الإجماع الإسرائيلي المكرور حيال العمليات العسكرية ضد قطاع غزة
يمكن القول إن الجوّ العام السائد في إسرائيل في إثر الانتهاء من عملية “درع وسهم” العسكرية (9- 13 أيار 2023)، التي شنها الجيش الإسرائيلي ضد قطاع غزة واستهدفت بحسب السردية الإسرائيلية حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني، هو التباهي بتنفيذ عملية عسكرية ناجحة، تمكنت بواسطتها أيضاً من إشهار قدرات استخباراتية وعملانية باهرة، وهو ما تثبته حقيقة إلحاق ضرر كبير بالقيادة الميدانية للحركة المذكورة.
فيما عدا ذلك ثمة بين كل المحللين الإسرائيليين العسكريين والأمنيين والسياسيين، المحسوبين على الحكومة أو على المعارضة، إجماع على أنه لم يتغيّر أي شيء أساس خلال الأسبوع المنصرم تحت وطأة عملية عسكرية أخرى لن تكون الأخيرة، وهو إجماع مكرور بالنسبة إلى معظم العمليات العسكرية الشبيهة ضد قطاع غزة، ولا سيما منذ أواخر العام 2008.
وقد يكفي للاستدلال على هذا الإجماع قراءة الكلمات الصادرة عن المحلّل العسكري لصحيفة “يسرائيل هيوم“، يوآف ليمور، التي ورد فيها قوله: “إنّ مَن يثرثر في الجانب الإسرائيلي بشأن تغيير المعادلة (بين إسرائيل والقطاع) عليه أن يعود إلى البداية. فخلال الأعوام الثلاثة والنصف الماضية، هذه هي المرة الثالثة التي تكرّر فيها إسرائيل العملية عينها، ما يعني أن مفهوم انصياع حركة الجهاد الإسلامي إلى الردع قصير ويحتاج إلى تقوية دائمة. من دون أفق لحلّ أساس حيال مشكلة غزة (وحيال الموضوع الفلسطيني بصورة عامة)، ستستمر إسرائيل في إدارة الوضع إزاء غزة في هيئة معركة كل هدفها جولات قتالية قصيرة بقدر الممكن، بهدف الوصول إلى أطول فترة هدوء ممكنة بينهما. ويتعيّن على الحكومة الإسرائيلية أن تشرح منذ الآن هذه الحقيقة لسكان غلاف غزة، قبل أن ينهضوا بعد عدة أسابيع أو ربما أيام على صوت صافرات الإنذار المقبلة”.
وبالقدر ذاته يمكن قراءة تقييمات إسرائيلية أخرى من الصعب حصرها، وفي مقدمها تقييم “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب الذي كتب عدد من كبار باحثيه أنه ما دام هذا هو النموذج القائم (السعي لتقوية الردع الإسرائيلي المزعوم فحسب) سنبقى مع السيمفونية عينها، ويبقى الموسيقيون هم أنفسهم وقائد الأوركسترا نفسه، وستبقى كل جولة فصلاً آخر من سيمفونية لا نهاية لها.
أما الجانب الآخر الذي ينبغي أن نلتفت له عقب هذه العملية العسكرية الجديدة، فهو واقع وجود علاقة بين أغلب العمليات العسكرية والسياسة الإسرائيلية الداخلية، وهو ما تشير إليه بعض التحليلات الإسرائيلية وجلّها في صحيفة هآرتس المعارضة للحكومة. وبموجب هذه التحليلات هناك كثير من الأسباب السياسية الجيدة للقيام بهذه العملية في هذا التوقيت بالذات، وأبرزها تحسين وضع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في استطلاعات الرأي العام، وتحسين علاقته بوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وإزالة تهديد سقوط الحكومة، وتوحيد جماهير الشعب حول الوضع الأمني وتحويل الانتباه عن خطة الانقلاب القضائي، وإعطاء الطيارين في الاحتياط ما ينشغلون به غير الاحتجاج على الخطة المذكورة، وتحويل الانتباه عن تردّي الأوضاع الاقتصادية. وبحقّ أشارت الافتتاحية التي أنشأتها هآرتس من يوم 10 أيار 2023، إلى أنه فجأة ظهرت الحكومة اليمينية المتشددة بائسة من دون عضلات، بل أكثر ضعفاً من الحكومة التي سبقتها (حكومة بينيت- لبيد). ويبدو أن الذي سارع إلى فهم الضرر الخطِر الذي لحِق بصورة الحكومة، هو الوزير بن غفير الذي طالب ليس فقط بالمشاركة في الاستشارات الأمنية التي لم يُدعَ إليها، بل بالعمل بصورة عنيفة على تدمير مصطلح “احتواء”، وطالب بمهاجمة قادة التنظيمات “الإرهابية”. ولم يكتفِ بن غفير بالكلام الإنشائي والخطابات، بل قاطع جلسات الكنيست والحكومة، وبهذه الطريقة هدّد سلامة الائتلاف، وربما بسقوط الحكومة التي تقترب من موعد التصويت على الميزانية العامة.
وينبغي أن نشير هنا إلى أن المقارنة بين الحكومة الإسرائيلية الحالية والحكومة السابقة في هذا الشأن تحديداً استندت إلى أن هذه الأخيرة كانت مسؤولة خلال ولايتها القصيرة عن عملية “مطلع الفجر” العسكرية التي قام الجيش الإسرائيلي بشنّها ضد حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني في قطاع غزة واستمرت 55 ساعة (5- 7 آب 2022). ولم تخل تلك العملية من العلاقة مع السياسة الإسرائيلية الداخلية مثلما أشرنا في أكثر من مناسبة، بل تأثرت إلى حدّ كبير من واقع أن إسرائيل كانت ذاهبة في ذلك الوقت إلى انتخابات مبكرة أخرى، هي الخامسة خلال أقل من أربعة أعوام، وهذا ما أقرّت به عدة قراءات إسرائيلية أيضاً، أشارت إلى أن رئيس الحكومة السابقة (زعيم المعارضة الحالية) يائير لبيد أراد أن “يحصل على شهادة في إدارة المعارك العسكرية” وبالتالي فلا شيء منعه من أن يحوّل الجيش الإسرائيلي وجنوده إلى أوراق في لعبة انتخابية. وما زالت بعض ردات الفعل على أداء لبيد كـ “سيّد أمن” تتصادى إلى الوقت الحالي، ولعلّ أبرزها ردة الفعل التي ورد فيها: “لقد علّم بيبي (بنيامين نتنياهو) درساً لن ينساه؛ أن لبيد كذلك يعرف أن يقتل” الفلسطينيين!
عن المشهد الإسرائيلي -مدار المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية