلسطينيين، المعادين لدولتهم ومجتمعهم، وليس عن مظالم لمواطنيهم اليهود في إسرائيل؛ حقاً هذا واقع مؤلم جداً.

عن موقع درج

About The Author

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *